مقدمة تركز دراستنا على عملين بارزين للشاعر المغربي الكبير محمد الخمار الكنوني ، وهما ( مرثية السور الغربي ) ، و( قراءة في شواهد القباب ) . إننا نتوخى من وراء هذه الدراسة تحديد النسق الشعري الذي يتأسس على كلمات مسبوكة تركيبيا ، ومحبوكة دلاليا ، إذ أن ضبطه يمثل إشارات دالة بالنسبة للمتلقي ، لأنه يساعده على معرفة طريقة الشاعر في بناء العملين ، وفهمهما ، وتفسيرهما بصورة جيدة . يهتم الناظم في هذين العملين بعمليات الربط التي تمد الجسور بين كل العناصر ، وتساهم في الفهم ، والتأويل . السبك التركيبي والحبك الدلالي عند الشاعر : إن علاقات الربط ، والسبك التركيبي syntactic cohesion بين عناصر الجمل الشعرية التي ينجزها محمد الخمار الكنوني هي التي تؤسس البنى النصية المتماسكة بالنسبة للقصيدتين المذكورتين ، حيث تظهر تبعية ، أو اعتماد العناصر على بعضها . يقول في قصيدة ( مرثية السور الغربي ) : 1 _ الأبواب يشرع السور أبوابه يلتقي في المدى عالمان يلتقي الحرف والنقش يسكن للوردة العنكبوت ويمتزج القوس والخط لا يبغيان ، لقد قضي الأمر واندحر المرجفون وهبت من السور رائحة الجير والخشب إن ضمير ( الهاء ) الموجود في الجملة الثانية ( أبوابه ) يحيل إلى ما قبله ؛ أي على كلمة ( السور ) الموجودة في الجملة الأولى . تمنح هذه الوظيفية الإحالية الجملتين المذكورتين ترابطا وشيجا ، مما يساعد المتلقي على فهمهما كلحمة مرصوصة لا تنفصم جوانبها ، ولا تتقطع أوصالها . تتنوع أنماط العلاقات الترابطية عند محمد الخمار الكنوني ، إذ تظهر جلية من خلال عدة أدوات نصية تشكل نسيج القصيدتين . إنها أدوات تربط بين الأقوال السابقة ، واللاحقة ، مثل (( الواو )) ، (( ثم )) ... يمكن تقسيم علاقات العطف ، والتبعية التي تخلقها بعض الأدوات المستعملة في القصيدتين إلى أربعة أقسام : 1 _ العطف الإشاري الجامع : الواو ، بالإضافة إلى ذلك ، كذلك ، علاوة على ... 2 _ المقابلة ، لكن ، إلا أن ، من جهة ، ومع ذلك ... 3 _ السببية : هكذا ، وكنتيجة لذلك ، لهذا السبب ، يترتب على ذلك... 4 _ الزمنية : ثم ، بعد ذلك ، بعد ساعة ، أخيرا ، في نهاية المطاف . تتنوع طرائق ارتباط ، أو تماسك هذه الأدوات النحوية بالجمل الشعرية ، وهو ما ينوع أيضا علاقات الترابط عند الناظم ، إذ أن الاستعمال المتكرر لحرف (( الواو )) في قصيدة ( مرثية السور الغربي ) يمكن أن يجعل منه عنصرا استبداليا شموليا بالنسبة لجل الأقسام الأربعة السالفة ، مع العلم أن العلاقات تبقى هي نفسها . يقول الشاعر في القصيدة عينها : 2 _ الحصار . كان ينسل بين العمارات يختفي ويظهر ، حتى إذا ما التوى جهة النهر في المنتأى حاصرته المزابل فامتد بين الصفيح ... وبين البروج التي هجرتها اللقالق كانت خيوط الفعال التي ينسج العابرون تحاصره في الفضاء الذي عاد أسود فاغبر ما شيدته الأوائل ... واندحر العنفوان تظهر في هذا القسم الثاني ( = الحصار ) من قصيدة ( مرثية السور الغربي ) عدة أدوات وعلاقات من الترابط ، والسبك ، والتسلسل المحكم ، والحبك للأحداث وتنسيقها : أ _ انسلال السور الغربي بين العمارات واختفاؤه وظهوره . ب _ التواؤه جهة النهر ومحاصرته من طرف المزابل . ج _ امتداده بين الصفيح والبروج التي هجرتها اللقالق . د _ تغير لونه واندحار عنفوانه . يتجلى هذا الترابط ، أو