لقد آمنت بالنضال، ليس في بعده السياسي أو الحزبي أو النقابي، ولكن في بعده الوجودي والإنساني الأكبر والأخطر واشمل، واعتبرت أن هذا الإنسان الذي ننتمي إ‘ليه هو مناضل وجودي بالضرورة، وهو مطالب بأن يوجد أولا، ولا أحد يأتي إلى هذا الوجود بلا ثمن نضالي، وهو مطالب بأن يحمي هذا الوجود وأن يدافع عنه ثانيا، وأن يرقى بهذا الوجود في سلم الوجود ثالثا، وأن يخرج به من دائرة الحيوانية وأن يصل به إلى عتبة الإنسانية الحقيقية رابعا، وأنا المسرحي الاحتفالي، رفضت دائما النضال الفوضوي، تماما كما رفضت النضال العبثي، ورفضت النضال باسم الفئوية الضيقة، أو باسم الشعوبية، أو باسم الطائفية أو الطبقية، أو باسم الأصنام والأوثان البشرية، وأكدت على أن يكون هذا النضال من أجل الوجود الحق، ومن أجل ما هو أجمل وأنبل وأكمل ما في هذا الوجود وفي هذه الحياة، ولقد (عينت) نفسي مناضلا وجوديا في هذا الوجود، ولقد وجدت نفسي دائما، وفي كل كتاباتي وبياناتي وإبداعاتي المسرحية أؤكد على القناعة التالية، وهي أن العدو الحقيقي للإنسان ليس هو الإنسان، وعلى أن العدو الحقيقي للحياة ليس هو الحياة، وعلى أن ما يناقض الجمال هو الجمال، ولقد أكدت كثيرا على الحياة، في صورتها الحقيقة، وفي درجتها الإنسانية العالية، وليس في مستواها الحيواني الدنيء، كما أكدت على الحيوية، وذلك باعتبارها تعبيرا صادقا عن هذه الحياة، ولقد كان كل هذا في مقابل العوامل التي يمكن أن تصادر هذه الحياة، وأن تقمع فعل الحيوية فيها، وكان ذلك اقتناعا مني بأن الحياة في معناها الحقيقي هي بالأساس مقاومة أو لا تكون، وأن نحيا هذه الحياة بصدق، فإنه لا يمكن أن يكون له غير معنى واحد، وهو أننا نقاوم الموت، وأننا نصارع تجار الموت، وأننا نقاوم مسببات هذا الموت، والتي من بينها المرض، أي المرض الحسي والمرض العقلي والنفسي، ومرض الذوات الشخصية و مرض الدماعات والمجتعات ومرض الشعوب والأمم، وفي هذا المعنى رسمت للحياة الصورة التالية، منطلقا دائما من فعل الاحتفال الحر والتلقائي، وذلك باعتباره تعبيرا عن الحياة وعن الحيوية: إن الحياة هي الامتلاء، وهي الفيض الحيوي والنفسي والروحي، وهي الغنى الفكري والوجداني لحد البذخ، وهي التعدد والتنوع، وهي التشكل والتلون، وهي التطور والتجدد، وهي التمدد في الزمان والمكان، وهي التحرر والانفلات، وهي الرحيل والسفر، وذلك باتجاه الأبعد والأعلى والأسمى والأصدق دائما، ومنذ البيانات الاحتفالية الأولى أكدت على الوجود والحياة بالنضال وبالتحدي، وعلى أن ما نتحداه ينبغي أن نتجاوزه، لنرتقي به وفيه، ولنصل إلى ما بعده ( أي تحدي الكائن لتحقيق الممكن، وتحدي الغائب لتأسيس الغائب) 1 ولقد أكدت على فعل الاحتفال، لأنه عنوان الصدق في الوجود، وأنه عنوان الحياة والحيوية، وفي هذا المعنى أقول: أنا أحتفل إذن فأنا موجود وأنا موجود ينبغي أن يكون معناها أنني أحيا حياة حقيقية كاملة أو متكاملة وأنا أحيا ينبغي أن يكون معناها أنني أحيا كإنسان عاقل، وليس كحيوان أو نبات أو جماد او كأي شيء من الأشياء وأنا أحيا كإنسان حر وعاقل ينبغي أن يكون معناها أنني أقاوم عوامل الموت المتعددة والمتنوعة، أقاومها بالاحتفال بالإنسان والإنسانية وبالحياة والحيوية وبالمدينة والمدنية وبالدفاع عن الحق في الوجود وفي الكرامة. وفي هذه الحياة، وفي أصدق صورها، وفي أعلى درجاتها الكائنة والممكنة دائما، ينبغي أن يغيب ذلك العطب العضوي والنفسي والروحي، والذي نسميه المرض، أو نسميه الوباء، والذي يمكن أن يصيب صحة البدن وصحة النفس والذهن معا، والذي له مظاهر وظواهر كثيرة، وله مستويات ودرجات متعددة، وله أسماء ومسميات مختلفة، وأبشع كل هذه الأمراض جميعا، هي تلك التي تتعدى مستوى الجسد إلى مستوى العقل، والتي قد تنتهي عند درجة الروح، والتي قد تصيب كثيرا من الأفراد والجماعات، وتكون بذلك مسخا لجماليات هذا الانسان العاقل والحر. 