لو لم يتم (اكتشاف) الزمان، ولو لم يكن تعاقب الليل والنهار، ولو لم تكن الكائنات الحية بدورها خاضعة لقوانين الزمان في جميع أحوالها، ما كان ليكون عند الانسان أي فرق زمني بين العصور كلها، ولآعتبرت عنده بمثابة عصر واحد وزمن واحد ولحظة واحدة. بحسب هذا المنطق، منطق الزمن الواحد واللحظة الواحدة، من الممكن جدا أن تتكرر الأحداث نفسها في كل مرة ولحظة؛ وما قد يحدث في مكان معين وفي وقت معين من الممكن أن يتكرر بمرور الوقت لعدة مرات غير مكترث في ذلك لعامل الزمن أو المكان. وبصورة أوضح وحتى يتضح الأمر جيدا فما كان يحدث من أحداث وما كان يجري من سلوكات وتصرفات عند بني البشر في أزمنة غابرة جدا، قد تتكرر هي نفسها بعد مضي أزمنة طويلة بصرف النظر عن مكان حدوثها. وهذا واقع لا يرتفع، ولا يمكن لأي كان أن يدعي زيفه. وما هو مكتوب ومروي عما حصل خلال الأزمنة الغابرة، زمن كان الإنسان يعتبر كل العلوم مُروق عن الطبيعة، والجمود والخنوع الأصل والقاعدة، سوف لن يختلف كثيرا عما حصل في أي زمن آخر حتى في زماننا هذا، لكن شريطة أن تتفشى فيه نفس الأفكار التي كانت متفشية في ذلك العصر. ولأن النتيجة ستكون واحدة والجمود سيكون واحد، فإنه من الجائز القول على أنه لا وجود لفارق زمني بين كل هذه العصور، بل هو زمن واحد رغم استمراره، كما لو أنه لم يتحرك لحظة واحدة. وقد يتبدّى من خلال كل هذا على أن الزمن نفسه، وتعاقب الليل والنهار، ومرور الأيام والساعات ليس بشواهد أو فواصل يمكن أن تميز بين الأزمنة والعصور. إذ أن هناك أمور أخرى ربما أكثر أهمية، هي التي تجعل عملية الانتقال عبر مجرى الزمن تتم بشكل صحيح وبسلاسة تامة متوافقة مع المجرى الصحيح للكون كله. وإذا ما كانت هناك أمور تدفع التاريخ والزمن دفعا للمضي قدما، فإن هناك أمور أخرى تقوم بدور معاكس ومخالف لما تقوم به هذه تماما. إذ بالإضافة إلى المساهمة في تعميم الركود فهي تعمل أيضا على تكريس التقهقر خلفا وإلى أن يكون الزمن كله وحدة واحدة. (صورة تقريبية للحكيمة هيباثيا) يحتفظ التاريخ بالعديد من الأمثلة والقصص الواقعية التي تحاكي وتوضح هذه الحقيقة. ولعل أبرز هذه الأمثلة ما حدث في أحد الأزمنة التي لولاها لما أشير ولما عرف هذا الزمن الذي وقعت فيه بتاتا. ففي الوقت الذي كانت فيه الامبراطورية الرومانية غارقة في الجهل والضلالة، وكان أتباع الدين المسيحي يبحثون في طبيعة المسيح، بشرية هي أم إلهية، كانت العلوم التي قطعت أشواطا طويلة امتدت منذ العصر الإغريقي، يضيّق عليها الخناق إلى الحد الذي جعل الفتك بالعلماء فرض واجب على أتباع الدين الجديد. ففي القرن الرابع الميلادي في مدينة الاسكندرية الموجودة بمصر والتي كانت تابعة إذاك إلى الامبراطورية الرومانية كانت توجد بها أكبر مكتبة يقصدها طلاب العلم من كل حدب وصوب، يديرها العديد من الفلاسفة والعلماء وعلى رأسهم امرأة تسمى هيباثيا. لم تكن هيباثيا هذه، تهتم بأي شيء قدر اهتمامها بالحقيقة التي كانت قد لامست سويداء قلبها؛ حتى أنها ذات يوم، كما يحكى عنها، سألوها عن سبب عزوفها عن الزواج رغم جمالها وتعلّمها، أجابت أنها قد تزوجت الحقيقة. لكن هذه (الحقيقة) هي التي كانت السبب المباشر في الفتك بها. إذ أن من اصطفوا وراء الجهل والضلالة، رأوا في كل ما هو مخالف لهم ولتوجهاتهم جسم دخيل يهدد كيانهم ووجودهم ومن الواجب أن يزول بأي طريقة كانت. لم يكن هذا وحده السبب المباشر وراء النفخ على نور الحقيقة حتى لا يتم، بل إن ما كانت تتمتع به من ذكاء وما كانت تحظى به من احترام وسط النخبة الحاكمة بسبب ما أحرزته من تقدم في العلم جعلها تشكل على (السلطة الدينية) خطرا داهما، سيما وأنها تحابي الجانب الآخر أي (السلطة الدنيوية). ومن المفترض أن تجعل كفة هذه، راجحة على الأخرى بسبب ما كان لها من أتباع خاصة في وسط النخبة المثقفة والحاكمة. ولأن العصر كان عصر عبودية ونكوص فقد كان الإنسان يبحث عن أي قشة يتمسك بها علّها تُنجيه. وأمام هذا، ما كان لهيباثيا أن تتبدل لديها الحقائق بحقيقة أخرى لا توافق مبادئها لكي تتزوج مرة أخرى مكرهة غير طائعة. رحلت هيباثيا ورحلت معها كل الحكمة والفلسفة، وأُحرقت الكتب والمؤلفات، ودمرت المكتبة التي كانت تحوي العديد من الكنوز ليبنى محلّها كنيسة ما فتئت أن عادت بالناس إلى الوراء قرونا طويلة. وتمّ الضغط على الزمن كله حتى عاد إلى الخلف، ولم يعد له عنوان أو اسم أو لحظة محددة سوى اللحظة التي عاشت فيها تلك الحكيمة. ليس هذا وحسب بل إن الزمن قد تقوقع في مكانه وتجمّد، ورفض أن يستمر، ليس حزنا على هيباتيا أو المكتبة أو بسبب لعنة حلّت عليه، ولكن بسبب حلول العوامل الحقيقية للجمود محل الأسباب الحقيقية للتطور والرقي. لكن الحقيقة دائما ما تعود لتسطع من جديد، ليستمر الزمان ويستمر التاريخ في المجرى الصحيح لهما. إذا، الخلاصة واضحة جدا من هذه الحكاية. فبعد مرور زهاء 17 قرنا من الزمن على وقوعها ومع ذلك لا يوجد أي فرق يذكر بين ما كانت عليه مدينة الاسكندرية زمن “هيباثيا”، وبين ما هي عليه الآن. كما لو أن الزمن بالنسبة إلى هذه المدينة لم يتحرك أبدا. فالظروف التي كانت سائدة، وكانت سببا في حصول تلك الحادثة وحوادث أخرى مشابهة، هي نفسها التي ظلت سائدة ومسيطرة. وكما هو معلوم فإذا ما تشابهت ظروف معينة وأسباب معينة فإنه على الرغم من اختلاف الأزمنة ستكون النتيجة واحدة.