السبك التركيبي ، والتماسك بصورة صريحة من خلال استعمال (( الواو )) الرابطة بين الفعليين المضارعين ( يختفي ) ، ( ويظهر ) ، ( وبين البروج ) ، ( ... واندحر العنفوان ) . إنها تربط بين جمل سابقة ، وأخرى لاحقة ، وتخلق نصا متماسكا . نجد حرف (( الفاء )) الذي يقوم بالعمل نفسه ( حاصرته المزابل ، فامتد بين الصفيح ، تحاصره في الفضاء الذي عاد أسود ، فاغبر ما شيدته الأوائل ) . تحتوي (( حكاية السور الغربي )) على ترابط ، وسبك ، وتناسق ضمني يفهم بكل سهولة ، قبل أن يتم التفكير في استخدام الحرفين الرابطين ( الواو + الفاء )) ، لكنهما مع ذلك يشكلان (( دعامة النص الشعري )) وبنيانه المرصوص عند محمد الخمار الكنوني ( 1 ) . تقوم علاقات الترابط ، والسبك اللغوي الشعري بالنسبة للمقاطع المدروسة على عمليتي الوصل والفصل اللتين تتبلوران عن طريق : 1 _ الإحالة النصية co_ reference 2 _ الاستبدال substitution 3 _ الحذف elipsis 4 _ الترابط المعجمي lexical coordination تشيع الأدوات النحوية التي تخلق إحالات نصية داخل الإبداعات الشعرية المغربية والعربية ، إذ تظهر وظيفتها واضحة من خلال إحالتها على شيء آخر. تدفع هذه الأدوات المتلقي لشعر محمد الخمار الكنوني إلى البحث عن معانيها ووظائفها في الجمل أو المتواليات التي تسبقها . تخلق الإحالة النصية علاقات داخلية بين الجمل الشعرية ، مما يجعلها تلعب دورا مهما في الترابط ، أو السبك cohesion التركيبي المتماسك ، و الحبك coherence الدلالي المتناسق . تنقسم علاقات الإحالة الداخلية في بعض المقاطع الشعرية المحللة إلى قسمين : أ _ علاقات إحالة إلى القول السابق . ب _ علاقات إحالة إلى القول اللاحق . نعانق في قصيدة ( قراءة في شواهد القباب ) قوله : فما كان هنا وهناك باب ليجدي يضم هذا القول إحالة خارجية تتعلق بالسياق أو المقام ، حيث يبرز من طريقة استعمال الناظم لاسم الإشارة ( هناك ) . نصادف في القسم الثاني من القصيدة ( سورة تتلى من بعيد ) إحالة داخلية تعتمد على القول السابق ، حيث يتجلى ذلك عن طريق التجاذب النصي gravitation text ( 2 ) مع كتاب الله الكريم : (( يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم )) وقوله : اقرؤوا اقرؤوا أيها القارئون لنا ولهم واسألوا واسألوا في ذهول الدعاء لنا ولهم إن توظيف ضمير الغياب الخاص بجمع الذكور (( هم )) في كلمة (( أعمالهم )) يعود على السابق ؛ أي (( الناس )) ، كما يبرز هنا أيضا التسلسل الإحالي والحدثي الذي تجسده هذه الكلمة في الآية الكريمة لارتباطها بكلمة (( أعمالهم )). تتكرر العلاقة النصية بين عدة جمل وصيغ شعرية يستعملها الشاعر محمد الخمار الكنوني ، وذلك مهما تنوعت حالات الترابط الداخلي . نقرأ قوله في ( مرثية السور الغربي ) : كان ما بين دائرة السور والبحر سرب نوارس ، بينهما نجمتان إذا عسعس الليل ، بينهما الموج قد تتكرر بعض الصيغ أو الكلمات المعجمية ، فتصبح البنية نفسها هي المشكلة لجوهر العلاقة بين أجزاء النص الشعري ، مما يدفع المتلقي إلى البحث عن أنواع الاستبدال أو الحذف بالرجوع إلى الجملة السابقة في القطعة ، كما يظهر من خلال التغيير التالي : أ _ تكرار كلي للصيغة الشعرية : كان مابين دائرة السور والبحر ، سرب نوارس [ كان مابين دائرة السور والبحر ] نجمتان إذا عسعس الليل [ كان