2 وأسوأ كل الأمراض، وأبشع كل الأدواء، داء فقدان المعنى، ولا شيء أفظع من أن يعيش الإنسان، أو تعيش الجماعات والمجتمعات من غير أن تؤسس لوجودها، ولحياتها، ولنضالها الوجودي معنى ما. وفي هذا النضال الوجودي يمكن أن تدخل كل النضالات الأخرى، والتي تندرج كلها في خانة الحق في الوجود، والحق في الحرية، والحق في الكرامة، والحق في الاختلاف، والحق في المعرفة، والحق في الجمال، والتي يمكن أن تظهر تحت أسماء كثيرة جدا، مثل النضال الاجتماعي أو النضال السياسي أو النضال الثقافي أو النضال الجمالي أو النضال الأخلاقي، ولكنها في آخر االمطاف هي تمظهرات وتجيات للنضال الوجودي الأكبر، وفي هذا المعنى أقول ( لقد ارتضيت لنفسي أن أكون مقاوما حالما، هذا هو اختياري الوجودي، وهو ليس ملزما لأي أحد غيري، ولقد أبدعت في عالم هذه المقاومة الرمزية شخصية مسرحية وأسميتها عبد السميع، وهي التي لازمتني لعقود طويلة جدا، ولقد وجدت أن كل مجانين الدنيا فيهم شيء أو أشياء من هذا الولد الذي لا يريد أن يشيخ أبدا) 3 وانتصارا مني للحياة، فقد أبدعت شخصية الحكواتي نور الدين، وجعلتها تلازمني في عدة احتفاليات مسرحية هي ( الحكواتي الأخير ) و( المقامة البهلوانية) و( شكوى المهرج االحكيم) و ( سقراط قالوا مات) و( عيشة قنديشة، أو الجنيىة التي أرادت أن تصبح إنسية) ولقد رأيت أن هذا الإنسان لا يحكي عبثا، ولكنه يحكي حبا لشيء، أو خوفا من شيء، أو طمعا في شيء، وأغلى كل الأشياء في عالم الناس والأشياء هو الحياة، وهذا ما جعلني أتوقف عند نموذجين اثنين من صناع فعل الحكي الشعبي، النموذج الشهرزادي، والنموذج الحكواتي، و( لقد أبدعت شخصية الحكواتي وأعطيته اسم نور الدين، وخمنت أنه سيكون الأخير، فإذا به الأول في سلالة بشرية جديدة، سلالة الحكواتيين الجدد، وجعاته مختلفا عن تلك الحكواتية القديمة التي تسمى شهرزاد، وكان ذلك اقتناعا مني بأن شهرزاد تحكي خوفا من الموت، وبأن صاحبي الحكواتي يحكي حبا في الحياة، وهو لا يخاف من ذلك الموت الذي في الدنيا، ولكنه يخاف من ذلك الموت الذي يمكن ان يلحق بهذه الدنيا وشتان بين هذا الخوف وذاك الخوف. 4 هذا المناضل الاحتفالي ليس من حقه أن يستريح، لأنه يحمل للناس رسالة، وهو بهذا يشبه ذلك الجندي الإغريقي فيديسوس، والذي انطلق من منطقة مارطون إلى مدينة أثينا سنة 480 قبل الميلاد، حاملا رسالة مفادها أن الجيش الإغريقي قد انتصر على الجيش الفارسي، ولم تكن هذه الرسالة تحتمل الانتظار والتأجيل، ولذلك فقد جرى لأكثر من أربعين كلمترا مشيا على القدمين، ولم يتوقف لحظة، ولم يكن بإمكانه أن يتوقف، ولأي سبب من الأسباب، لأنه يحمل رسالة للناس، وكذلك هو المناضل الاحتفالي في صورته الحقيقية، وعندما وصل هذا الجندي المناضل، وعندما أوصل الرسالة إلى من يهمه الأمر، في ذلك فقط، كان بمكانه أن يستريح، وأن يكون لهذه الاستراحة عند الناس اسم الموت، ولكن، من يحيي الناس، ومن يفرح الناس، ومن يسعد الناس، هل يمكن أن يموت؟ إنني أنا المناضل الاحتفالي مقتنع بأن الأساس في الفعل الاحتفالي أنه ( فعل وجودي، وذلك قبل أن يكون فعلا اجتماعيا، إنه طقس ديني، اجتماعي، اقتصادي، وفي هذا الطقس نحقق الطبيعة دورتها، وتحقق الأيام دورتها، ويحقق المجتمع دورته، ويجدد الجسد دورته الدموية، وتجدد الروح دورتها الروحية. 5 الهوامش: 1 عبد السلام لحيابي (عبد الكريم برشيد وخطاب البوح) إيديسوفت الدارالبيضاء ص 169 2 ع. برشيد ( البيانات الجديدة للاحتفالية المتجددة) الهيئة العربية للمسرح الشارقة 2015 ص 142 3 ع. برشيد ( عبد السميع يعود غدا ) تغريبة مسرحية في خمسة أنفاس مطبعة تريفة أبركان 2010 ص 28 4 نفس المرجع السابق ص 29 30 5 ع. برشيد ( أنا الذي رأيت) منشورات إيديسوفت الدارالبيضاء 2016 ص 159