تزامنَ امتِشاقي ريشةَ "المُلاَّ" وخَطِّيَ بالحِبر أحرفي وأرقامي الأولى في مدرسة الأخوَة المَريميِّين بجونية، دُرَّةِ الشَّاطئ اللُّبنانيّ، أقولُ، تزامنَ هذا الامتِشاقُ واستمرارَ لَهوي بين آلات الطِّباعة في دير الآباء البولُسيِّين بحَريصا، فاتيكانِ الشَّرق، ومطبعتِه، وبلدةِ الورود بحَسَبي، حيث امتلأت رِئَتاي برائحة ذلك الأسود، المُلَوَّنِ أحيانًا، أَعني تلك المادَّةَ السِّحريَّةَ الَّتي تَنقلُ الحرفَ من عالَم الفَرد والأحاديَّة إلى عالَم الجَماعة والتَّضعيف، بحيث تَغدو كلماتُك، وكلماتُ غيرك، في مُتَناوَل الجميع. *** وتمنَّيتُ، مُذ كنتُ في السَّابعة من العمر، لو تكونُ قُبلَتي الأولى للفتاة الَّتي أُحِبّ، ولو أضعُ يومًا كتابًا، "يكونُ كتابي"، وأوزِّعُه بالمَجَّان. ولَئِن لم تتحقَّقْ أمنيتي الأولى إذ جاءتِ القُبلَةُ المَرجُوَّةُ بعد طول انتِظارٍ على غَير ثَغر، فإنَّ مَسيرتي مع الحَرف وحِبره ما لبثَت أن رُسِمَت، فقُمتُ، في التَّاسعة أو العاشرة من العمر، وفي بلدة ريفون الكِسروانيَّة، بتحرير مجلَّتي العربيَّة الأولى، "مجلَّة الطُّلاَّب"، وتنظيمِها وطباعتِها على الآلة الكاتِبَة الوحيدة الَّتي في مُتَناوَل يدَيّ، وكانت بالحرف اللاَّتينيّ، فاكتشَفْتُ، عَرَضًا، ما أنشأهُ في ما بعدُ سعيد عقل، الشَّاعِر، باعتِماده الحرفَ اللاَّتينيَّ المُعَدَّلَ في كتابة لهجته المَحكِيَّة. وقد صدرَتِ "المجلَّةُ"، بالطَّبع، في عددٍ يتيمٍ ونسخةٍ واحدة... وَوُلِدَ الصِّحافيُّ فيَّ. ونَشرتُ، في الثَّانيةَ عشرة، وإنَّما بآلةٍ كاتِبَةٍ ذات أحرفٍ عربيَّةٍ هذه المرَّة، أوَّلَ أقصوصةٍ لي، وأتبعتُها بقصَّةٍ سينمائيَّة، ثمَّ بقصَّة بالفرنسيَّة لأحد الرِّفاق، وجاءَ ذلك في نسختَين اثنتَين للكتب الثَّلاثة... وَوُلِدَ الكاتِبُ والنَّاشِرُ فيَّ. وشهدَ عامُ 1979 قيامَ "دار نعمان للثَّقافة" وطباعةَ أوَّل مجموعة خواطر لي فيها بعنوان "خمس وعِشرون". وتَحقَّقَ، بتَوزيعي الكتابَ بالمَجَّان، حُلمُ الطُّفولة... وأُعلِنَتِ المَجَّانيَّةُ رسميًّا لديَّ. وإذ أنشأتُ، عامَ 1991، سلسلةَ "الثَّقافة بالمجَّان" لتَعميم نَشر الكتاب الأدبيِّ المجَّانيّ، فوجِئتُ بخسارة القليل ممَّا جمَعتُ بالجِدِّ والكَدِّ لدى انهِيار أحد المصارف الأجنبيَّة. لكنِّي استَمرَرتُ في مَسعاي، وإنْ تحت سيف المَديونيَّة المُصْلَت، وأصدرتُ مئاتِ الكُتُب المجَّانيَّة منذها، لمؤلِّفين من أربعة أصقاع العالَم كتبوا بعشرات اللُّغات. ولمَّا أدركَ الصِّحافيُّ الصَّديقُ اسكندر داغر مدى اللَّوْثَة الَّتي ابتُليتُ بها لصالِح الأدب والثَّقافة ومجَّانيَّتَيهما، أطلقَ عليَّ لقبَ "مجنون الثَّقافة بالمَجَّان"، فشكرتُ اللهَ على أنَّه أصابَني بتلك العِلَّة، لا بسواها من عِلَل العَصر وكلِّ عصر، من مِثل الحَسَد، وصِنوِه الكَذِب، وما إليهما من أمراض السَّعي للشُّهرة بأيِّ طريق، فيما لا شُهرةَ في المُطلَق. ومَضيتُ أزيدُ في جنوني جنونًا، ودائمًا من دون أيِّ مساعدةٍ رسميَّةٍ أو خاصَّة، وبالاستِدانة لفتراتٍ طويلة، فكانَت جوائزي الأدبيَّة المختلِفة، و"لقاءُ الأربعاء" (صالون أدبيّ وثقافيّ)، وأكشاكُ الكتُب المجَّانيَّة المَفتوحَة أمام العُموم، والمكتبةُ المجَّانيَّةُ المُتَخَصِّصَةُ بالأعمال الكاملة... إلى أنْ جَمَعتُ ما سبَق، وما قد يَلي من أعمالٍ ثقافيَّةٍ مجَّانيَّة في جمعيَّةٍ لا تبغي الرِّبح، رأتِ النُّورَ مؤخَّرًا، هي "مؤسَّسة ناجي نعمان للثَّقافة بالمَجَّان". ولِسائِلٍ جديدٍ عن الغاية من المَجَّانيَّة لديّ، أقولُ إنَّنا أُعطينا الحياةَ بالمَجَّان، أفلا نُعطي ما في فكرنا الآخَرَ، محبَّةً منَّا له؟ أم إنَّ الخَيرَ للخَير اندَثَرَ في عالَم المادَّة والأنانيَّة، حيثُ الجَشِعُ لم يَعُدْ يفهَمُ ما العطاء، والكاذِبُ ما الصِّدق، والحاسِدُ ما الغَيريَّة؟ إنَّ الثَّقافةَ، كما لَطالما ردَّدت، لا تُشرى ولا تُباع، وهي، إنْ كانَت مُنفَتِحَةً وحرَّةً، صَنَعَتِ السَّلام؛ وأمَّا أمَلي فأنْ تصيبَ المَجَّانيَّةُ البَشرَ بعَدواها، فتَنمو وتَنمو في ما بينهم لهَنائهم، جميعِهم. *** وكان والدي مِتري نعمان، رحمَه الله، من أشدِّ المُدافِعين عن لغة الضَّاد، وقد أصدرَ آخرَ كُتُبه، عامَ 1979، بعنوان "أنقذوني من أهلي"، بمعنى أنَّ اللُّغةَ العربيَّةَ تُنادي العَلِيَّ القديرَ أن يُنقِذَها من أهلها، أي من النَّاطِقين بها أنفسِهم. وهكذا، لمَّا استَتبَعتُ جوائزي الأدبيَّة المَفتوحة على جميع أنواع الأدب واللُّغات واللَّهجات، بجوائزَ أربع خصَّصتُها للكاتِبين بالعربيَّة، جعلتُ واحدةً منها، وهي باسم الوالد، "للدِّفاع عن اللُّغة العربيَّة وتطويرها"، تأكيدًا منِّي على أنَّ عربيَّتَنا في خطرٍ مُحدِق، وعلى أنَّنا نحن مَن يُمَثِّلُ ذاك الخَطَر. وقد نالَ الجائزةَ إلى الآن الفَقيهُ الدُّكتور ميشال كعدي، والشَّاعرُ السُّوريُّ رياض حلاَّق، والأديبُ جان كمَيد، والعلاَّمةُ العراقيُّ سُهيل قاشا. ولَطالَما حاولتُ إنعاشَ الضَّاد، لغتِنا الحبيبة، فاقترَحتُ مثلاً في مقدِّمة مجلَّد "المجموعات العِرقيَّة والمذهبيَّة في العالم العربيّ"، الصَّادرِ عامَ 1990، ومن ضمن الشُّروط الَّتي ارتأيتُها كَفيلَةً بتحقيق إقامة وَحدةٍ عربيَّةٍ ما، الشَّرطَ الآتي: "أن نؤمِنَ بالعربيَّة الفُصحى لغةً نرتَضيها لتجمعَ في ما بيننا، ونؤمِّنَ لها - بعد تحديثها وتبسيطها وتطويعها وتوحيد معانيها - مجالَ الانتِشار. ولا ضيرَ، في هذا السَّبيل، إنْ نحن لقَّنَّاها أولادَنا، وهم، بعدُ، طَرِيُّو العُود؛ فتَغدو الفصحى، بعد زمن، فصحى ومَحكيَّة في آنٍ واحد". نَعَم، علينا أن نعتمدَ العربيَّةَ أكثرَ فأكثر، وفي كلِّ شيء، لا لدَعم عَصَبيَّةٍ ما، بل لمُجَرَّد حبِّ حبيبٍ لحَبيبه. وأذهبُ في العقل أبعَد، وأقول: يجبُ دعمُ العربيَّة كيما يَتمكَّنَ نصفُ مليارٍ من العرب الاستِمرارَ في التَّواصُل في ما بينهم بعد ربع قرن، في ميادين الحياة كافَّةً، من أقاصي بلادهم إلى أقاصيها، وكيما يَفهمَ ثلاثُ ملياراتٍ من المُسلمين، في ذلك الوقت، كتابَهم الكريم بلغته الأصليَّة. ثمَّ، مَن قالَ أنْ لن تَقومَ للعُرب قيامةٌ ذات يوم؟ وفي ذلك اليوم، بأيِّ لغة، يا تُرى، سيتَخاطبون ويَكتبون ويَضعون المؤلَّفات في شتَّى الآداب والعلوم؟ "عَرَبيَّتي حبيبتي"، شعارٌ أقترحُه كيما نضعَ حجرَ الزَّاوِيَة في بُنيان مجتمعنا النَّهضويِّ العربيِّ المُعاصِرِ الَّذي إلى قِيام؛ فإنَّما الشَّعبُ "أرضٌ وشعبٌ ولغةٌ"... وحُرِّيَّات.