ما بين دائرة السور والبحر ] الموج ب _ تكرار جزئي للصيغة الشعرية : ويعود إلى الأسوار إلى الثقب الخطاف يطير غماما من ريش وزعيق يظهر التكرار الجزئي للصيغة الشعرية السابقة في قولنا المحول : ويعود إلى الأسوار وإلى الثقب [ الخطاف ] ويطير [ الخطاف ] غماما من ريش وزعيق ج _ استبدال كلمة شعرية بأخرى : لقد هبت ريح قيامتكم تتحدى الموت وعادت حيث نستبدل كلمة ( ريح ) بقولنا : لقد هبت [ نافخة ] قيامتكم تتحدى الموت وعادت د _ الإضمار لما يعود على كلمة سابقة : وبين البروج التي هجرت[ها ]اللقالق إن ضمير ( الهاء ) يعود على الكلمة السابقة ( البروج ) التي يجب ألا تتكرر هنا . قد يتم أحيانا في هذا المستوى استبدال كلمة معجمية شعرية ببعض الصيغ النحوية المعروفة أو حذف كلمات معينة اجتنابا للتكرار ( 3 ) . لذلك فعندما يصادف المتلقي لشعر محمد الخمار الكنوني بعض الاستبدالات أو أنواعا من الإضمار أو التكرار لبعض الكلمات والجمل ، فإنه يعود إلى الكلمات أو الجمل السابقة في القصيدة للبحث عن العبارة المناسبة للاستبدال أو الحذف . إن عمليات وعلاقات الترابط ، والسبك الموجودة في القصيدتين المدروستين تحقق نوعا من (( ترابط الشكل الشعري )) عند الناظم ، و(( ترابط الإحالات )) ، مما يخلق (( استمرارية المعنى المعجمي )) . يمكن أن نجد أنواعا أخرى من الترابط الداخلي في القصيدتين بالاعتماد على علاقات جديدة تتجاوز الإحالات النصية ، لكنها تستند في مجملها إلى العلاقات القائمة بين كلمات (( المعجم الشعري )) الذي يوظفه الشاعر ، مثل : 1 _ ارتباط الجزء بالكل : يظهر ذلك في عدة جمل شعرية ، كقوله : تاركا من ورائي لسان المدينة والناس . يتضح أن ( اللسان جزء مرتبط بكل الناس ) ، أو اعتبار ( الزهر ) نوعا من ( الشجر ) أو النبات القصير ، كما يظهر في أحد أقواله . 2 _ المجاورة والارتباط : نجد ذلك في قوله : أيام غدت في الدور بنات الغرب سبايا ... واحدة للغزل وواحدة للرضع وثالثة للوطء وتوفي عام قد اجتاز البوغاز رجال الغرب إلى مدن دكناء يبيعون الدم والعرق الفوار تتجلى المجاورة والارتباط في تعاقب ، وتسلسل الأيام بالنسبة لبنات الغرب السبايا وكذلك ارتباط فترات العام بالنسبة لرجال الغرب الذين عبروا البوغاز . 3 _ استبدال تركيب شعري بآخر : يمارس الشاعر هنا استعمال صيغ مكان آخر لكي يجتنب التكرار والتقرير السطحي في مجال القريض ، كقوله : وبين مشارف صحوي ونومي توهج صوت لنا ولهم أي : توهج صوت لهم كذلك ، وكذلك الحال بالنسبة لهم ، فكلمة ( لهم ) هي بديل لجملة ( توهج صوت ) . 4 _ الموازنة ( 4 ) ، حيث يقول محمد الخمار الكنوني في هذا النحو : وكان المنبت : أجدر ، أجمل ، أغنى ، أصفى أي أن الموازنة تبرز أحسن من الآتي من الغرب أو الوافد والدخيل . 5 _ تكرار النظام نفسه : يستعمله الناظم كثيرا ، كما يتجلى ذلك من خلال هذه النماذج المختارة : اسألوا واسألوا اقرؤوا واقرؤوا إن الأرض يا أهلي : موت في موت ، قبر في قبر 6 _ اتساق الزمن اللغوي : يبرز ذلك في تجاذبه النصي gravitation text وتضمينه لتراث قرآني كريم : (( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره )) 7 _ اختيار الأسلوب الخاص : نجد ذلك في قوله المتناغم : هذا مرقد زين الناس ، وجيه الناس ابن غريب الوجه ، ابن هجين الكلمات تظهر الموازنة بين الكلمات : زين / وجيه ، غريب / هجين . نجد أيضا أنماطا أخرى من الترابط ، والسبك في القصيدتين ( مرثية السور الغربي + قراءة في شواهد القباب ) ، كما يتضح في المقاطع التالية : أ _ في قصيدة ( مرثية السور الغربي ) : 3 _ حاجز يمنع الضوء والريح لو أن أمره كان لنا لأزلناه لامتد في كل منحنى سبيل فما كان باب هنا وهناك ليجدي ب _ في قصيدة ( قراءة في شواهد القباب ) : 4 _ ما أمكن سماعه مرورا بالحلقة هربا من يقيني إليكم أما قد هربتم إلي سنينا هنا أو هناك تتجلى حلقات متصلة ، وعروات وثقى من الإحالة النصية المشكلة للقصيدتين . نجد في القصيدة الأولى ( مرثية السور الغربي ) عدة جوانب بنائية مرصوصة : 1 _ الحاجز ( = السور الغربي ) يمنع الضوء والريح . أمر[ ه ] ليس لنا ؛ أي ليس لنا سلطة على الحاجز ( = السور ) ، كما يجسد ذلك ضمير ( الهاء ) ، ونجد الأمر عينه في الفعل المؤكد ( لأزلنا[ ه ] ) ، حيث يحدد ضمير ( الهاء ) العودة على الكلمة السابقة ( = الحاجز ) . 2 _ ( [ لا ] متد ) في كل مكان منحنى سبيل ، حيث يتم الربط عن طريق ( اللام ) المتصلة بالفعل ( امتد ) . 3 _ ( [ ف ] ما كان باب هنا وهناك [ ل ] يجدي أما في قصيدة ( قراءة في شواهد القباب ) فنجد : أ _ ( [ ما ] = الذي صلة وموصول ) أمكن سماعه مرورا [ ب ] الحلقة . ب _ هاربا [ من ] يقيني إلي[ كم ] تبرز لنا بعض الضمائر العائدة وحروف التوكيد والعطف والجر المنتشرة بين طيات النماذج السابقة مدى تنوع الإحالات والروابط النصية عند محمد الخمار الكنوني ، كما تتعدد الأدوات وصيغ العودة على الجمل السالفة واتساق الزمن اللغوي داخل القصيدتين ، وتتكرر بعض الكلمات وأنواع الجناس الصوتي والنفي ( فما كان ) . تلعب علامات الترقيم : ( ، ) و ( ...) و ( ! ) و ( : ) و ( ؟ ) و ( _ ) هي أيضا دورا مهما في بناء علاقات الربط والوصل بين الجمل الشعرية السابقة واللاحقة ، كما أنها تقوم بضبط وتجويد عملية التلقي الصوتي الوظيفي phonological الرائق والإخراج stagingالنصي الجميل لهذا القريض : 1 _ في قصيدة ( مرثية السور الغربي) : كان صوت المعاول يعلو ويخفت ، إنهم يفتحون هنا وهناك إلى جهة البحر بابا ********************** حاصرته المزابل فامتد بين الصفيح ... وبين البروج التي هجرتها اللقالق ************************ بين الغبار وبين الدخان ! ... وردتان 2 _ في قصيدة ( قراءة في شواهد القباب ) : بين الأوجه حتى نحذر ، نسأل : أين يكون شتاء ؟ *************************** يغازلني اليأس : ألا صعود ********************* قالوا من غضب أو كفر ، والميناء مناديل ، دمع ، ودعاء بلدي _ شرفي ديني _ عيشي والواضح أن أدوات العطف ( الواو + الفاء ) هي التي تتكرر ، وتسيطر من منظور الإحصاء المعجمي ( تكررت 20 مرة ) على علاقات الربط والوصل بين الجمل الشعرية التي يوظفها محمد الخمار الكنوني ، مما يجعل البنى النصية مرصوصة بإحكام . تطرح دراسة السبك التركيبي ، والحبك الدلالي عند شاعرنا عدة أسئلة جوهرية من منظور لسانيات النص : أ _ هل يتطلب النص الشعري عند محمد الخمار الكنوني كل هذه العلاقات من الترابط ، والوصل من خلال استعمال الأدوات المذكورة لكي يصبح نصا فعليا في مجال الإبداع ، والنقد الشعريين بالمغرب ؟ ب _ هل تعد المعايير التي ذكرناها كافية من منظور لسانيات النص لخلق ترابطات منطقية نصية بين ثنايا القصيدتين المدروستين ؟ ج _ ما أهمية عمليات السبك التركيبي والحبك الدلالي في تحديد سمات (( النص الشعري )) عند الناظم ؟ إن علاقات الترابط النصي الشعري المؤلفة لنسيج العملين المحللين تخضع للسياقات ، والمقامات الموظفة ، وهي علاقات معنوية جوهرية تبنيها الأدوات المذكورة ، مما يجعلها تحمل في كنفها التحديد الدقيق لمقومات (( النص الشعري )) التي تميزه عن غيره عند محمد الخمار الكنوني . تتجلى علاقات أدوات العطف الرابطة بين الجمل الشعرية قوية وواضحة عند الناظم ، مما يمنح النص الشعري سماته الخاصة . يتم هذا العمل بواسطة وحدات لغوية تتجلى من خلال الجمل الظاهرة ( = الجمل السطحية ) وبعض العلاقات المعنوية الضمنية ( 5 ) . يقول الشاعر محمد الخمار الكنوني في قصيدة ( مرثية السور الغربي ) : إنهم يفتحون هنا وهناك إلى جهة البحر بابا ******************** فما كان باب هنا وهناك ليجدي لارتفعت عن مدانا سجوف ونقرأ في قصيدة ( قراءة في شواهد القباب ) : ها انتم تحت الأرض البعث أو ميلاد آخر من هذا الرحم الأرضي ******************************* هذا مرقد زين الناس ، وجيه الناس ابن غريب الوجه ، ابن هجين الكلمات لا تظهر العلاقات المعنوية المحبوكة واضحة بين الجمل الشعرية لأول وهلة ، لكن المتلقي يفترض بشكل طبيعي تعاقبها وتواليها داخل النص الشعري ، فيظهر فهمه عن طريق ربط الجملة الأولى بالثانية ، مما يفرض وجود علاقات معنوية مضمرة تجعله يقوم بربط الحلقة المفقودةMissing link . يتحقق النص الشعري عند محمد الخمار الكنوني على مستوى السطح ، من خلال بعض العلاقات المعنوية ومجموعة من أدوات العطف والروابط والضمائر العائدة . لا يستطيع ترابط أدوات العطف تحقيق سمات فعلية مكتملة بالنسبة للنص الشعري عند محمد الخمار الكنوني ؛ لأنه لا يخلق الترابط المنطقي . يقول الشاعر : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره اقرؤوا واقرؤوا أيها القارون لنا ولهم اسألوا واسألوا في ذهول الدعاء لنا ولهم *************************** زمن الحرف المجروح ولغو الحانة والمقهى زمن التلقيح ، ونقد الذات وسب الآباء يظهر (( شبه )) ترابط بين الجمل الشعرية السابقة نظرا لوجود تجانس ظاهري بين (( فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره )) ، (( ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره )) وكذلك (( زمن الحرف )) و(( زمن التلقيح )) ، رغم عدم تكوين هذه السطور لنص شعري محبوك ، أو منسجم منطقيا ، لكن المتلقي يحاول إقامة الروابط بين هذه الجمل من خلال قراءته للجمل المتلاصقة التي تحوي علاقات التجانس أو التكرار لبعض الكلمات والأقوال . الإحالة الشعرية الداخلية : يدفع هذا النوع من الإحالة المتلقي للقصيدتين ( مرثية السور الغربي + قراءة في شواهد القباب ) إلى البحث داخل النص عن الموضوع المحال عليه ، حيث يكتشف سلسلة من الإحالات المعتمدة على الحذف والإضمار والاستبدال لكلمة معجمية بأخرى . لذلك فإن المتلقي يتوغل داخل القصيدتين لمعرفة الإحالات اللاحقة على ( السور ، القباب ) ليصل في النهاية إلى الجملة الشعرية الأولى ؛ ذات السلطة المهيمنة التي تساعده على تجاوز حدود النص الشعري عند محمد الخمار الكنوني ، وربط قراءته بالعالم الحقيقي ( 6 ) . تؤدي كثرة استعمال