تاريخ الإنسان في هذا العالم يتحدد بتاريخ علاقته بالماء، أو بالأحرى بتاريخ الماء ومنسوبه ومدى وفرته أو نذرته أو حالة الكفاف، لأن مكانة الماء لدى الإنسان سامية، ورمزيته لا تقدر بثمن. إنه أصل الحياة والوجود. وسوسيو-أنثروبولوجيا انتقل الإنسان من الطبيعة إلى الثقافة والنظام والمجتمع المدني، من خلال جملة من الوسائط المادية والرمزية والتنظيمية والتدبيرية للعناصر الحيوية والمجال. إذ إنه ابتكر منظومة من الوسائل والأدوات عبر مساره الطويل وأنساقا رمزية تشمل الأسطورة والدين والفن واللغة والفلسفة بغاية التكيف مع محيطه والاندماج فيه واستثماره لتحقيق حاجاته ورغباته التي لا تنتهي. فكيف يتمثل القروي الماء، وما أهميته ومكانته؟ وما الآثار المترتبة على حضوره وغيابه أو نذرته؟ القروي: معاناة لا حد لها يعيش القروي والقرية المغربية اليوم وفي مجموعة من المناطق حالة التهميش والعزلة والفقر والهشاشة، ظواهر تتجلى في جملة من المشكلات التي تجعل القروي معزولا عن المدينة وعالما وخدماتها على علاتها، ومن أهميها ارتفاع نسبة الهدر المدرسي ونقص الخدمات الطبية للقرب وتفشي النقل السري والسكن العشوائي وضعف المسالك والطرق وغياب الربط بقنوات الصرف الصحي والتخلص السليم من النفايات وغيرها. وتعود هذه الظواهر إلى عوامل طبيعية مناخية وأخرى سياسية في ارتباطها بالاجتماعي والاقتصادي والثقافي. وفي هذا السياق، يشكل الماء عنصرا حيويا للاستقرار والإعمار لدى الإنسان، وموردا لإنتاج الثروة والسلطة والنفوذ والرمزي الطقوسي، مما جعله محط صراع دائم وحروب طاحنة مفتوحة على الممكن والاحتمالي واللامتوقع في الآن نفسه، وخاصة في لحظات الوفرة مثل الفيضانات أو في حالة الندرة مثل الجفاف. وما يزيد من أهمية الماء، كونه المنتج الأساس للثروة في المجتمعات الفلاحية والزراعية، إذ إنه يصنع الجاه والثروة ويخلق فرص الشغل وينشط دورة الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية. بناء على ذلك، الماء بالنسبة للقروي مصدر تشكل النظرة إلى الكون إلى جانب الأرض وما تولده من انبناء للذات عبر العندية والتملك. وتتحدد مكانة القبيلة برجالها وكرمائها المالكين للخير (الأراضي الخصبة) والخيل في ارتباط باستغلال المياه وما يترتب عن ذلك من علاقات إنتاجية وسياسية وثقافية واجتماعية. مفاعيل ماء السماء يحدد ماء السماء نمط حياة عيش السكان المحليين وشروطه وإيقاعه ووتيرته ومظاهره، بشكل أساسي، لأن معدل الأمطار السنوي ومدى انتظامه على مدار السنة هو ما يسهم في طبيعة الأنشطة الفلاحية والزراعية وعلى أساس وفرته أو نذرته يبني القروي نجاحاته واخفاقاته، بالنظر إلى كمية المحاصيل الزراعية التي تشمل الحبوب والقطاني والخضراوات المعاشية والتسويقية الموجهة للسوق الداخلي أساسا. إضافة إلى ذلك، فإن ماء السماء ليس عنصرا طبيعيا وحسب، بل يتحدد أيضا بأبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وأخلاقية ودينية مركبة ومتداخلة. يتعلق الأمر بنظام متكامل العناصر يتفاعل فيه الطبيعي مع الثقافي الإنساني؛ حالة الحضور: السنة المطيرة النظام أعلاه، هو الذي تتشكل منه البنيات الذهنية ونظرة القروي لذاته ومحيطه الاجتماعي والفيزيائي والكون. يتحول