مر بالشعر العربي كثيرون، وكثيرون منهم عباقرة “وفطاحل” في عالم الشعر، غير أن واحدا فقط، أثار من الضجيج والحب والكراهية والإعجاب والرفض، ما لم يثره الآخرون. هو نزار قباني شاعر الحب والمرأة، والوطن وديوان العشق العربي على مدى خمسين عاما، توفي في الثلاثين من أبريل سنة 1998، وترك لنا 25 ديوانا وكتابا، من أجمل ما كتب في الشعر العربي، وشجون الإنسان العربي. عرف نزار قباني في شرق الوطن العربي وفي غربه، وقرأ له رجال ونساء، وأعجب به صغار وكبار، وصارت دواوينه، مثل روايات إحسان عبد القدوس، مما يزرع في المخدة أو يهجع في السرير. المدلل ولد نزار قباني سنة 1923، في “مئذنة الشحم” في دمشق، ليعيش طفولته مدللا بين إخوته، في منزل الدمشقي الأصيل، وهو من البيوت الشامية القديمة، ويتكون من طابقين، أحدهما باحة مكشوفة مصنوعة من الرخام والأعمدة الرخامية، التي يتسلقها الياسمين الأبيض والورد الأحمر وفيها شجر الليمون، وفي منتصف الباحة نافورة مياه. نشأ نزار في هذا الجو الرومانسي الجميل تربطه بأمه علاقة حميمة، فقد ظلت ترضعه من صدرها حتى بلغ السابعة من عمره، وتطعمه الطعام بيدها حتى بلغ الثالثة عشرة من عمره، حتى قالوا عنه أنه يعاني من عقدة” أوديب” عاشق أمه، حتى أن بعض العلماء النفسيين أخذ يطبق علم النفس على شعر نزار، ويرى أن سر استعماله كلمة “نهد” هو طول فترة رضاعته. وعندما كان في الثالثة عشرة من عمره كان ضيوف أبيه يسألون:”ما هي اهتمامات نزار؟” فيجيبهم والده بكل بساطة:” ابني يريد أن يكون شاعرا” فيتغير لون سائليه، ويتصبب العرق البارد من جباههم ويلتفتون إلى بعضهم قائلين :”لا حول ولا قوة إلا بالله…قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا”. لكن نزار لم يبدأ حياته شاعرا بل بدأ بأشياء فنية أخرى مثل الرسم، وكان مولعا بالألوان ويصبغ الجدران بها. وأدرك أنه لن يكون رساما عبقريا، فقرر أن يجرب الموسيقى والتلحين، فأحضر عودا وطلب من أمه أن تأتي له بأستاذ يعلمه العود والموسيقى. وبدأ يتلقى دروسه الموسيقية. لكن الأستاذ بدأ معه بطريقة غير موفقة. فقد بدأ يعلمه النوتة الموسيقية، وهي علم مثل الرياضيات، حسب قوله، وهو يكره الرياضيات. ميلاده الشعري كان عمره 16 عاما، عندما سافر سنة 1939، رحلة بحرية الى روما مع المدرسة، وأثناء وقوفه على سطح السفينة، شاهد الأمواج والدلافين، وهي تقفز حول الباخرة فجاءه أول بيت شعري ثم الثاني والثالث والرابع، وهكذا . فنزل سريعا وكتب الأبيات كي لا ينساها ولا تضيع واضعا إياها طي الكتمان حتى لا يسخر أصحابه. ونام تلك الليلة، ولأول مرة في حياته، يوم 15 غشت، شاعرا للمرة الأولى واستيقظ وهو شاعر أيضا. التحق نزار بكلية الحقوق لدراسة القانون، إلا أنه لم يمارس القانون ولم يمارس قضية الدفاع في حياته إلا عن قضية واحدة وهي قضية المرأة. عندما كبر نزار قباني وصار شابا لم ينفصل عنه الطفل، بل كبر معه بكل سلوكياته الصاخبة وأنانيته. وعندما فشل في أن يكون رساما أو موسيقيا، قرر أن يكون شاعرا، وهو يعرف تماما أن التفرد لن يكون إلا بالاختلاف، وهي موهبة لا يجيدها كثيرون. ومنذ ديوانه الأول ” قالت لي السمراء” الذي أصدره نزار القباني، الطالب في كلية الحقوق، على نفقته الخاصة، أثار هذا الصوت المختلف جدلا عنيفا، وصفه نزار فيما بعد: “لقد هاجموني بشراسة وحش مطعون، وكان لحمي يومئذ طريا”. ويسهل أن نتصور رد الناس على شاعر لم يبلغ العشرين من عمره