أصدرت مجلة (تايم) –TIME- الأمريكية، عددها السنوي يوم 23 مارس الماضي. وكتب رئيس تحرير المجلة (ريتشارد ستنجل) افتتاحية لهذا العدد تحت عنوان (الإبحار في محيط العالم الجديد). وقد اختار عالم الاجتماع المصري الدكتور السيد يسين، عنوان افتتاحية العدد السنوي لمجلة (تايم)، عنواناً لمقاله الأسبوعي في (الأهرام)، معللاً ذلك بقوله إنه يشير بإيجاز شديد، إلى التحولات الكبرى التي ستحدث في العالم نتيجة للأزمة المالية العالمية. وقد وجدتني في أول الأمر، أميل إلى اقتباس هذا العنوان المثير لأضعه عنواناً لمقالي. ولكنني آثرت أن استخدم صياغة أخرى لعنوان مقالي هذا، لا تخرج عن مضمون عنوان افتتاحية مجلة (تايم) ذات الشهرة العالمية. وتضمن فلاف المجلة عنواناً رئيساً ينطوي على قدر كبير من الإثارة، هو : (عشرة أفكار تغير العالم الآن)، وتحته عنوان فرعي يقول (الاقتصاد الكوني تعاد صياغته أمام أعيننا). ولقد قرأت بتمعن وتدبر عميقين، مقال الدكتور السيد يسين الذي أعرفه شخصياً منذ أن زرته في مكتبه قبل أكثر من ربع قرن (في مطلع الثمانينيات) لما كان مديراً لمركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في جريدة (الأهرام)، فوجدت أن هذا المقال يستحق القراءة المتعددة، لما ورد فيه من أفكار عميقة وآراء سديدة وتحليلات للأوضاع في العالم تتسم بالموضوعية الصارمة. وذلك هو الطابع العام الذي تتميز به مقالات الكاتب المفكر السياسي التي أتابعها في (الأهرام) كل أسبوع، كما تتميز به كتبه الجادة الهادفة التي ينحو فيها هذا المنحى. يلخص لنا الدكتور السيد يسين افتتاحية العدد السنوي من مجلة (تايم)، تلخيصاً مركزاً وافياً، في عبارات ذات دلالة وعمق. يتوجه الكاتب الصحافي الأمريكي في مستهل الافتتاحية إلى قرائه بالقول : «لست في حاجة إلى أن أقول لكم إنَّ هذه أسوأ حالة اقتصادية تمر بها الولاياتالمتحدةالأمريكية منذ عهد الكساد الكبير، وهي لذلك لحظة صعبة تتسم بعدم اليقين، سواء بالنسبة لأمريكا أو بالنسبة للعالم». وبهذا الكلام الصريح شديد الشفافية، كما هو واضح، مهد الكاتب للقول : «لا أحسبني أقول لكم شيئاً لا تعرفونه حين أقرر أن عالمنا يتغير أمام أعيننا، وأن هناك عالماً جديداً يتخلق. فهذا هو واقعكم اليومي وواقعنا». ثم يخلص الكاتب إلى طرح أفكاره المثيرة للتأمل، ومنها ما ورد في قوله : «لابد من الاعتراف بأن الأعمال والمهن القديمة والتقليدية، وليست المضاربات على الأسهم أو على العقارات، هي ما ينبغي أن يعتمد عليه الاقتصاد». وهنا يعلق الدكتور السيد يسين بأن هذه الفكرة تتضمن نقداً لاذعاً لجنون الاقتصاد الافتراضي الذي استشرى في الولاياتالمتحدةالأمريكية وانتقلت عدواه إلى البلاد العربية، حيث اندفعت جماهير غفيرة من البشر للمضاربة في البورصة تاركة أعمالها التقليدية، ومتفرغة لمتابعة حركة الأسهم صعوداً وهبوطاً، والتي لا يسيطر على حركتها الإنتاج الحقيقي الواقعي، ولكن مؤامرات كبار المضاربين والتأثيرات الأجنبية التي لا علاقة لها بالاقتصادات الوطنية. ويدعو رئيس تحرير (تايم) إلى اكتشاف قيمة (العمل) القديمة، والعودة مرة أخرى لممارسة المهن التقليدية التي كادت حمى المضاربات المجنونة أن تنسيها للناس. ثم يخلص من دعوته هذه، إلى التأكيد على ضرورة ترشيد السلوك الاستهلاكي للجماهير، والتحرر من ضغوط وسائل الإعلام والدعاية التي تدفعهم دفعاً إلى حمى الاستهلاك المفرط الذي دمر ميزانيات الأسر ودفعها دفعاً إلى الافتراض. ويوصي