الوقاية خير من العلاج، قاعدة ذهبية أصبح من الضروري اليوم توسيعها لتشمل عادات التردد على الشبكة العنكبوتية، وخاصة مواقع التواصل الاجتماعي. فقد باث من المؤكد اليوم أن التردد المرضي على مواقع التواصل الاجتماعي يصيب الناس بالكثير من الاضطرابات النفسية والسلوكية، وثبت بشكل علمي لا يدع مجالا للشك أن الاستعمال المفرط لتلك المواقع ينتج عنه، حسب كل حالة، "تسمم رقمي" يؤدي إلى تدهور في الصحة النفسية وزيادة في الاكتئاب، وفي حدة القلق والتوتر، واضطرابات في التغذية، ناهيك عن تسمم العلاقات الاجتماعية، وخاصة على مستوى الأسرة. وتنامى اليوم انتشار الوصفات الطبية التي تتضمن "حِمية رقمية" يصف فيها المعالج أو الطبيب النفسي نظاما يحدد ساعات استخدام المريض لمنصّات التواصل الاجتماعي. غير أن مشكلة التسمم الرقمي، خلاف باقي أنواع التسممات مثل التسمم الغذائي، ورغم انتشاره الواسع، هو أن مرضاه يصعب عليهم الإقرار بأنهم مصابون به، بل إن نوعا من الاعتبار الاجتماعي يمر عن طريق ذلك التسمم، مما يجعل مسألة العلاج أكثر تعقيدا، ويجعل مسألة الوقاية شبه مستحيلة. أعراض التسمم الرقمي ثمّة أشكال عدّة للممارسات المَرَضية والإدمانية لمنصّات التواصل الاجتماعي، حسب الجزيرة نتن منها: كثرة التحقق من الهاتف كل بضع دقائق، وترقّب أحدث الإشعارات، وانشغال الذهن وتشتت الفكر بمواقع التواصل، التعلّق بمنشوراتك والشعور بالإحباط حين لا تتلقّى أيّة ردود أو تفاعلات كافية. بالإضافة إلى حالة التأهّب النفسية التي تصيبك حين تنشر منشورًا جديدًا أو تغريدة جديدة، وتبدأ بترقّب ماذا سيردّ النّاس؟ وماذا سيقول النّاس؟ وهل سيُهاجمني أحدهم؟ هل سيُعيد أحدهم نشر هذه التغريدة وانتقادي أو الاستهزاء منّي؟ وكلّ هذه الأحوال، حسب نفس المصدر، هي شكل من أشكال السموم النفسية التي تورثها منصّات التواصل الاجتماعي في مُستخدميها، والتي تزيد من فرص تعرّض الإنسان للاكتئاب والقلق والأرق واضطرابات الأكل واضطرابات النوم. فكيف نتخلّص من سموم مواقع التواصل الاجتماعي؟ وكيف أتجنّب الآثار النفسية السلبية لاستخدام الفيسبوك والانستغرام وتويتر وغيرها من التطبيقات؟ وكيف أحمي نفسي من مخاطر السوشيال ميديا؟ إليك إجابات عن هذه التساؤلات مع حلول عملية بحسب خبراء علم النفس والطب النفسي. ما يجب أن تعرفه عن سموم مواقع التواصل الاجتماعي يُستخدَم مفهوم "التخلّص من السموم (Detox)" في السياق الرقمي بمعناه المتمثل في التخلص من تلك السموم الرقمية والتوقف ولو مؤقتًا عن استخدام الأجهزة التقنية، كالهواتف الذكية وأجهزة التلفزيون والأجهزة اللوحية والكمبيوتر ومواقع التواصل الاجتماعي؛ لتوفير فوائد جسدية وعاطفية، والتركيز على التفاعلات الاجتماعية الواقعية دون تشتت وضغط ناجم عن الاتصال المستمر. قد يستغرق أسبوعًا أو شهرًا أو عامًا بأكمله. ويشترط التخلّص المثالي من سموم مواقع التواصل الاجتماعي، أولًا الامتناع عن استخدام الأجهزة التقنية، لكن الكثيرين قد يجدون صعوبة في الابتعاد التام عن تلك المنصات لداعٍ ما، كالعمل. لهذا كان لا بد من وجود تقنيات ل"التخلّص من السموم" بقواعد خاصة، يخرج منه الفرد وهو أكثر وعيًا بما تُشعِره به وسائل التواصل الاجتماعي. واستخدامها بطريقة تشعره بالإيجابية. وله قبل الخوض فيه أن يتفكر -مثلًا- في الإجابة عن أسئلة مثل: هل تمدني عدد الإعجابات على مواقع التواصل بثقة أكبر/أقل بنفسي؟ وهل تؤثر على مزاجي لبقية اليوم؟ هل أقوم بالتقاط الصور لنشرها على الإنترنت فقط، أم لكي أستمتع حقًا بالمشهد؟ في دراسة ألمّت بما يطرأ على الأشخاص أثناء عملية التخلّص من السموم (الديتوكس) والتي أجرتها منظمة "كوفيرت (Kovert)" البحثية، وُجد أنه بعد 3 أيام فقط من الانقطاع عن الأجهزة، أجرى المشاركون محادثات أطول وأكثر حيوية، وحسّنوا ذاكرتهم، وغطوا في نوم عميق. بينما اتخذت أقلية منهم قرارًا مصيريًّا، كاتباع مسار وظيفي جديد أو إعادة الالتزام بأهداف صحية. ليعضد ذلك من أدلة تشير إلى أن التخلص من السموم الرقمية يمكن أن يجعلنا أكثر صحة وأقل توترًا وأكثر ارتباطًا بالعالم من حولنا، حتى ولو لمدة زمنية قصيرة. لماذا قد نحتاج إلى (الحِمية الرقمية) والتخلّص من السموم الرقمية؟ تكشف الدراسات أن تبديد الكثير من الوقت على وسائل التواصل الاجتماعي يمكن أن يشكل خطرًا محتملًا على صحتك العقلية، لذا يُنصَح بشدة بفترات الراحة بين الحين والآخر. وأحد أكبر الأسباب هو أن وسائل التواصل الاجتماعي يمكن أن تعرض وجهات نظر مشوهة للواقع، إذ يعتري البعض إحساسًا بالدونية، وأن حياتهم لا يمكن أن ترقى إلى مستوى المشاهير أو المؤثرين. من شأن ذلك أن يُعرّض تصورنا للواقع للخطر إلى حد كبير، ليعبر إلى ما يسمى في علم النفس الاجتماعي ب"نظرية المقارنة الاجتماعية". يعتقد مؤسس نظرية المقارنة الاجتماعية، وهو باحث في ذلك المجال، "ليون فيستنجر" أن هناك محفزًا داخل الأشخاص بالحصول على تقييمات ذاتية، يقيمون فيها قدراتهم وآراءهم بالآخرين. وتُظهر الأبحاث أن الأشخاص الذين يعانون من تدني احترام الذات والمعرضين للاكتئاب يميلون إلى أن يكونوا أكثر عرضة لهذا النوع من المقارنة، وذلك تحديدًا ما تغذية وسائل التواصل على عدة مستويات. الميل الأكبر نحو المقارنة الاجتماعية قد يزيد من استخدام الفيس بوك مثلًا بدافع التلصص على حسابات الآخرين. لكن تطبيقات الوسائط الاجتماعية لا تقلل في الواقع من تقديرنا لذاتنا فحسب، بل العكس هو الصحيح أيضًا، عندما يكون تقديرنا لذاتنا منخفضًا، فإننا نقضي المزيد من الوقت على وسائل التواصل الاجتماعي. يعلن الخوف من الضياع (FOMO) عن نفسه بوصفه أحد بواعث البقاء على تلك المنصات، وهو قلق اجتماعي يرغب فيه الشخص بالبقاء على اتصال دائم بما يفعله الآخرون؛ مخافة أن يفوته شيء أو حدث ما، فيحتاج دومًا للحضور على المواقع لتتبع الأخبار والبقاء على اطلاع. ويعد العرض الذاتي إحدى النقاط المحورية لمواقع الشبكات الاجتماعية التي غالبًا ما تجعل مرتاديها عرضة لاكتساب سلوك نَرجسي، أو إفقار المهارات الاجتماعية، لتسلب مقدرتنا على المشاركة في محادثات هادفة، وتتدهور لدينا المقدرة على الاحتفاظ بالمعلومات واستدعائها وتذكرها. يقودنا ذلك إلى حقيقة أن وسائل التواصل الاجتماعي