يتوجه لهم بقصيدة عنوانها “خبز وحشيش وقمر”، ينتقد فيها سلوكياتهم. فقد هلل أناس للقصيدة بينما طالب آخرون برأس من قالها، ويبدو أن الضجة أثارت شهية الطفل الشاب نزار ووجدها أول سطر في كتابه الأسطوري. العمل الدبلوماسي تخرج نزار سنة 1945 في كلية الحقوق في جامعة دمشق، ثم التحق بوزارة الخارجية السورية، وانتقل في العام ذاته الى القاهرة موظفا دبلوماسيا في السفارة السورية. وكان عمره آنذاك 22 عاما، وكانت القاهرة في ذروة نضجها الثقافي والصحافي والإذاعي. وكان نزار يحمل في جعبته ديوان شعر جديد اسمه خارج عن المألوف في عالم الكتاب وهو” طفولة نهد”. وكانت صياغته الشعرية غير مألوفة أيضا، في ذلك الزمان. قدم نزار الديوان لثلاثة من نجوم الفكر والصحافة والنقد، وهم: توفيق الحكيم وكامل الشناوي وأنور المعداوي، الذي تحمس للشاعر الشاب، فكتب مقالا نقديا عن الديوان وحمله الى أحمد حسن الزيات صاحب مجلة “الرسالة ” المصرية ولما كانت “الرسالة مجلة محافظة نشر الزيات نقد المعداوي،لكن بعد أن غير عنوان الديوان من “طفولة نهد” الى “طفولة نهر”، فقال نزار تعليقا على هذا: وبذلك أرضى حسن الزيات صديقه الناقد أنور المعداوي وأرضى قراء الرسالة المحافظين، الذين تخيفهم كلمة النهد وتزلزل وقارهم، ولكنه ذبح اسم كتابي الجميل من الوريد الى الوريد”. وهكذا شهدت القاهرة ميلاد شاعر انطلق في بيئة تحفل بطه حسين، وعباس محمود العقاد، وعبد القادر المازني، وعبد العزيز البشري، وأحمد أمين، وبشر فارس، ودريني خشبة، وأحمد حسن الزيات، ومصطفى صادق الرافعي، ومحمود حسن إسماعيل، وبيرم التونسي، وإبراهيم ناجي، ونجيب محفوظ، ويحي حقي، وعزيز أباظة. وهكذا تعود على مصر وتعودت مصر عليه وصارت تعتبره واحدا من شعرائها أو من أولادها. لكن حياة الدبلوماسيين لا تستقر بهم، فانتقل نزار الى العمل في عدة عواصم بعد القاهرة منها: أنقرةولندن ومدريد وبيكين وبيروت . وظل نزار يعمل في الخارجية السورية أكثر من 20 عاما، حتى استقال منها عام 1966 وأسس دار للنشر في بيروت باسمه، متفرغا بذلك لقراره الوحيد، وهو الشعر. زواج وطلاق تزوج نزار بعد سنوات من انتسابه الى السلك الدبلوماسي السوري، بقريبة له هي “زهراء أقبيق: أم ابنه توفيق وابنته هدباء. وقد جاء زواجه بها في مرحلة البدء في إقلاعه نحو عالم الكفاح الصعب بسيف الشعر ونحو آفاق الشهرة. وكانت زهراء “سيدة بيت” نمت وترعرعت في بيئة اجتماعية محافظة شامية تقليدية،وكانت اتصالات ورسائل “المعجبات” قد بدأت تنهمر على نزار انهمار المطر، من شتى أرجاء الوطن العربي، وكان نزار وسيما أنيقا رشيقا قويا رقيقا في آن، ولم تكن لدى زهراء قدرة تعينها على تحمل أن يكون زوجها لها ولغيرها، فكانت تسارع الى تمزيق رسائل المعجبات به وبشعره. ولم يكن ثمة مفر من تصادم الماضي بالمستقبل الآتي الأكثر تطورا وجمالا، فطلقها نزار بالحسنى. وفي عقد الخمسينات ارتبط نزار بعلاقة، بحفيدة رئيس الوزراء السوري الأسبق فارس الخوري، كوليت خوري، ابنة سهيل خوري، النائب الأسبق في المجلس النيابي السوري.