الحالة الفكرية في الديار الشامية والمؤثرات الإسلامية الثقافية والطبية إن إقامة الصليبين لفترة تقارب مئتي سنة في بلاد الشام، أدت إلى التبادل الثقافي مع المسلمين، والإستفادة كثيرا من الطب العربي المعمول به في المنطقه، وبالتالي فإن طبيعة الإتصال البشري أدت إلى تعرف الافرنج إلى علوم العرب وتعرف العرب إلى العادات والتقاليد الطبية عند الافرنج؛ أما فيما يختص بالمؤثرات الثقافية، فقد بدأ الافرنج يتعلمون اللغه العربية ويستخدمونها احيانا في علاقاتهم مع الامارات الإسلامية المحيطه بهم. كما أن المسلمين تعلموا اللغات الافرنجية سواء الفرنسية أو الالمانية أو الإيطالية بدليل أن الاصفهاني استخدم في كتابه الفتح القسي في الفتح القدسي بعض العبارات الأجنبية ومنها تركبولي، وسرجندى، وباروني واسيتارى وفريدى كما استخدم في صفحات أخرى عباره براكيس وهي مأخوذة من الكلمة الإيطاليه Barcoso وتعني السفينة الحربية1. وأيضا اسامة بن منفذ في كتابه الإعتبار عندما تحدث عن صاحب طرابلس وعن جنده استخدم كلمه تركبول (Turcopole) وهم جند في خدمة الافرنج أبائهم من العرب أو الاتراك وأمهاتهم من اليونان أو العكس؛ وأيضا استخدم عبارة بورجوازي (Bourgeoisi) فعندما حاولت إحدى النساء إتهام أسامة بقتل أخيها، فما كان من أحد الفرنج إلا أن دافع عن اسامة وقال للمرأة «هذا رجل برجاسي لا يقتل ولا يحضر القتال» واستخدم عده تعابير يونانية منها «سقلاطون» وتعني الثياب الكتانية الموشاه وكلمة «قنطارية» وتعني الرمح وكلمة «زربول» وتعني الحذاء2. كما أن الملك الظاهر بيبرس (658-676ه،1260-1277م)استخدم تعابير أجنبية لاتينيه في رسائله، ونما رساله إلى بوهمند السادس أمير انطاكية وطرابلس سنه (667ه-1269م) ومن التعابير التىاستخدما في رسالته (كندا سطبل) وهو لفظ لاتيني معناه حاكم القلعة، يقول «وفي حال النزول خرجت عساكرك للمبارزة فكسروا، وتناصروا فما نصروا، وأسر من بينهم ككندا سطبل» كما استخدم لفظ «المرشان» وهو لفظ لاتيني أيضا ويعني الحفلات، كما استخدم اللفظ اللاتيني «القسطلان» ويعني حارس القصر وذلك في قوله «ففي بعض ساعة مر شان المرشان، ودخل الراهب والرهبان ولأن للبلاد القسطلان، وجائهم الموت من كل مكان3. وقد أشار ابن جبير إلى استخدام الافرنج ومعرفتهم للغه العربية، عندما تحدث عن موظفي الديوان (الجمرك) في عكا فقال عن خان عكا التجاري ومصاطبه» فيها كتاب الديوان من النصارى وهم يكتبون بالعربية ويتكلمون بها بالإضافة إلى أن المولدين وسادة الاقطاعات قد اتقنوا اللغة العربية4. في الحقيقة فإن عصر الحروب الصليبية قد أنجب أيضا نخبة من المؤرخين المعاصرين لهذه الحروب سواء من الشرقيين أو الغربيين، ويمثل كل منهم وجهة نظره في تلك الحروب وقد تركوا لنا تراثا فكريا فيها وسجلا وملامح من التاريخ الإجتماعي والإقتصادي والعلمي والسياسي والعسكري. فمن بين المؤرخين الإفرنج «فوسيه دوشاتر (F.de Chartres) صاحب كتاب (HistoraHierosdimitara) الذي وصف فيه تاريخ مملكة القدس إلى سنة 1157 م/584ه وكذلك فقد ترك أحد المؤرخين الفرنسيين تاريخا عن الحروب الصليبية وهو يعرف بإسم النورماندي ومنهم أيضا غليوم، وليم الصوري، وله «تاريخ فيما وراء البحار» (Historia Transmarina) وهو (33) مجلد تنأول فيه الأحداث إلى سنة 1183 م وقد اصبح هذا الكتاب بعد ترجمته إلى الفرنسية أهم مرجع لتأريخ الحروب الصليبية5. كما افرزت الحروب الصليبية عددا من المؤرخين الشرقيين ومنهم على سبيل المثال أسامة بن منقذ، أبن جبير، ابن الأثير، ابن شداد وأبن واصل، ابن عساكر، ابو شامة القلقشندي، والمقريزي وسواهم، وقد عكف المؤرخون الأوروبيون في العصر الحديث على جمع المواد الوقيرة من هذه الكتب الغربية