بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد: الراجح والمرجوح بحث أصيل في دراسة الخلاف الفقهي خاصة؛ ويحتدم النقاش عندما تكون الحاجة ماسة إلى متعلقات تطبيقاته العملية لأحكامه وأثناء تنزيلها في الواقع على أعيانها. مما يؤكد الحاجة الماسة إلى شيوع فقه تنزيل الأحكام وتبسيطه وبسطه في مناهج التدريس وتعميمه ما أمكن وفشوي آداب الخلاف وأهمية الاختلاف في زمن المتغيرات وكثرة النوازل والمستجدات. وانبنى هذا النظر على قواعد اعتبار تقديم المرجوح على الراجح؛ أو اعتبار الراجح ما قوي دليله؛ وجمع بين الممكن الأيسر والأحوط الأنفع؛ والنظر عند تعارضهما أيهما يقدم؛ دائما بالنظر إلى الأدلة المستند إليها لدى المختلفين؛ الداخل تحت سرادق تحقيق المناط والأخذ بعين الاعتبار الواقع بمأخذه الشرعي. كما أن علماء الأصول والفقه تداولوا في هذا الصدد مصطلح المشهور: هل ما اشتهر أولا في المذهب أو بين المذاهب وهل المشهور هو ما ذهب إليه الجمهور واشتهر بينهم عمليا أو إفتاءً أو قولاً أم أن المشهور ما قوي دليله وإن خالف رأي الجمهور – وإن كان هذا نادرَ الوقوع- إذن لفظ المشهور دائما هو الراجح أو قد يكون مرجوحاً. ثم ما كان مشهوراً أو راجحاً في وقت لأمور معتبرة هل قد يصبح مرجوحاً أو غير مشهور لاعتبارات مؤثرة. ونصدِّر المسألة التي نحن بصددها بقول للإمام الشاطبي في غاية الدقة والتحقيق نبني عليه اعتبارات هذا المقال ونقوي به الرأي الأصولي الذي نقترح من خلاله ما نراه -رأي طالب علم يسعى للمزيد من التعلم ابتداءً وانتهاءً- أسلم وأنفع في المسألة. قال الإمام أبو إسحاق الشاطبي في سياق التمثيل للاستقراء الشرعي: “فإن الشريعة قررت أن لاحرج علينا في الدين في مواضع كثيرة؛ ولم تستثنِ منه موضعاً ولا حالاً؛ فعده علماء الملة أصلاً مطرداً وعموماً مرجوعاً إليه من غير استثناء ولا طلب مخصص؛ ولا احتشام من إلزام الحكم به؛ ولا توقف في مقتضاه؛ وليس ذلك إلا لما فهموا بالتكرار والتأكيد من القصد إلى التعميم التام” [الموافقات: 4/ 69] إذا الأصل أن من القواعد الأساسية والمقاصد العامة التَّشوُّف إلى الأخذ بالأيسر ما أمكن أو اليسر إذا تعذر الأول؛ من اعتبار تقديم المرجوح على الراجح عند الاختلاف الأصل في الأخذ بالأحكام عند اختلاف الأئمة هو الأخذ بالأيسر أو بالأحوط؛ من غير نكير ولا تخطيئ بشروط لكل منهما. أولاً: من شروط الأخذ بالأحوط عند الخلاف: – اعتبار حفظ مصلحة الآخرة لكلا الطرفين – اعتبار حفظ مصلحة عامة في الدنيا لا تؤثر على مصلحة أخروية. – اعتبار حفظ مصلحة أحد الطرفين بحيث لا يتأثر الطرف الآخر؛ فَيُؤخذ بالأصلح لأحدهما والصالح للآخر ما لم يجلب لأحد الطرفين مضرة أو مشقة زائدة أو مفسدة أخروية. ثانياً: من شروط الأخذ بالأيسر – اعتبار المشقة غير المعتادة لكلا الطرفين فإن الشريعة متشوفة إلى الأيسر ما أمكن وإلا الأخذ اليسر عند تعذر الأيسر في جل أحكامها؛ إذ لا تكليف بما لا يطاق والدليل على ذلك أكثر من أن يحصى. – اعتبار الأيسر للطرف الضعيف ما لم يؤدي إلى المشقة الزائدة على الطرف الآخر. وإلا يتم اعتبار اليسير للطرفين ما لم يعد على أحدهما بمضرة أو مفسدة أخروية. – أما الأخذ بالأيسر لأحد الطرفين والمشقة للآخر مع إمكانية الأخذ باليسر لهما معا فليس من العدل. – أما إذا كان يجلب لأحد الطرفين المشقة أو لكلاهما فيؤخذ بما يدفع عنهما المشاق معا. – وإن كان لا بد من المشقة فندفع الأكثر مشقة؛ ما لم يكن فيه وعنت أو حرج وكلفة تكاد تخرج عن المعتاد. ثم نأتي إلى مسألة زكاة الفطر: أولاً: الأحوط افتراضاً ما رآه الجمهور للنص الصريح. لكنه مدخول بعدة اعتبارات: – إن الأيسر في زمن التشريع وبعده بمدة كان هو إخراجها طعاماً – ومن المشقة في ذلك الزمن طلب إخراجها نقدا للحاجة الماسة للطعام أكثر منه للنقود. – إن تبادل الطعام بالطعام كان أكثر شيوعاً وانتشاراً من تبادله نقداً فكان الأيسر أن ينص الشارع على الطعام دون النقد مراعاة للأفضل والأيسر للمزكي والآخذ معاً. فرجع اعتبار الأحوط إلى ما كان أيسر للآخذ والمعطي؛ وما كان أقل مشقة بينهما. ثم يأتي النظر في الأيسر للآخذ المحتاج والمزكي. – مما لا شك أنك إذا سألت محتاجاً أو إطلعت على حاله خاصة في المدن تجده أحوج إلى النقود منه إلى الطعام لاعتبارات منها: – أن النقود تمكنه من التصرف في شراء ما هو في حاجة إليه دون حرج أو تبخيس؛ أما إذا أعطي طعاما وهو ليس في حاجة إليه فيتحرج من بيعه أو يبخس ثمنه؛ أو لا ينتفع به يوم عيده خاصة إذا كان إخراج الزكاة في ليلة العيد. أما النقود فيمكن أن يشتري بها ما يغنيه عن السؤال يوم العيد من يومه من غير حرج. – إن النقود لا تنقص قيمتها في لحظتها بخلاف الطعام التي يتعرض للمساومة والشطارة في الغالب الأعم. فعلى العموم الغالب أن النقود أصلح وأيسر وأنفع للآخذ المحتاج في المدن؛ وتكون أحسن له أيضاً في القرى الشبه حضرية إذا أخرجت الزكاة بأيام قليلة من العيد؛ سواء انتفع بها يوم العيد أو بعده. الحاصل أن الأصل الأنفع للآخذ هو النقود حتى يثبت العكس؛ بالنظر إلى حاله تقديراً أو سؤالاً؛ وما كان أصلح له فهو الراجح إن طعاماً فطعام؛ وإن نقوداً فنقود. هذا إذا كان المزكي غنياً يتيسر له الأمران من غير مشقة عنه. أما إذا كان المزكي لا يتيسر له إلا الطعام فهو الأولى ولا يتكلف لبيع طعامه ليخرج زكاته نقدا ولا تَحْرِيجٍ. * رئيس مركز بحث للقيم والدراسات المعرفية