وبعد زواجها بشاب اسباني فارع الطول وسيم الملامح، أنجبت منه طفلتها الوحيدة، سجلت كوليت تفاصيل علاقة الحب العاصف التي جمعتها بنزار. وفي روايتها الأولى الشهيرة “أيام معه”وهي الرواية التي اشتراها المنتج السينمائي السوري صبحي فرحات لإنتاجها للسينما، كان نزار هو بطل الرواية. على عرش بلقيس التقى نزار “بلقيس” للمرة الأولى، ولم يكن يعلم أن عقله وقلبه سيتعلقان بها الى هذا الحد من الجنون، الذي دفعه رغم الرفض المتواصل، الى الاستمرار في التقدم لخطبتها حتى نال ما كان يحلم به التقاها في حفل استقبال بسيط في إحدى السفارات العربية في بيروت، وكان خارجا لتوه من أزمة وفاة زوجته الأولى “زهراء” الدمشقية، وولده “توفيق” الذي توفي اثر عملية جراحية للقلب في لندن، وهو لا يزال في الثانية والعشرين من عمره. وكانت ابنته الوحيدة “هدباء” قد تزوجت وانتقلت لتعيش مع زوجها في إحدى دول الخليج العربية. كان نزار وحيدا تماما وكانت “بلقيس” قبيلة من النساء. هيفاء فرعاء يكاد شعرها يلامس الأرض في استرسال لم تر عين نزار مثله. هكذا رآها، عفيفة وهدارة بشكل جعله يعود الى كتابة الشعر مرة أخرى بعد توقف دام ثلاث سنوات، لم يكن يعرف له نزار مبررا. ويقول:” لكنها بلقيس أعادت الحبر للأقلام مثلما أعادت الدماء للعروق”. تقدم نزار لخطبة بلقيس، لأول مرة عام 1962، لكن عائلتها رفضت لما كانت تسمع عن نزار أنه شاعر النساء والغزل والحب، ولم تأمن على ابنتها أن تعيش مع رجل كل كلامه عن النساء، وظل يلاحقها بإصرار شديد مدة سبع سنين،رفضت خلالها أشخاصا عديدين لأنها تحب نزار، على الرغم من أنه يكبرها كثيرا، فهي فتاة لم تتجاوز 23 عاما، وهو في سن الأربعين، وعاود الكرة عام 1969، وكانت الموافقة وتزوجا ليعيشا معا في بيروت، ورزقا بطفلين : زينب وعمر، ونعم نزار معها بحب عميق لا تشوبه شائبة ولا تعكر صفوه الأيام، حتى جاء اليوم المشئوم الذي فقد فيه نزار كل شيء. فقد قتلت بلقيس عام 1981، في حادث انفجار دمر السفارة العراقية في بيروت، وصمت نزار ليصيح وقد جن جنونه ” سأقول في التحقيق… إني عرفت القاتلين بلقيس يا فرسي الجميلة. إنني من كل تاريخي خجول. هذي بلادي يقتلون بها الخيول. سأقول في التحقيق: كيف أميرتي اغتصبت، وكيف تقاسموا فيروز عينيها وخاتم عرسها وأقول كيف تقاسموا الشعر الذي يجري كأنهار الذهب سأقول كيف استنزفوا دمها، وكيف استملكوا فمها فما تركوا به وردا ولا تركوا به عنبا هل موت بلقيس..هو النصر الوحيد في كل تاريخ العرب؟”. وبكى نزار بمرارة زوجة سقته من حنانها 12 عاما، نعم فيها بالراحة والسكينة، وصار يجمع ولديه، زينب وعمر، ويغلق بابه منذ الغروب، بعيدا عن الناس، عله يسبح بخياله فيقابل طيف بلقيس. الموت والولادة لماذا هو الشاعر الوحيد، الذي عندما تقرأ كلماته أي امرأة تشعر بأنها هي التي تتكلم ؟ ولماذا يحمل نزار لقب “نصير المرأة”؟ لماذا عاش ومات يدافع عن النساء؟ هو نفسه لا يدري، ويتساءل:” هل كان موت أختي في سبيل الحب، أهم العوامل النفسية التي جعلتني أتجه الى الكتابة عنها وعن مشاعرها وإحساسها؟ هل كان ذلك تعويضا لما حرمت منه أختي؟”. وعلى جسد المرأة صعد نزار قباني رقيقا، أحيانا، مثل الفراشة الهامسة: “حبك يا عميقة العينين حبك مثل الموت أو الولادة صعب أن يعاد مرتين” وكان يخرج من رقته أحيانا ليدخل المجال الذي يحلو للآخرين أن يصفوه بالفحش وهو داخله. ومع كل هذا، كانت لنزار قباني آراء سياسية شديدة العمق، فرأيه أن مشكلتنا في العالم العربي هو التخلف وسيادة التفكير الضيق ودبلوماسية الوساطة والتوكيلات. وعن سلوكنا السياسي العربي يقول نزار: ان سلوكنا السياسي هو مجموعة من السلبيات وسلسلة طويلة من الجبرية والقدرية، محاولة لدفع المسؤولية عن ظهورنا، وربطها بعوامل وقوى خارجية لا قدرة على دفعها أو ردها”. نحو الوطن حدثت