قد يبدو العنوان مستفزا، وعلى قدر كبير من التضخيم والتهويل، وقد يرى فيه البعض مجرد محاولة لإعادة توجيه بوصلة العمل الأمازيغي. لكن الواقع يعلو ولا يعلى عليه، والحقائق متمردة، ولا تأبه برغباتنا وعواطفنا التي لن تغير مضمون تلك الحقائق ولا من قوة مفعولها وتأثيرها. فحال الأمازيغية مقلق والزمن يلعب لغير صالحها، والإستحقاقات المقبلة، في شقيها القانوني والإنتخابي، قد تكون استحقاقات الفرصة الأخيرة، بسبب جملة من العوامل والأسباب. فلماذا الحديث عن الفرصة الأخيرة؟ وما المقصود باستحقاقات الفرصة الأخيرة؟ وبأي استراتيجية يمكن مواجهة هذه الإستحقاقات في زمن اللايقين هذا الذي نعيشه؟ لماذا الحديث عن الفرصة الأخيرة؟ يعود بنا البحث عن أصل كلمة "فرصة" إلى اليونان القديمة، حيث تحيل "الفرصة" إلى "كايروس" (Kairos) إبن إلاه الزمن والفصول "كرونوس". في الفلسفة اليونانية يرمز "كايروس" إلى فكرة الوقت أو الفرصة المحددة لأداء نشاط أو عمل معين. أما في اللغة العربية فنقصد بالفرصة الظرف والوقت المناسبين للقيام بعمل معين. إذا أخدنا بعين الإعتبار هذه المعطيات بشأن كلمة "الفرصة"، يمكن لنا إذن الإجابة على السؤال المطروح، من خلال الأسباب التي تضفي على الإستحقاقات القادمة طابع الفرصة الأخيرة، أي طابع الظرف والوقت المناسبين للقيام بعمل معين لفائدة الأمازيغية، يترتب عن عدم القيام به استحالة اكتمال شروط القيام به مستقبلا. ففي أي ظروف يستحيل اكتمال شروط القيام بالمتعين والواجب لفائدة الأمازيغية؟ يقال بأنه طالما هناك حياة فهناك أمل، أي طالما هناك أمل فلا شيء مستحيل؛ وحده الموت والزوال إذن يستحيل معهما القيام بالواجب. فالظرف الذي يستحيل فيه القيام بالواجب لصالح الأمازيغية، هو ذاك الذي تنتقل فيه الأمازيغية إلى مقبرة اللغات، بعد وفاة آخر متكلم بها. في دوائر النقاش بين نشطاء الحركة الأمازيغية، لا يمسك المتناقشون عن الجهر باحتمال اندثار اللغة الأمازيغية قبل متم هذا القرن؛ وهم بذلك إنما يؤكدون ما جاء في أطلس لغات العالم المهددة بالاندثار. فهذا البرنامج الرقمي التفاعلي الذي أعده خيرة اللسانيين في العالم تحت إشراف منظمة اليونيسكو، يقدم بيانات عن نحو 2500 لغة مهددة من أصل قرابة 6000 لغة متحدث بها عبر العالم. ويمكن لأي كان الوقوف، من خلال البحث في الأطلس، على مجموع اللغات التي اندثرت في الخمسين سنة الأخيرة، والاطلاع على مستوى خطر الاندثار الذي يهدد لغات أخرى من بينها الأمازيغية، علما أن بعض اللغات المحلية بالمغرب قد اندثرت بالفعل وخصوصا بالمغرب الشرقي. من بين الأسباب الكبرى التي تُضَاعف حدة التهديد بالإنقراض الذي يلاحق اللغة الأمازيعية، نجد هيمنة لغات العولمة على السوق اللغوية، واستفحال ظاهرة التخلي عن الأمازيغية لفائدة الدارجة المغربية في العديد من المناطق الأمازيغوفونية بالمغرب. يقول عميد المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، الأستاذ بوكوس، في هذا الشأن "إذا كانت الدارجة أداة تواصل بامتياز في المغرب فهذا يقوّيها؛ ولكنه في المقابل يضعف الأمازيغية". من خلال ما ذكر، يظهر بوضوح أن خطر الإنقراض يلاحق الأمازيغية وأن الإستحقاقات المقبلة مصيرية. فإنْ فَشلَ المغاربة وفي مقدمتهم النشطاء الأمازيغ، في توظيف تلك الإستحقاقات بشكل مثالي لفائدة إنقاذ الأمازيغية، فلن تكون هناك فرصة أخرى، لأن الأمازيغية ستكون في عداد اللغات الميؤوس من أمرها. ما المقصود باستحقاقات الفرصة الأخيرة؟ كان من بين أهداف "الورش الملكي الأمازيغي" الذي أُعْلن عن خارطة طريقه بأجدير سنة 2001، الإنتقال بالملف من مجال الصراع والتجاذب السياسيين إلى ميدان الأوراش الملكية الإستراتيجية التي تحظى بكل الدعم السياسي والمالي اللازمين. وقد راكمت الأمازيغية الكثير من المكتسبات في ظل الورش الملكي، لعل أهمها حصول تقدم كبير في ملف إدماج الأمازيغية في التعليم والإعلام، وانتصار الملك للنخبة الأمازيغية في معارك حرف الكتابة والترسيم، في مواجهتها لتحالف هجين يناهض بقوة إنصاف الأمازيغية، تحالف يضم جماعات إسلامية، قومية، يسارية ومحافظة. مع ترسيم اللغة الأمازيغية في دستور 2011، استنفذ الورش الملكي بشأن الأمازيغية شروط وجوده، ودخلت