الضمائر العائدة أو ضمائر الغياب ( هو ، هي ، هما ، هم ، هن ) إلى خلق (( إحالات طبقية )) تعانق القول الشعري السابق ، فقد ترد بعد كلمتي ( السور ) و ( القباب ) أو مرادفاتهما ورموزهما المضمرة والمكتنزة داخل القصيدتين مجموعة من الضمائر العائدة عليهما ، ولا يمكن أن يتم الفهم الجيد للقصيدتين إلا بالعودة لهاتين الكلمتين الأصليتين أو لما يضارعهما أو يشير إليهما . تساعد هذه العودة على خلق ترابط داخلي بالنسبة للنص الشعري عند الناظم ، كما أنها تنسج (( شبكة الإحالة الداخلية بدورتها الكاملة )) ، حيث تؤدي إلى ربط أقوال القريض اللاحقة بالسابقة ضمن سلسلة متواصلة (( العروات الإحالية )) تعانق الإحالة الأولى المتعلقة ( بالسور الغربي ) أو ( شواهد القباب ) تستند الإحالة الداخلية المساهمة في بناء النص إلى عملية الاستبدال ، كما يظهر ذلك في قصيدة ( مرثية السور الغربي ) : كان ما بين دائرة السور والبحر سرب نوارس بينهما نجمتان إذا عسعس الليل بينهما الموج يحيل ضمير ( الهاء ) الموجود في الجملة الثانية ( بينهما ) على القول المثنى الموجود في الجملة الأولى ، وهو ( السور والبحر ) ، مما يضطرنا للرجوع إلى الوراء لربط الأقوال اللاحقة بالسابقة ، حيث تلتحم كلها ( بالسور الغربي ) ومرادفاته أو رموزه المتنوعة لتكوين مضمون النص الشعري بأكمله ، وليس مجرد مجموعة من المرجعيات والإحالات . والظاهر أن الإحالة الشعرية الداخلية في الجملة الثانية تتعلق هنا ( بالسور والبحر ) ، لكن لابد للمتلقي من فهم صورة دائرة هذا ( السور والبحر ) التي تتغير ، فهي تبدو في الجملة الأولى متداخلة الخطوط يخترقها سرب من طيور النورس الجميلة ونجمتان بارزتان ، وفي الجملة الثانية يتجلى المشهد ساحرا تحت جنح الظلام الدامس المنتشر ، حيث يتغير الوصف والصورة . لذلك فإن عودة المتلقي إلى الأقوال السابقة قد تفشل في فهم النص الشعري نظرا لتغير الأوصاف والصور بسرعة ، خاصة بالنسبة للجمل أو المتواليات الخطابية الطويلة . تتجلى صعوبة الإحالة الداخلية نظرا لعدم وضوح العلاقة بين المسند والمسند إليه واختلاف الصفات والتوابع المتنوعة بين الأقوال والمتواليات اللاحقة والسابقة . يتطلب هذا الموضوع وجود نموذج معين لعملية الفهم ، مما يساعد على خلق سيل من السمات المرتبطة بالأشياء المتغيرة داخل مسار الخطاب الشعري . يتم الاستبدال بين الكلمات المعجمية عند محمد الخمار الكنوني بالاعتماد على عملية التكافؤ والتساوي بين وظائفها التركيبية والدلالية ، مما يجعل خطابه الشعري يقوم على نموذج لساني مرصوص العلاقات والوظائف التي تجعله مؤهلا لاستضافة مختلف الروابط والتوابع المشكلة لنصوصه ، كما أنها تؤسس جسرا متينا بين الإحالات الداخلية والخارجية . يستعمل الشاعر / المتكلم في القصيدتين ( مرثية السور الغربي + قراءة في شواهد القباب ) عدة موارد لغوية لبلورة علاقات الترابط بين الأقوال ، لكن هذا الأمر يطرح بعض الأسئلة : أ _ هل يملك المتلقي فكرة واضحة عن عمل الشاعر محمد الخمار الكنوني على مستوى السبك التركيبي والحبك الدلالي ؟ ب _ هل تعد علاقات الترابط الموجودة داخل القصيدتين مكتملة ؟ ج _ كيف يمكن للمتلقي معايشة هذا الخطاب الشعري لحظة إنجازه ؟ د _ ما هي الأسس والقواعد التي يعتمد عليها المتلقي لفهم المسمى الذي يقصده الشاعر محمد الخمار الكنوني ؟ ه _ ما صيغ الأقوال والمتواليات الشعرية المحيلة ؟ تعانق الإحالة الشعرية الداخلية الأقوال والمتواليات الخطابية المرتبطة بأجزاء متنوعة في القصيدتين المحللتين ، حيث تلعب الضمائر العائدة دور الريادة . يتوقف نجاح هذه الإحالة على مستوى فهم المتلقي للمسمى الذي يقصده الشاعر عن طريق الكلمة المحيلة ، مما يجعله يستوعب بدقة (( رسالة القريض )) الموجه إليه . إن فهم المتلقي للمسمى الذي يقصده الشاعر / المتكلم يلعب دورا مهما في تحليل الأقوال والمتواليات الخطابية المحيلة بمختلف صيغها . يعتمد هذا الفهم على (( الوظيفة الإحالية )) للجمل التي تركز على قصد الشاعر / المتكلم بالاعتماد على سياقات ومقامات معينة . يقوم إنتاج الشاعر محمد الخمار الكنوني لقصيدة ( مرثية السور الغربي ) و قصيدة ( قراءة في شواهد القباب ) على تصوره الخاص لبعض الحالات الموجودة في العالم ، كما أن المتلقي لهذين العملين يبني تصورا خاصا عنهما بالاعتماد على الحالات التي يعرضها عليه الشاعر ، مما يخلق اتصالا خطابيا بين الطرفين ، لكن التفاعل بينهما يبقى تجريديا ويشيع عدم التكافؤ الفطري بين تصور الاثنين ( = وجود فرق بين نموذج الشاعر ونموذج المتلقي ) . والحقيقة أن المتلقي يملك تصورا جزئيا وناقصا عن تصور الشاعر / المتكلم ، وهو عبارة عن انعكاس ضئيل للحقائق الموجودة في العالم . لذلك فإن المتلقي يفهم ما يصله من الشعر المغربي بناء على تصوره ومعرفته عن العالم . يوظف الناظم في القصيدتين المحللتين أقوالا شعرية تعتمد على تصوره الذي يحيل على شيء معين ، يجعله يهتم بالسمات المرتبطة بتصور المتلقي لكي يفهم المسمى المقصود . لذلك يفترض توفر تجربة مشتركة عند الطرفين بالنسبة للعالم والتقاليد الثقافية والوعي بالسياق وطرائق الاتصال . يستعمل الشاعر بعض الكلمات المعجمية النكرة مثل : باب ، حاجز ، سبيل نافذة ، شيء ، بكائية ، دمع ، سلام ، غمام ، شتاء ، ريح ، وقت ، موتى ، ذرة ، خير ، صعود ، هتاف ، عام ، مرقد ، أرقام ، صفوف ، بصر ، بصيرة ، سبايا ، مدن ، غضب ، مناديل ، دعاء ... لعرض كيانات جديدة مفيدة تساهم في بناء الخطاب الشعري المغربي المعاصر ، إذ أنه يرمي من ورائها إلى إثارة انتباه المتلقي إلى وجود كائن مفرد يحيل عليه القول الشعري الموظف ، ويجعله قادرا على فهم الشيء المشار إليه دون أي إبهام . يصعب استعمال الكلمات المعجمية الشعرية النكرة للإحالة لأنها تخلق غموضا سياقيا ، مما يفرض في هذا المستوى توظيف أسماء إشارة وظروف مكانية تحقق القصد المطلوب . يقول الشاعر في قصيدة ( مرثية السور الغربي ) : إنهم يفتحون هنا وهناك إلى جهة البحر بابا ***************** فما كان باب هنا وهناك ليجدي أما قصيدة ( قراءة في شواهد القباب ) فنجد فيها : أما قد هربتم إلى سنينا هنا وهناك ************************ ها أنتم تحت الأرض ************************* ألبعث أو ميلاد آخر من هذا الرحم الأرضي لقد ركزنا في هذه الدراسة المتعلقة بالحبك التركيبي والسبك الدلالي عند محمد الخمار الكنوني على الضمائر العائدة والإحالات الداخلية المنتشرة بين ثنايا القصيدتين المحللتين ، كما أننا قد تعاملنا بالدرجة الأولى مع هذا الموضوع من وجهة نظر الشاعر / المتكلم والمتلقي. يساعد فهم طريقة عمل الضمائر العائدة وضمائر الغياب المستترة على فهم