منذ سنة 1967، انعطافه جذرية في شعر نزار، وتحول من شاعر المشاعر النسائية والجسد الأنثوي، الى شاعر سياسي. فقال في نكسة يونيو 1967، قصيدة ذائعة الصيت” هوامش على دفتر النكسة”، لكن الشاعر الكبير صالح جودت، شن عليه هجوما بالغ العنف. لم يقتصر على الوقوف ضد قصيدة نزار، بل طالب بمنع بث أعماله في مصر. ويقال ان سبب تلك الحملة هو نجاح نزار المتميز في مصر، في مجال الغناء بعد ظهور أغانيه المشهورة مثل “أيظن” و”ماذا أقول له”. ونجحت الحملة وصدر قرار بمنع أغاني نزار وأشعاره من خلال التلفزيون المصري، بل ومنع اسمه نهائيا. وصدر في الكتمان قرار بمنعه من دخول مصر، وكانت تلك القرارات بالنسبة إليه أشبه بإصدار حكم الإعدام. لكن نزار بادر وأرسل الى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر رسالة هذا جزء منها: “سيادة الرئيس، في هذه الأيام التي أصبحت أعصابنا فيها رمادا وطوقتنا الأحزان من كل مكان، يكتب إليك شاعر عربي، يتعرض اليوم من قبل السلطات الرسمية في الجمهورية العربية المتحدة لنوع من الظلم لا مثيل له في تاريخ الظلم. وتفاصيل القصة أنني نشرت في أعقاب النكسة قصيدة عنوانها “هوامش على دفتر النكسة”، أودعتها خلاصة ألمي وتمزقي ،وكشفت فيها عن مناطق الوجع في جسد أمتي العربية، لاقتناعي بأن ما انتهينا إليه لا يعالج بالتواري والهروب، وإنما بالمواجهة الكاملة لعيوبنا وسيئاتنا، وإذا كانت صرختي حادة وجارحة، وأنا أعترف سلفا بأنها كذلك، فلأن الصرخة تكون في حجم الطعنة، ولأن النزيف بمساحة الجرح. ومن منا يا سيادة الرئيس لم يصرخ بعد 5 حزيران؟ من منا لم يخدش السماء بأظافره؟ من منا لم يكره نفسه وثيابه وظله على الأرض ؟ ان قصيدتي كانت محاولة لتقييم أنفسنا كما نحن…”. وختم رسالته بقوله:” يا سيادة الرئيس : لا أريد أن أصدق أن مثلك يعاقب النازف على نزيفه، والمجروح على جراحه ويسمح باضطهاد شاعر عربي يريد أن يكون شريفا وشجاعا. في ظل مواجهة نفسه وأمته، فدفع ثمن صدقه وشجاعته. يا سيادة الرئيس لا أصدق أن يحدث هذا في عصرك”.وكان تاريخ الرسالة 30 أكتوبر سنة 1967. ونجحت هذه الرسالة من إنقاذ نزار قباني من ” الإعلام ” بعد أن أوصلها الكاتب أحمد بهاء الدين الى الرئيس عبد الناصر. وعادت أغانيه تتردد في الإذاعة التلفزيون. وعن هذا يقول نزار: “كسرت الحاجز بين السلطة والأدب”. وهكذا طاف نزار بأشرعة الشعر بحار الحب وعوالم الحرية، وخاض بقلمه غمار السياسة، يدافع عن عروبته، واضعا أمته أمام نفسها بلا تزييف أو تضليل، لا لأنه يكرههم فينتقص منهم ويقلل من قدرهم، بل لأنه يحب العروبة والعرب ولا يريد لهم الانغماس في بحر عدو لدود شمر عن ذراعيه وجمع عتاده وسلاحه وتربص به ريب المنون. ولم يبعد نزار عن قضايا وطنه، حتى عندما استقر به المقام بعيدا في مدينة الضباب، لندن، حيث كان قلبه في اتجاه عروبته دائما. وقبل الرحيل بعشر سنوات عاود نزار الحنين الى المنزل الذي ولد فيه، والى شجرة الياسمين التي علمته حب الجمال. وشد الرحال الى دمشق، حيث زار المنزل العائلي، الذي نشأ فيه وكأنه أراد أن يودع ملاعب الطفولة. وآن للغريب أن يعود الى حضن الأرض التي أنجبته. بعد أن أسلم نزار الروح في 30 أبريل عام 1998،عاد الى دمشق جثمانا محمولا بالطائرة الى الرحم التي علمته الشعر والإبداع، وأهدته أبجدية الياسمين. فقد أوصى نزار قائلا:” أدفن في دمشق، الرحم التي علمتني الشعر والإبداع، وأهدتني أبجدية الياسمين”.