تقلل من كفاءتنا الإنتاجية، فالالتصاق بتلك المنصات له أن يؤثر سلبًا على التزامنا بحياتنا الإبداعية والمهنية بطرق معقدة، ليتركنا نعاني من صعوبات في التركيز وسهولة التيه والتشتت. تشير ورقة بحثية نشرتها مجلة علم النفس الاجتماعي التطبيقي إلى أننا نقضي وقتًا على الشبكات الاجتماعية أكثر بكثير مما نعتقد، ومن ثم فإننا نهدر أحد أكثر مواردنا قيمة: الوقت. فحتى عند وجودنا في العمل أو تخصيص وقت لأداء مهمة، ربما نستسلم لضرورة التحقق من أحدث الإعجابات والتعليقات على منشور ما. وجدت إحدى مجموعات البيانات أن الموظفين يقضون 2.35 ساعة يوميًّا -في المتوسط - للوصول إلى حساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي في مكان العمل. وهو ما يفسر أحيانًا صعوبة الالتزام بمواعيد التسليم النهائية. في استطلاع الإجهاد السنوي الذي أجرته جمعيات علم النفس الأمريكية، أشار 5 من كل 25 من البالغين في الولاياتالمتحدة (حوالي 18٪) إلى التكنولوجيا بوصفها مصدرًا مهمًّا للتوتر في حياتهم. بالنسبة إلى الكثيرين، فإن الاتصال الرقمي الدائم والحاجة المستمرة لمواصلة فحص رسائل البريد الإلكتروني والنصوص ووسائل التواصل الاجتماعي هي التي شكلت غالبية هذا الضغط التكنولوجي. كما يمكن أن تتعارض أنشطتنا عبر الإنترنت مع أنماط نومنا، فاستخدام الوسائط الاجتماعية الإلكترونية ليلًا مباشرة قبل الخلود إلى النوم له آثار سلبية علينا وعلى أمزجتنا، إذ يمكن أن يتداخل الضوء الاصطناعي الصادر من هاتفك مع إنتاج جسمك للميلاتونين (الهرمون المسؤول عن مساعدتك على النوم)؛ ما يفاقم من احتمالية القلق والأرق وقصر مدة النوم، بل وقد يسبب صداعًا ومشكلات في الرؤية. توضح عالمة النفس الإعلامي الدكتورة "باميلا روتليدج" أن التأثير السلبي الذي يقلق الجميع بشأنه يعتمد على كيفية استخدامك للوسائط، وليس مقدارها، وأنه من أجل معرفة ما هو مناسب عليك أن تُقيّم بصدق ما تستخدمه ولماذا. وهو ما ينطبق على العلاقة غير المباشرة بين التوتر واستخدام وسائل التواصل الاجتماعي، فالاستخدامات الاجتماعية للتقنيات الرقمية والطريقة التي تزيد بها الوعي بالأحداث المؤلمة في حياة الآخرين، هي التي توضح كيف يمكن أن يؤدي استخدام تلك المنصات إلى إصابة مستخدميها بمزيد من التوتر. ماذا افعل كي أحمي نفسي من السموم النفسية لمواقع التواصل الاجتماعي؟ * أولًا: احصر الساعات التي تمضيها على مواقع التواصل حتى تنكمش قلص عدد الساعات التي تقضيها على مواقع التواصل الاجتماعي، افعل ذلك شيئًا فشيئًا، فإذا كان متوسط الوقت الذي تقضيه على تلك المنصات ساعتين ونصفًا، خفّضه إلى ساعتين في الأسبوع الأول ثم إلى ساعة ونصف في الأسبوع التالي، وهكذا. راقب بعدئذ إن أحدث ذلك فارقًا يُذكر. * ثانيًا: أزل التطبيقات التي يمكن الاستغناء عنها احذف التطبيقات التي لا تحقق الاستفادة المرجوة منها، أو التي تستنفد وقتك بلا طائل، كالإنستجرام والفيس بوك. لذا، وكما جرت العادة عند احتياجك إلى أخذ راحة قصيرة من العمل أو الدراسة، والتقاط هاتفك مرارًا وتصفُّح إحدى تلك المنصات، ستلاحظ أن اختفاءها أسهم