والشرقية، وذلك في موسوعة علمية تحت عنوان «مجموعة مؤرخي الحروب الصليبية»6. تاثرت أوروبا بالعلوم الرياضية السائدة في الشرق ويقول أرنست باركر أنه بالرغم من أن أقوى ما تاثرت به أوروبا انما جاء من المسلمين باسبانيا غير انها تاثرت أيضا بما جاء من المسلمين في الشرق، وان أول عالم مسيحي في الجبر هو ليوناردو فيبوناتشي (Leonardo Fibonacci) الذي ارتحل إلى بلاد الشام (سوريا) ومصر، بدا في دراسة اللغات الشرقية، لإرتباطها بالبعثات التبشيرية في الشرق كما كان الميشر الدؤوب ريموندس (Raymundus) حث مجمع فينا سنة 1311 م على اتخاذ قرار بإنشاء ست مدارس للغات الشرقية في أوروبا7. وبالإضافة إلى هذه المؤثرات العلمية هناك المؤثرات الأدبية، إذ توافر الكثير من القصائد الجديدة التي عالجت الحروب الصليبية، إما عن طريق الرواية كالتي اشتهرت بها قصيدة امبرأوز (Ambroise) التي تدور حول تأريخ الحملة الصليبية الثالثة، واما في روح شاعرية حرة، كالتي انبعثت من قصيدة انطاكية8. وشهدت فترة الحروب الصليبية تنوعا في المدارس في الإمارات الإسلامية ومنها مدارس تدرسي الفقه الإسلامي، تخصص معظمها في التدريس فقه مذهب واحد من المذاهب الأربعة الشافعي، والمالكي، الحنفي، الحنبلي، وكانت اكثر المدارس في بلاد الشام للحنفية ثم الشافعية ثم الحنابلة، فالمالكية، وانشئت في دمشق وحلب كما في القاهرة ودارس خاصة بالطب9. كما كان الطب يدرس إلى جانب مواد اخرى في بعض المدارس، ومن هذه المدارس «المدرسة النووية» التي أنشاها الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي سنة 563 ه، وقد زار هذه المدرسة ابن جبير بعد عودته من الحج، وقد اعجب بفخامتها وبكثرة المدارس في دمشق، ومما قاله «وبهذه البلدة نحو عشرين مدرسة، ومن احسن مدارس الدنيا منظرا» مدرسة نور الدين رحمه الله وبها قبره نوره الله، وهي قصر من القصور الأنيقة ينصب فيها الماء من شادوفان وسط نهر عظيم، ثم يمتد الماء في ساقية مستطيلة ويستقر في صهريج كبير وسط الدار، فتحار الأبصار في حسن ذلك المنظر، فكل من يبصره يجدد الدعاء لنور الدين رحمه الله10. ويلاحظ ان بلاد الشام في هذه الفترة كانت متطورة من الناحية العلمية وكانت مقصد طلاب العلم وقد اكد ابن جبير ذلك وطلب من أبناء دياره المغاربة طلب العلم من الشام، ومما قاله «فمن شاء الفلاح من نشأت مغربنا، فليرحل إلى هذه البلاد، ويتغرب في طلب العلم، فيجد الأمور المعينات كثيرة: فأولها فراغ البال من أمر المعيشة – وهو أكبر الأعوان واهمها – فإذا كانت الهمة فقد وجد السبيل إلى الإجتهاد، ولا عذر للمقصر، الا من يدين بالعجز والتسويف، فذلك من لا يتوجه هذا الخطاب عليه، وانما المخاطب كل ذي همة يحول طلب المعيشة بينه وبين مقصده في وطنه من الطلب العلمي، فهذا المشرق بابه مفتوح لذلك، فادخل ايها المجتهد بسلام، وتغنم الفراغ والإنفراد قبل الهل والأولاد11. ومن بين تلك المدارس الشامية وبالذات الدمشقية مدارس ك الصادرية، النورية، الكبرى الغريزية، القليجية، الامينية، التقوية، العادلية، الشامية البدائية، العزرأوية، الشريفية، العمرية، الصلاحية، الاشرفية، الوجيهية، ومن مدارس الطب الدخوارية، وكانت في الأصل للطبيب عبدالرحيم بن علي الدخوار، جعلها وقفا لتكون مدرسة للطب، وأماكن عدة تستمر للإنفاق منها في مصالحها وعلى مرتب المدرس، ومرتبات المشتغلين فيها، وكان أول طبيب درس فيها هو واقفها نفسه عبدالرحيم الدخوار الذي صنف كتبا عدة في الصناعة الطبية، وقد توفى سنة 628 ه وكانت هناك مدارس أخرى في حلب وحمص وحران والقدس12. وكان الطب الشرقي أو العربي والإسلامي قد اصبح طبا متطورا أخذ الإفرنج عنه الكثير ومن الأطباء العرب المعروفين في تلك الفترة : مهذب الدين