مقدمة لا بد منها إننا نرى بأن لضرورة الترجمة أحكاما، لا بد للمترجم من الوقوف عليها. ومن هذه الأحكام نقل النص المُتَرجَم بألفاظ تلائمه في اللغة المتَرْجَمِ إليها. ويجب والحالة هذه، انتقاء من بين جميع الألفاظ المشتركة في معنى معين، التي تطرح نفسها على المترجم، انتقاء اللفظ المناسب من حيث حمولة معناه. والمعنى الشاعري في هذه الأثناء، الذي يكون قد قصد إليه الشاعر، على سبيل المثال، يجب أن يظل محتفظا بروحه الشاعرية. لذا على المترجم أن يحاول، ما أمكنه ذلك، أن لا يقحم نفسه في فضاء الشاعر الشاعري، ويأتي بترجمته الشخصية، أو كما تصورها، هادفا لمعنى بعينه. بل الرجوع مبدئيا، وقبل إنجازه لأية ترجمة، إلى كل الوثائق الأدبية المتعلقة بالنص المعني، وترك المجال مفتوحا لقراءات متعددة عبر صياغة أسلوبية متقنة، تترك لقارئ حرية السفر، في الآفاق الشعرية اللا محدودة. وهذا ما حصل لنا في هذه الترجمة للشاعر "أرتور رامبو"، إذ اصطدمنا بنص شعري جد مشحون بالصور والدلالات الرمزية. وحاولنا أن نطلع على النصوص نفسها، التي قام بترجمتها بعض المهتمين بأدبيات "رامبو" الشعرية. وكانت حيرتنا كبيرة حين تبين لنا، بأن القراءات قد تعددت بتعدد الترجمات. وبأن أخطاء نحوية كما "فَهْمِيّة" للنص الفرنسي، قد وردت في بعضها. واتخذنا قرارنا، في نهاية المطاف، أن نكمل عملنا هذا، ونضيفه لأعمال الآخرين، حريصين كل الحرص، على إخراجها في ترجمة مدققة، وفية، ومراعية لكل ما سبق وذكرنا. لعل القارئ المهتم، يجد في مجموع كل هذه الترجمات المختلفة، فائدة جديدة، وإنارات جديدة قد لا تكون الترجمات السابقة، قد اهتدت إليها. وبهذه المناسبة، نقدم للقارئ الكريم، ترجمة لقصيدة، بالإمكان اعتبارهما من أشهر القصائد، ومن أجملها تعبيرا، على التجربة الشعرية لدى الشاعر "الرائي"، "أرتور رامبو". ونذكر بأننا ذيلنا القصيدة ببعض الملاحظات والمعلومات التي من شأنها أن تساعد القارئ على الإحاطة بالنص. أوفيلْيا -1- عَلى الصَّفْحَةِ السّاكِنَة والسَّوْداءْ، حَيْثُ تَرْقُدُ النُّجومْ، تَطْفو أوفيلْيا البَيْضاءْ، مِثْلَ زَنْبَقَةٍ كَبيرَة، تَطِفو بِكُلِّ هُدوءْ، مُسَجّاةً في أَشْرِعَتِها الطّويلَة... - وعِنْدَ "الغُوَيْباتِ" البعيدَة، نَسْمَعُ هَلاهِلْ. *** هاهِيَ ذي أَكْثَرَ مِن أَلفِ عام، وأوفيلْيا الحَزينَة، تَمُرّ، شَبَحًا أَبْيَض، على النّهْرِ الأَسْوَدِ المَديدْ. هاهِيَ ذي أَكْثَرَ مِن أَلْفِ عام، وجُنونُها اللّطيفْ، يُوَشْوِشُ حِكايَتَهُ، لِنَسيمِ المَساءْ. *** تُقَبّلُ الرّيحُ نَهْدَيْها، ومِثْلَ تُوَيْجاتٍ تَنْشُرُ أَشْرِعَتَها الكَبيرَة، المُهَدْهَدَةِ بِلُيونَةِ المِياه. ومُرْتَعِشاً على كَتِفَيْها، يَبْكي الصّفْصاف، وعلى جَبينِها الحالِم، تَنْحَني سُجودًا، أَشْجارُ القَصَبْ. *** يَتَأَوّهُ النَّيْلوفَرُ مداكاً، مِنْ حَوالَيْها، وتوقِظُ أَحْيانًا في شَجرِ الحورِ النّائمْ، عُشّا، مِنْ حَيْثُ تَفِرّ،ّ ارْتِعاشَةُ جَناحٍ، صَغيرَة: - غِناءٌ عَجيبْ، يَتساقَطُ مِن كَواكِب ذَهَبْ. -2- آه أوفيلْيا الشّاحِبَة ! جَميلَة مِثْلَ الثّلْج ! بَلى تَوَفّيْتِ طِفْلَة، بِنَهْرٍ مَحْمولَة ! - لأنّ الرّياحَ الساقِطَة، مِن مُرْتَفَعاتِ "النّرْويج" الكَبيرَة، قَد كَلّمِتْكِ بِكَلامٍ خافِت، عَن مَرارَةِ الحُرّيّة. *** ولأنّ نَفَسٌ، عاصٍرٌ لِجَديلَتِكِ الطّويلَة، إلى ذِهْنِكِ الحالِمْ، قد حَمَلَ ضَجّةً غَريبَة، كانَ قَلْبُكِ يَسْتَمِعُ إِلَيْها، في غِناءِ الطّبيعَة، في تَأَوّهاتِ الشّجَرَة، وزَفَراتِ اللّيالي. *** ولأنّ أَصْواتَ البِحارِ المَجنونَة، دَمْدَمَةٌ هائلَة، قد كَسَرتْْ نَهْدَكِ الطِّفْلُ، جِدّ إنْساني وجِدّ حَنونْ. ولأنّ ذاتَ صَباح أَبْريلْ، فارِسٌ جَميلٌ، شاحِبْ، مَجْنونٌ شَقِيّ، جَلَسَ أَخْرَسًا عِنْدَ رُكْبَتَيْك. *** سَماءٌ ! حُبٌّ ! حُرّيّةٌ ! يا لَهُ مِن حُلُمْ، أيّتُها الشّقِيّة المَجْنونَة ! وكُنْتِ تَذوبينَ فيه، كما الثّلْجُ في النّارْ، رُؤاكِ الكَبيرَة كانَتْ، تَخْنُقُ كَلامِكْ، - واللاّنِهايَة الرّهيبَة، بَهَرَتْ عَيْنُكِ الزّرْقاء. -3- - والشّاعِرُ يَقول بِأَنّكِ، عِنْدَ أَشِعّةِ النّجومْ، سَتَأْتينَ لَيْلاً بَحْثًا عَن الوُرودْ، التي قَطَفْتِها، وبِأَنّهُ قَد رَأى على صَفْحَةِ الماءْ، مُسَجّاةً في أَشْرِعَتِها الطّويلَة، أوفيلْيا البَيْضاءَ تَطْفو، مِثْلَ قُرُنْفُلَةٍ كَبيرَة.