الماء إلى منتج للاجتماعي ويصير المجتمع مجتمع استمطار لا مجتمع استثمار على حد تعبير السوسيولوجي الحبيب المعمري أي مجتمع قدري ينتظر رحمة السماء وما تجود به من أمطار، بمعنى أن مصير أفراد المجتمع يتوقف على انتظار السماء في تعطيل شبه تام للعقل ومبادئ الاستثمار. لذلك، فكلما كانت السنة مطيرة ونسبة التساقطات منتظمة، كلما كان ذلك تعبير عن الخير والرفاه والمال والبنون، وكثرة المراعي ورؤوس الأغنام والأبقار، وكمية المحاصيل من جهة، وارتفع معه المستوى المعيشي ومعه عدد الزواجات ومظاهر الاحتفال والتباهي بين العائلات والقبائل في مظاهر الصداق والأطباق المقدمة والفرق الموسيقية التقليدية أو العصرية المشاركة، وكلما ارتفعت نسبة الولادة وارتفع عدد السكان والسكنيات، وظهرت الأسر النووية داخل العائلة الممتدة. حالة الغياب: الجفاف وفي المقابل، كلما تعددت مظاهر الجفاف ونذرة المياه، كان ذلك نذير شؤم وتفسخ أخلاقي يعزى، في ظل مجتمع الاستمطار، إلى قوى شيطانية أو غيبية شريرة وبعد الإنسان عن الله وتعاليم الدين الإسلامي وقيمه. وبهذا الصدد، يحاول القروي البحث عن بدائل ممكنة من أجل سد حاجاته الأساسية، وتكون الهجرة واحدة من هذه الحلول. إذ نتيجة لسنوات الجفاف يتخذ القروي قرار الهجرة بعد معاناة كثيرة وتردد وحيرة هوياتية، فيها يعيش تجربة التخلي عن “البلاد” الأرض والناس والانسلاخ عن الأصل للالتحاق بالمدينة أو الخارج، بحثا عن حياة أفضل؛ وهو ما ينتج عنه ظهور جملة من التحديات المرتبطة بالاندماج والتكيف، لأن القروي يحمل معه ثقافته ومجتمع الوفود ووسط الاستقبال له ثقافة مغايرة، ثقافة مشبعة بالوصم تجاه القروي في كثير من الأحيان، من سلوكياته وتصرفاته ولغته ولباسه ونمط عيشه، وهو ما يثير ردود أفعال عكسية. وبعد ذلك، يعيش القروي تجربة الصراع من أجل الوجود وإثبات الذات ونزع الاعتراف، من خلال السعي إلى الحصول على فرصة شغل وما يسفر عن ذلك من سلوكيات وظواهر في حالة عدم الحصول عليها، السكن العشوائي واحتلال الملك العام والجريمة والتطرف الديني والفقر وغيرها. ماء الدولة: الرهانات يتمثل القروي كل هذه القضايا ويفهمها، في الغالب، خارج مفهوم الدولة وسياستها العامة والعمومية والقطاعية ومؤسساتها السياسية والإدارية في مجال الفلاحة والزراعة وتربية المواشي وباقي الأنشطة المدرة للدخل. مع العلم أن الدولة هي التي تملك الماء وتدبر الملك المائي العمومي قانونيا “الظهائر الشريفة 1914، 1919، 1925، وقانون الماء 10-95 المعدل بقانون 10-15 الصادر بالجريدة الرسمية عدد 6494 سنة 2016” وتسمح باستغلاله وترخص لمن يدبره. كما أن الدولة ذاتها، غالبا ما، تبني قانون المالية السنوي على تنبؤات فيزيائية ومتغيرات مناخية مثل تساقط الأمطار وتوقع في ارتفاع المحاصيل الزراعية وازدهارها؛ وهو ما يتنافى مع منطق الاستثمار والاستراتيجيات الفلاحية والزراعية العقلانية والعلمية، وما توظفه من إمكانات مادية وبشرية في المكان والزمان بغاية ضمان الحاجات وتحقيق التنمية المحلية والشاملة. * طالب باحث في ماستر سوسيولوجيا المجالات القروية والتنمية جاري النشر… شكرا على التعليق, سيتم النشر بعد المراجعة خطأ في إرسال التعليق المرجو إعادة المحاولة