في كسر هذه الحلقة المفرغة التي تظل توزع انتباهك بين اتجاهين. في كتابه "التخفّف الرقمي (Digital Minimalism)"، يوصي الكاتب "كال نيوبورت" بالسماح للتطبيق المعزول بالعودة إلى صفوف التطبيقات الحالية إذا أحسست أنه يخدم شيئًا تُقدِّره بعمق، وأن أفضل طريقة هي استخدام التكنولوجيا لخدمة تلك القيمة، إما هذا أو أن تستبدله بشيء أفضل. اجعل التكنولوجيا تلعب دورًا محددًا في حياتك، ويمكنك تطوير إجراء تشغيلي قياسي يناسب هذا الدور بقواعد محددة حول وقت وكيفية استخدام التطبيق، على سبيل المثال استخدم فيس بوك بوصفه جزءًا من فترات الراحة في عملك، ولكن لا تتحقق منه في المنزل. * ثالثًا: ابدأ عادة صباحية جديدة، أو بالأحرى جِدْ بديلًا جرب عدم إقحام التكنولوجيا في روتينك الصباحي، استعض بمنبه حقيقي بدلًا من ذلك الموجود على هاتفك، قد يساعدك ذلك على قهر رغبتك في تصفح المنصات فور استيقاظك. اتبع طقوسًا صباحية لا تشمل وسائل التواصل الاجتماعي والعمل، مثل مراقبة شروق الشمس خارج نافذتك، أو المشي مبكرًا لساعة أو 30 دقيقة، أو التمدد، أو الاستمتاع بفنجان من الشاي أو قدح من القهوة وتصفية أفكارك بشكل رائق. سيتيح لك التخلّص من السموم (الديتوكس الرقمي) وقت فراغ يكفي للقيام بأنشطة عديدة، كإحياء اهتماماتك القديمة أو التطوع أو القراءة، أو أي نشاط يشرك عقلك وحواسك، مثل تعلم العزف على الجيتار أو البستنة في الهواء الطلق. خاصة إذا كنت تقضي ساعات جالسًا على مكتب أمام الكمبيوتر، فإن الاهتمام بالمساحة الداخلية لمنزلك وتكريس قرابة الساعتين قد تثري حياتك. * رابعًا: فَعّل وضعية (عدم الإزعاج Do Not Disturb) أوقف تشغيل الإخطارات المتعلقة بجميع التطبيقات الخاصة بك أو لبعضها بشكل انتقائي، أو فعّل وضع "عدم الإزعاج"، اجعل هاتفك على وضع "صامت". يسمح لك ذلك بالالتزام بفترات زمنية معينة دون إغراء النظر إلى هاتفك بشكل فوري عند الاستماع إلى أي صوت. وتعد الطريقة الأكثر فاعلية لتحقيق أقصى استفادة من التجربة هي إغلاق هاتفك والكمبيوتر المحمول والأجهزة اللوحية ووضعها بعيدًا أو إخفاءها لبعض الوقت فحسب. * خامسًا: تخلّص من عادة الوصول إلى هاتفك إذا وجدت نفسك تحاول الوصول إلى هاتفك بشكل ثابت، فهذا سلوك قهري ينبع غالبًا من القلق من أنك ستفقد شيئًا جديدًا. قد يكون التخلص من أي عادة سيئة أمرًا صعبًا. ضع هاتفك في غرفة أخرى أثناء عملك، أو ضعه جانبًا عند تناول وجبة أو التسكع مع الأصدقاء. يمكنك بعد ذلك الامتناع عن استخدام الأجهزة الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي خلال أوقات بعينها يوميًّا، أو حتى أيام بعينها من الأسبوع، كأن تقرر عدم استخدامها بعد الساعة 9 مساءً، أو في أيام الجمعة. من الممكن أن تكون هذه الإستراتيجية مفيدة للنوم والراحة، ويمكن تكييفها وفقًا للخصوصيات الفردية. في البداية قد يكون الأمر مربكًا بعض الشيء، ولكن بعد فترة من الوقت ستبدأ في الشعور بالفوائد، ثم بمزيد من التحرر أو الحرية أو كأن حملًا ثقيلًا قد انزاح عن كاهلك. وقد تجد أنك تريد البقاء منفصلًا عن مواقع التواصل لفترة أطول.