ذكر المفكر عابد الجابري في كتابه الموسوم" فهم القران الحكيم"، في معرض شرحه وتفسيره سورة يوسف، نقلا عمن سبقوه من المفسرين والرواة، أن عزيز مصر، الذي شغل بعده النبي يوسف عليه السلام، مباشرة هذا المنصب السامي، والذي كان يسمى "بوطيفار" أو "فوطيفار"، كان خصيا. هذه المعلومة، نقلها المفسرون بدورهم، من الإسرائيليات.. وكما هو معلوم، فالخصي هو الرجل الذي أزيلت خصيتاه. إلا أن فريقا من المهتمين، من باحثين ومؤرخين وغيرهم، من ذكر أن الخصي، كانت صفة تطلق في ذلك العصر، عصر الفرعونية المصرية، على من أسندت له مهمة في السلطة. لذلك، ففي نظرهم، أن عزيز مصر، بوطيفار، لم يكن خصيا بالمعنى الحرفي للكلمة، وإنما وصف بهذا الوصف، نظرا لمكانته العليا في هرم السلطة، كعزيزا لمصر. والذي يعتبر الثاني من ناحية السلطة والقوة بعد الملك مباشرة. أما فريق آخر، فقد نحى عكس هذا الرأي. واعتبر أن الخصي لم تكن كصفة وظيفية، وإنما كان ينعث بها كل من تم خصيه بالفعل. حجتهم في ذلك، هو أنه في تلك العصور، والعصور التي سبقتها أو تلتها، كان لا يمكن لأحد أن يرتاد قصور الملوك والأباطرة، ويشغل فيها وظيفة ما، إلا إذا تم خصيه إخصاء ماديا. والسبب هو تلافي الوقوع في المحظور في ظل تواجد حريم كثيرين في القصر. لكن، فحينما يتم إمعان النظر، في واقعة النبي يوسف عليه السلام، وكيف أنه نأى بنفسه عن الوقوع في المحظور مع نساء قصر هذا العزيز نفسه، أي بوطيفار، وكيف دخل السجن واصطبر على كل شيء، ولما وصل خبره إلى الملك/ الإله، أكبر فيه ذلك، ورأى أنه مأمون الجانب، وتقي وورع، قال لخدمه قولته الشهيرة المذكورة في القرءان الكريم: "أتوني به أستخلصه لنفسي". فإن هذا، يمكن التدليل به على صحة أن بوطيفار كان خصيا بالفعل. فأن يتم ترجيح كفة العقل على كفة الشهوة، رغم الإغراءات المفرطة وأهمها الحرية، فهو أمر يصعب تخيله. ويصعب على أشد الرجال وأعتاهم قوة وجلدا، خاصة إن كانوا عاديين، مقاومته والصبر عليه. ثم أن الأستخلاص، يعني مما يعنيه، كما هو في معاجم العرب، استخلاص الشيء من الشيء، أي استخراجه، كاستخلاص الزبدة من اللبن. وقد جاء في التفسير للطبري أن استخلاص الملك النبي يوسف، القصد منه، اتخاذه لنفسه خالصا من دون الناس.. وسواء صح هذا أم لم يصح، فإن السلطة، وأي سلطة، تبتغي خداما أوفياء، (مخصيين)، لا فرصة لديهم لآرتكاب الخطأ. وإلا فإن غضبها سيطولهم. ولتفادي هذا الأمر، كان، وإلى وقت قريب من هذا العصر، يتم إخصاء العبيد. فبهذه الطريقة، كان يؤمن شرهم (المفترض). فيصبحون مستسليمن للسلطة أشد استسلام. وكل الرغبات والشهوات تزول عندهم. ووحدها خدمة السلطة والوفاء لها، تبقى سببا لوجودهم.. وفي هذا العصر، ومع رد الاعتبار لحقوق البشر، تم تجريم هذا الفعل، أي الإخصاء، واعتبر فعلا شنيعا، يدمر البشرية، ويمس بأسمى مشاعر وأحاسيس البشر. إلا أن السلطة، مع ذلك، استعاضت بإخصاء آخر، لكن من نوع خاص. وهو إخصاء معنوي، إن صح التعبير. يتمثل في التحكم المطلق عبر فرض العديد من القيود المرئية وغير المرئية.. إنه لا يمكن، في عصرنا هذا، لشخص ما، أن يشغل منصبا ساميا ما، خصوصا في الدول المتخلفة، إلا إذا تم تطويقه من كل جانب، أي إخصاءه، فيصير مسلّما كل الاستسلام لقوة السلطة وغيرتها. فإن كان ثريا، فخطرا حقيقيا سيحدق بثروته. وإن لم يكن ثريا، فالخطر يهدد وجوده وكيانه.. لذلك قيل، إن السلطة كالقبر، لا تتسع لأكثر من إثنين..