إدارة الرئيس أوباما بتذكر شعارين شهيرين؛ الأول يقول : (لا تضيع أزمة جديدة أبداً)، بمعنى الاستفادة من الأزمة في تجديد المفاهيم السائدة والأساليب المطبقة سعياً وراء التغيير الإيجابي. والشعار الثاني يقول : (أحياناً الأزمة تعني فرصة جديدة، وأحياناً تظل مجرد أزمة). ويشرح عالم الاجتماع والمفكر المصري الدكتور السيد يسين مدلول هذين الشعارين بقوله : «إن من يتحلون بالروح الإيجابية، سيعتبرون الأزمة فرصة للتغيير من خلال سلوكهم الإيجابي وقدرتهم على المواجهة والتجديد، أما من يقبعون وراء أسوار التردد والخمول، فإن الأزمة بالنسبة لهم ستظل أزمة، مما سيزيد من تردي الأوضاع». وتنطوي افتتاحية (تايم) على ما يسميه الدكتور السيد يسين (التفكير الإبداعي لمواجهة الأزمة الاقتصادية العالمية) الذي يقترح له الكاتب الأميركي شعار (التجديد). ويعني بالتجديد (قوة الأفكار التي تستطيع أن تعيد الروح للأشياء والقيم التي تحطمت وتنفخ فيها روح الحياة من جديد، مما يؤدي إلى التغيير الجوهري للمشهد الاقتصادي والاجتماعي والثقافي الأمريكي). بل للمشهد السياسي والاقتصادي والثقافي والثقافي العالمي. وليس من شك في أن إعادة الروح للأشياء وللقيم الإنسانية، هي ما تتطلبه أوضاع العالم اليوم في ظلّ تغوّل الرأسمالية المعولمة المنفلتة التي أدت إلى هذه الأزمة الاقتصادية العالمية. وإعادة الروح للأشياء والقيم الإنسانية هي مهمة المفكرين ذوي العقول النيرة والضمائر الحية، الذين يقدرون مسؤولية الفكر وينهضون بواجبهم في إحداث (التغيير الجوهري)، أي التغيير السلمي الإيجابي القائم على أسس من التحليل العميق للأزمة والإدراك الرشيد لأسبابها والعوامل التي أدت إلى نشوئها. بعد قراءتي لمقال الدكتور السيد يسين، ووقعت مصادفة على المقال الذي نشرته (الشرق الأوسط) في (24/3/2009) للرئيس الأمريكي باراك أوباما، تحت عنوان : (حان وقت العمل العالمي). ومما جاء في هذا المقال : «إن علينا الاختيار بين رأسمالية فوضوية لا ترحم، واقتصاد مستبد تديره الحكومة. هذا خيار زائف لن يخدم شعبنا وأياً من الشعوب». وقال الرئيس الأمريكي أيضاً في مقاله : «هذا هو الوقت المناسب للعمل معاً من أجل استعادة النمو المستدام الذي يمكن أن يأتي فقط من أسواق مستقرة ومفتوحة تعزز الابتكار وتدعم العمل وتعطي دفعة للفرص». والواقع أن الإنسانية تقف اليوم أمام هذا الخيار الصعب، تتجاذبها ضغوط كثيرة وتيارات سياسية وفكرية عاصفة. ولاشك أن الرأسمالية المقيدة بالضوابط القانونية وبالدوافع الأخلاقية، والمحكومة بالرقابة وبالشفافية، هي الخيار المناسب، لأن البديل في هذه الحالة سيكون هو الأسوأ، أي الاقتصاد المستبد الذي تديره الحكومات، والذي يقهر إرادة المواطنين في أن يدبروا أمورهم بأنفسهم وفق اختياراتهم وطبقاً لمصالحهم، وأن يديروا اقتصادهم في إطار من الحرية في اتخاذ القرار والديمقراطية وحكم القانون، وفي ظل الحكامة الرشيدة. رياح التغيير تهب عواصفه من كل صوب. ويعيش العالم اليوم مرحلة غير مسبوقة، تتسم وكما قال رئيس تحرير مجلة (تايم) بعدم اليقين الذي من معانيه عدم معرفة المآل، والقلق، واضطراب الرؤية إلى المستقبل، وانعدام الأمان. وهو الأمر الذي يستدعي الحذر الشديد وتوقع الأسوأ، ووضع المخططات وتوفير الوسائل للتعامل معه بفكر جديد، وبمنهج جديد. والعقلاء الحكماء هم وحدهم الذين يبحثون عن مواقعهم في هذا العالم الجديد، حتى يركبوا سفينة الأمان في إبحارهم في محيطه الهادر.