أبدا لاتُخيب ظننا الأفلام القادمة من أوروبا الشرقية عموما ومن روسيا على الخصوص، بلد السينمائيين الكبار والسينما العريقة والمتميزة والمختلفة. وقد كان ذلك حال فيلم ليلة أمس الإثنين 24 شتنبر 2018 المعروض ضمن عروض مسابقة الأفلام الرواية الطويلة بمهرجان الجونة السينمائي، إذ جعلنا المخرجان ألكسي شوبوف وناتاليا ميركولوفا نعيش لحظات من السينما الحقيقية والمتشبعة أيضا بإرث الحكي الجميل الموروث عن السينما والأدب الروسيين، وأي سينما هي تلك، وأي أدب أفضل من الأدب الروسي الكبير. يحكي لنا المخرجان في فيلمهما المعنون ب”الرجل الذي فاجأ العالم” قصة رجل في الأربعيات من عمره يشتغل كحارس غابوي ويقطن بإحدى القرى السيبيرية النائية ويعيش حياة سعيدة مع زوجته وابنه وأب زوجته العجوز الخَرِف، في انتظار أن تلد الزوجة الحاملة مولودا جديدا، إلى أن يعلم أنه مريض بالسرطان وأنه في مراحله الأخيرة وأن أيامه في الحياة أصبحت معدودة، وبعد كل المحاولات مع الأطباء التي تصر زوجته على ارتيادهم رغم أن التحليلات قد قطعت الشك باليقين، تذهب به أخيرا عند مشعودة لترقيه لكن لا فائدة، هذه المشعوة نفسها هي التي ستروي للمريض قصة إوزة ذكر طارده الموت فتنكر بين الإوزات الأنثى فلم يعرفه الموت وتاه عنه. من هذه النقطة في الحكي والسرد الفيلمي سينقلب الفيلم رأسا على عقب ونجد أنفسنا مع شخصية من تلك الشخوص التي لايمكن أن يرسمها ويحيكها بتلك الدقة والحب سوى مبدعون متمرسون وأحداث لايتخيلها سوى تمرس على الحكي وعرف دروبه، إذ سيقرر إيغور المريض ومن لحظة سماعه القصة من العجوز المشعوذة التي اعترفت له بقلة حيلتها وهي تحتسي قنينة من الفودكا، أن يتنكر في زي امرأة الأمر الذي سيخلق المتاعب له وللأسرته كلها، خصوصا أن محيطهما جد محافظ ولايقبل أن يتحول رجل لأنثى في قرية تعتز بذكوريتها. رغم أني حكيت جزءا من القصة وبعضا من أحداثها فإن مايُرى على الشاشة لايُحكى بل يجب مشاهدته بلغة الصورة وبلاغتها التي لا تُحاكي. على العموم فشخصية إغور ومنذ تحوُّلها إلى أنثى ستُضرب عن الكلام وفي نفس الوقت ستُصٍرُّ على عدم التراجع عن قرارها رغم كل محاولات من يحيطون به لإثنائه عما أقدم عليه، إذ ستطرده الزوجة في بادئ الأمر من المنزل ثم سيتعرض للضرب والمهانة من قبل أهل القرية الذين سيطالبونه بالرحيل، ليأتيه ابنه البالغ من العمر قرابة العشر سنوات أو يزيد طالبا منه أن يخرج من مخبئه ويخبر الناس انه رجل، لكن لاجدوى من المحاولة. التمثيل بالفيلم جيد جدا خصوصا فيما يخص يفجيني تسيغانوف في دور إيغور المريض بالسرطان، بحيث استطاع هذا الممثل التحول من مرحلة المرض الأولى التي كانت فيها الشخصية تعاني لكن بشكل يتقبله الكل حولها رغم تعاطفهم معها، ثم كيف سينقلب لشخصية أخرى تماما بعد أن يصير أنثى وكأنا أخذنا ممثلا وجئنا بممثل آخر. الفيلم مكتوب بشكل جيد الأمر الذي يجعل ذلك يظهر بجلاء على الشاشة فلا خواءات درامية هنالك وكل مشهد موضوع بعناية في مكانه بشكل يجعل تسلسل الأحداث وبناء الشخصيات يصل قمة الإتقان، هاته الأخيرة التي كتبت بدقة وبإحساس إنساني كبير خصوصا شخصية إيغور وشخصية زوجته، دون نسيان شخصية أب الزوجة الذي نراه في البداية يشرف على الخَرَفِ والعته إلى درجة أن ابنته تقول لإيغون أن أباها أصبح عالة عليهم، لكن هذه الشخصية ستنقلب تماما بدورها حينما يبدو لها أن كل الأمور قد تغيرت من حولها خصوصا في المنزل حيث سيساعد ابنته في أعباء المنزل بغسل الصحون وأشاء أخرى، ثم سينبري بعد ذلك للدفاع عن إيغور في وجه من سيعتدون عليه من سكان القرية بشهره السلاح في وجوههم وتهديدهم حتى ينصرفوا. على العموم فبعض الأفلام تشكل حالات جميلة ومختلفة وفيلمنا هذا من تلك الأفلام.