طبيعة الإحالة الداخلية وعملية الإضمار والاستبدال لبعض الكلمات السابقة واللاحقة . تعتمد دقة عمل الضمائر والإحالات على مستوى فهم واستنتاج المتلقي لكل ما يتعلق بالكلمات السابقة واللاحقة المساهمة في بناء القول الشعري المعني . يقوم الشاعر بصياغة (( رسالته )) عن طريق ربط المعلومات والمعارف الجديدة بالضمائر العائدة بغية منح المتلقي طريقة لفهم جديد ، لكن هذا الأخير قد يعكس طريقة خاصة لتحديد ماهية المرجع ويصبح أكثر ثقة على معلومتا ومعارف الشاعر يمكن فهمها دون أي غموض . إن تأويل مرجعية الضمائر التي يستعملها الشاعر محمد الخمار الكنوني يرتكز على نوعية المسند والمسند إليه ، كما أن المتلقي قد يتنبأ بنتيجة الضمائر الموجودة بين طيات بعض الأقوال الشعرية ، لكن الكيانات التي تحيل عليها تكون محدودة . والحقيقة أن تصور الشاعر ، وتصور متلقيه للخطاب الشعري ليس متطابقين تطابقا تاما ، مما يجعل المتلقي يخلق تأويلا محددا للمرجع المعني تبعا لأقوال الشاعر . لذلك يصعب تصور نوع الحجج التي يقدمها الشاعر محمد الخمار الكنوني لبيان قصده . يوظف الشاعر الإحالة الداخلية للوصول إلى (( جوهر موضوع الخطاب )) الذي يتم إنجازه في ظروف طبيعية ، مما سيؤدي إلى تفعيل البحوث اللسانية الخاصة بالتماسك التركيبي والدلالي في مجال القريض المغربي ، ويقدم طرحا رائدا لفهم وظيفة الضمائر في عمل النظم الموزون ( 7 ) . والخلاصة أن القصيدتين المدروستين تتوفران على عدة (( وظائف شعرية )) تنبع من دوافع مهمة ، حيث نجد في قصيدة ( مرثية السور الغربي ) : 1 _ انفتاح السور على عالمين مختلفين . 2 _ فتح باب جهة البحر في السور خلق عملا وحركة دائمة . 3 _ صورة للمناظر المنتشرة بين دائرة السور والبحر . 4 _ حصار المزابل للسور يغير امتداده بين الصفيح والبروج المهجورة . 5 _ الحاجز يمنع الضوء والريح . كما أن قصيدة ( قراءة في شواهد القباب ) تحمل هي أيضا (( وظائف شعرية )) رائقة : 1 _ بكائية عميقة على الموتى والموجودات في المحيط . 2 _ السؤال عن غياب طائر الخطاف في الشتاء . 3 _ الريح المتحدية للموت واندحار الأصوات ورمزها العميق . 4 _ سلام للعشب والنهر اليابسين ودلالة أيام العمر العجاف . 5 _ تلاوة القرآن للرحمة والدعاء وثقافة صلابة العقيدة محليا . 6 _ السكون واليأس يهاجمان نفس المتكلم ، فتتبعثر أوراقه وخططه. 7 _ الاندحار والخوف يعيثان في الربوع فسادا . 8 _ حوار مع القهر المتسلط المتبجح . 9 _ بيان لضعف الإنسان ومآله الهالك . 10 _ مصيبة عام الجراد والجوع وهوية الناس المستضعفين في الأرض . 11 _ إصابة الناس بالجدري والرمد واختلال الأنفس والمعايير . 12 _ السبايا من بنات الغرب وفعالهن . 13 _ عبور رجال للبوغاز يغير بعض أحوال البلاد والعباد . 14 _ علاقة البلد والشرف والدين والعيش بفلسفة المتكلم . 15 _ ظهور الحرف الجريح وكثرة اللغو والتلقيح والمحاسبة وهجاء النسل للأنساب والقيافة . 16 _ المشهد الثقافي المحلي يقدم صورا للاتصالات المتنوعة . 17 _ صدى حكايات الناس والمدينة وأثرها في الورى . 18 _ تجليات أعمال الفاعلين والنائمين والشاربين ورموزها في المحيط . 19 _ هموم وعذاب نفس المتكلم من خلال المثبطات المحيطة . 20 _ الانطلاق من البداية وتنوع المشاعر والخطط . 21 _ فلسفة الفناء في الأرض والطبيعة وأثر في النفس .