عبدالرحيم بن علي، الذي طبب الملك العادل من المرض الذي الم به واسعد بن الياس، وابراهيم بن أبي الوحش، وعدنان بن نصر، وموسى بن ميمون، وابي الحكم المغربي نزيل دمشق، وهناك اطباء وصيادلة كثر مما لا يسمح المجال بذكرهم جميعا، علما أن المؤلفات الطبية كانت عديدة بدورها، وقد بلغ الطب المشرقي من التطور ما دعاه للإهتمام بمداواة الحيوانات وهو ما يعرف بالطب البيطري وكانت قوانين «المملكة اللاتينية» تنظم حالة الاطباء في الممالك الإفرنجية في البلاد المقدسة على غرار ما كان معمولا به في البلاد الإسلامية، ومن ذلك انها لم تكن تسمح لأي طبيب مزاولة المهنة قبل ان يؤدي امتحانا تحت اشراف نقيب اطباء المملكة، وفي مجلس قداسة الأسقف13. وروى اسامة بن منقذ قصة تبين مدى تأخر الطب الإفرنجي ومما قاله «ومن عجيب طبعهم ما حدثنا به كليام ديور صاحب طبرية، وكان مقدما فيهم واتفق انه رافق الأمير معين الدين رحمه الله، من عكا إلى طبرية وانا معه، فحدثنا في الطريق قال: كان عندنا في بلاد فارس كبير القدر مرض واشرف على الموت فجئنا إلى قس كبير من قسوسنا قلنا: تجيء معنا حتى تبصر الفارس فلانا؟ قال نعم، ومشى معنا، ونحن نعتقد انه إذا حط يده عليه لتوفى، فما رآه قال: أعطوني شمعا، فاحضرنا له قليل شمع، فلينه وعمله مثل عقد الأصبح، وعمل كل واحدة في جانب انفه، فمات الفارس، فقلنا له: قد مات، قال نعم كان يتعذب سددت أنفه جتى يموت ويستريح14. ويذكر اسامة بن منقذ أن العلاقات العلمية والطبية كانت قائمة في بلاد الشام بين الإفرنج وبين العرب، وان المؤثرات المتبادلة بين الجابين قد ظهرت من خلال حاجات السكان إلى اطباء من العرب أو الإفرنج، علما أن الطب الإفرنجي بصورة عامة لم يكن متطورا أو ناجحا، مع الغشارة إلى أن كثيرا من الأطباء الإفرنج قد تاثروا بالطب العربي وبالوصفات والكتب الطبية العربية التي اطلقوا عليها، ومنها على سبيل المثال كتاب المالكي نقل ابن عباس الذي ترجمه ستيفن البيزوي في انطاكية سنة 1127 م إلى اللغة اللاتينية، والكتاب الآخر هو «سر السرار» الباحث في طب العيون والمنسوب لأرسطو حيث ترجم من العربية إلى اللاتينية في انطاكية أيضا سنة 1247 م/645ه 15. ولما تحدث ابن جبير عن مدارس دمشق، وبيمارستانات (مستشفياتها) وصف ملامح من تقدم الطب العربي وتحدث عن أحد هذه البيمارستانات وكيفية معالجة المرضى فيه ومعاينة الأطباء ومدأواتهم، كما تحدث عن البيمارستانات الخاصة بالمجانين ومما قاله «قالة لا وجرايته في اليوم نحو الخمسة عشر دينارا، وله قومه بأيديهم الأزمة المحتوية اسماء المرضى، وعلى النفقات التي يحتاجون اليها في الادوية والاغذية وغير ذلك، والطباء يبكرون اليه في كل يوم، ويتفقدون المرضى، ويامرون بإعداد ما يصلحهم من الادوية والأغذية حسبما يليق بكل انسان منهم. وللمجانين المتعلقين أيضا ضرب من العلاج وهم في سلاسل موثوقون – فعون بالله من المحنة وسوء القدر- وتصدرمن بعضهم النوادر الظريفة حسب ما كنا نسمع به16. الهوامش: -1 الفتح القسي في الفتح القدسي: الاصفهاني، ص 403. -2 الاعتبار: أسامة بن منقذ ص 51-67-75-119-139-141. -3 السلوك: للمقريزي ج1 ص966 -969 -4 الرحلة: لإبن جبير ص211 -5 تاريخ الحضارة الإسلامية: حسان الحلاق ص 429 . -6 المرجع نفسه، ص.431 -7 تاريخ الحضارة الإسلامية: حسان الحلاق ص 431 . -8 الحروب الصليبية: أرنست باركر ص150 – ص151. -9 تاريخ الحضارة الإسلامية: حسان الحلاق ص 432 . -10 الرحلة: ابن جبير، ص. 198.. -11 الرحله ابن جبير ص 200 . -12 تاريخ الحضارة الإسلامية: حسان الحلاق ص 434. -13 المصدر نفسه ص 435 . -14 الإعتبار: أسامة بن منقذ ص 137 – 138. -15 المصدر نفسه ص 183، 184، 185. -16 الرحلة: ابن جبير ص198 – 200.