الأمازيغية رسميا عرين المعارك السياسية والحزبية ودهاليز الصناعة التشريعية. فاستكمال مسار الترسيم الفعلي المنصف، مشروط بنجاح الحركة الأمازيغية وحلفائها في المشهد الحزبي، في معارك جملة من الإستحقاقات (échéances) فرضها المشرع، من خلال جملة من مواد القانون التنظيمي رقم 26 – 16 بشأن مراحل تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية وكيفيات إدماجها في مجال التعليم ومجالات الحياة العامة ذات الأولوية. فالباب التاسع من القانون التنظيمي، وخصوصا المادة 31 منه، ينص على جملة من الإستحقاقات وجدولة زمنية تتراوح بين خمس سنوات وخمسة عشر سنة. بتعبير آخر لن تمارس اللغة الأمازيغية كل وظائفها كلغة رسمية، إلا بعد نجاحها في سلسلة من المعارك التشريعية والتنظيمية وعلى مراحل، فالترسيم كي يكون فعليا، في حاجة إلى قوى حزبية تسنده في المؤسسة التشريعية والحكومة والجماعات الترابية. يتوقف الترسيم الفعلي إذن، على الحضور القوي للأحزاب الحليفة في المؤسسات، والذي يتوقف على نجاحها في الإستحقاقات الانتخابية للسنة المقبلة، الذي يتوقف بدوره على قدرتها على تعبئة القواعد الانتخابية. وحرصا على نجاح حلفائها وإعمالا لمبدإ التعامل بالمثل (la réciprocité) بين الحلفاء، ينتظر من مكونات الحركة الأمازيغية، تعبئة قواعدها لدعم حلفائها في الإستحقاقات المقبلة، لأن التعامل بالمثل يفرض تبادل المصالح (don contre don) في إطار علاقة رابح/رابح. المقصود إذن باستحقاقات الفرصة الأخيرة، هي الإستحقاقات القانونية المنصوص عليها في القانون التنظيمي رقم 26 – 16، والإستحقاقات الانتخابية للسنة المقبلة. بأي استراتيجية يمكن مواجهة هذه الإستحقاقات؟ أمام التحديات الكبرى والمصيرية التي تنتظر الأمازيغية بكل أبعادها، تجد مكونات الحركة الأمازيغية نفسها أمام خيارات استراتيجية ثلاثة: استراتيجية رد الفعل استراتيجية النعامة استراتيجية الفعل. تعتمد استراتيجية رد الفعل على انتظار مبادرات الآخر للرد عليها، وعلى الإنفعال كلما استجد مستجد في المحيط. فمكونات الحركة الأمازيغية التي تعتمد أو ستعتمد هذه الإستراتيجية، ستكون تحت رحمة مبادرات باقي الفاعلين، مؤسساتيين كانوا أو غيرهم، وعملها لن يتجاوز سقف التنديد والمظلومية، وسيعمل نشطائها على تصريف إحباطاتهم في صراعات سوريالية عقيمة مع نشطاء باقي مكونات الحركة. أما استراتيجية النعامة فهي أسوأ الإستراتيجيات (la stratégie de l'autruche)، فالنعامة حين تدفن راسها في التراب تاركة جسدها عرضة للسهام والرصاص أو الإفتراس، لا تدرك بأن رأسها المدفون في التراب سيلقى نفس مصير الجسد المكشوف. وللأسف يلاحظ نزوع بعض مكونات الحركة الأمازيغية إلى هذه الإستراتيجية البئيسة. لا مناص إذن من الإعتماد على استراتيجية الفعل، إن أرادت مكونات الحركة الأمازيغية أن تكون في مستوى التحديات التي تواجه الأمازيغية، ولأجل ذلك عليها أن تعتمد على التخطيط والعمل الإستباقي وأن تكون مبادرة وبراغماتية. فالتخطيط سيمكنها من أخد المتغيرات الداخلية والخارجية بعين الإعتبار على المستوى البعيد، أما العمل الإستباقي فسيمكنها من التبصر بوضع الأمازيغية مستقبلا والاستعداد له. أن تكون مكونات الحركة الأمازيغية براغماتية، يعني أن تقطع مع الدغمائية والجمود الفكري والتعصب لتقاليد وممارسات تنظيمية لم يعد بإمكانها مسايرة إيقاع المتغيرات، ولا المساهمة في تَمَلك المغاربة للغتهم الأمازيغية. أن تكون براغماتية، يعني أن تستطيع الإنتقال بتحالفاتها التكتيكية مع بعض الأحزاب إلى مستوى التحالفات الإستراتيجية. بدون هذه التحالفات الإستراتيجية سيكون من الصعب ربح معارك الإستحقاقات القانونية والانتخابية المقبلة، التي ستكون خسارتها وبالا على مستقبل الأمازيغية بكل أبعادها. على سبيل الختم لن ينكر أحد بأن هامش المناورة أمام الفاعل الأمازيغي بدأ يضيق وبشكل متسارع، وسيكون من الصعب مواجهة التحديات المقبلة باستراتيجية رد الفعل أو استراتيجية النعامة. وحده الوعي بأن الإستحقاقات المقبلة مصيرية بكل المقاييس، يمكنه تحرير العقول من أغلال خطابات وممارسات تجاوزتها الأحداث، في أفق التأسيس لعمل أمازيغي عقلاني براغماتي بنفس استراتيجي. * عبد الله حتوس