كان المسلمون كثيري التعلق بشهر رمضان، يهتمون به شهورا قبل إبانه، وأقلهم كان يهتم به شهرين، طيلة رجب وشعبان، فيكثرون من ذكره، ومن الصيام استعدادا له، ويطيلون النفَس في الدعاء والضراعة إلى الله بتبليغهم إياه، وكلهم شوق لاستقبال نسماته، والتفيئ في ظلاله، والتبرك بنفحاته. والملاحظ على غالبية المسلمين اليوم، الإعراض عن كل هذا التعلق القَبلي، وإذا ما حلّ رمضان، وكأنه لا يأتي إلا فجأة أو حين غفلة، اهتموا بمطعومات رمضان، واعتنوا بألبسة رمضان، وقليل منهم من تأمل في خصوصيات رمضان، وعظمة الصيام، وروحانية الشعيرة، وكأنه شهر كسائر الشهور، وليس شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النيران. وبدل أن يكون شهر رمضان شهرَ الإمساك عن الطعام، وشهرَ الانصهار في روحانية العبادة، صار شهرَ الاهتمام بالطعام، حتى الحكومات تتجند بكل أجهزتها لضمان رواج السلع وعدم شحها، والتجار يجلبون ما لذ وطاب من أقاصي الأرض وأدانيها، ويعيش بعض المسلمين شهرا كاملا في مهرجان الأكل، ويصِلُون في الغالب إلى درجة التبذير والإسراف. ويعضدون ذلك بالانفجار العظيم في مهرجانات الضحك والسخرية والغناء والسهرات، تسهم في ذلك القنوات العمومية والخاصة والجمعيات والمنتديات والمواقع بتعدد مشاربها وألوانها، وهذه الممارسات تحاول أن تجذب الإنسان إلى درجاته الطينية بكل ما أوتيت من قوة، وتمنعه من الارتقاء في معارج الروح. إنها باختصار شديد، تعمل على إبقاء الإنسان في درَك “بؤس الدهرانية” إذا استعرنا عبارة الفيلسوف الكبير طه عبد الرحمن. وإذا حاول أحد الابتعاد عن هذه التفاهات، فإنه يجد نفسه–في أحسن الأحوال- أمام قراءات لا تتجاوز قراءة الظاهر، والتمسك بمكرور الكلام، وهو ما يؤدي إلى تعميق الصورة البسيطة أو المشوهة عند المتلقي حول هذه الشعيرة القدسية، وإذا ما استأنس بها حصل له نفور واستغراب من الخطاب المتعالي الملائم لعلياء الصيام وسموه. إن القراءةالتبسيطية لعبادة عميقةِ الروحانية، جليلة المعاني، لن تسهم إلا في “تطقيس هذه الشعيرة الجوهرة بإفراغها من ألَق قيمها ورونق فضائلها” حسب عبارة الصديق الدكتور التهامي الحراق. هذا الواقع الدهراني البئيس، يفرض علينا العودة إلى نصوص الوحيين لمساءلة واقعنا، هل نصوم صياما حقيقيا؟ وهل نرتقي بالصيام أو يرتقي بنا إلى مقام طُهرةالروح، وزكاةالنفس؟ حري بالإنسان أن يراجع نفسه مع هذه الأسئلة الحارقة وأمثالها حتى يزعزع بدهياته الخاطئة، ويخلخل مسلّماته المنزاحة عن روح الشرع ولبّه، فيفرمل جنوحه المتطرف نحو مُكَوّن الطين فيه، ويوجّه بوصلته نحو مكون الروح، وهو مجال التزكية، “قد أفلح من زكاها”، ولا فلاح إلا في ذلك. للصيام الإسلامي معان روحية سامية، وأسرار ربانية سَنية، وجب علينا الالتفات إليها، والاهتمام بها، والترقي في معارجها، حتى نرتقي بصيامنا من درجة العادة إلى درجات العبادة، ومنها نحلق عاليا في المعاني الفسيحة، والإشارات المليحة، حتى نتذوق شهد العبودية ولذتها. فما هو الصيام؟ ولماذا الصيام؟ الصوم عبادة بدنية، ذات أبعاد روحية زكية، مارسها الإنسان في الديانات المتعددة، ومارسها المشركون أيضا، وشرعها الله للمسلمين، على اختلاف في النوع والكم بين صيام أتباع الشرائع. وحقيقتُها الإمساك عن اللذات الثلاث: المأكل والمشرب والمنكح. والعبادات عادةً تكون أفعالا وممارسات، والصوم استثناء منها، لأنه تركٌ وامتناع، وليس فعلا من الأفعال. وبما أنه امتناع، فقد صاحبته النواهي ولم تصحبه الأوامر، “إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب”، “الصيام جُنة، فلا يرفث ولا يجهل”، “من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه”. والصوم ليس فردا كالصلاة أو الزكاة، وكأني به يتمثل قوله تعالى: “رب لا تذرني فردا”، فجعل الله تعالى معه عبادات أُخَر، لا تكون مجتمعة إلا معه، مثل: 1. ملازمة القرآن، والإكثار من تلاوته مقارنة بباقي أزمنة السنة وشهورها، وشهر رمضان هو شهر الصيام وشهر القرآن. 2. البذل والإنفاق بسخاء، والإحساس بالمحرومين ومؤازرتهم، والعطف عليهم، و(كان صلى الله عليه وسلم أجود ما يكون في رمضان)، وختْم الشهر الفضيل بالإنفاق الواجب، والإحسان الإلزامي، قبل التوجه إلى صلاة الفرح والبهجة، طهرة للصائم وإيذانا بقبول الأعمال. 3. قيام الليل، تهجدا وتخشعا وإخباتاوتضرعا. تراويح تستروح بها الجماعة وتستريح -بالتلذذ بها- من وعثاء اليوم وشغله، تحقيقا لمعراج روحي لا نظير له ولا مثيل. 4. الاعتكاف، انقطاعا كليا لله ومع الله في بيوت الله، مرابطةً ورباطا في المسجد، وقطعا للنفس عن العلائق. قال فيلسوف الإسلام أبو الحسن العامري عن الصيام: “ثم جُعل من رتبته الإنفاقُ على كل من يتصل بحمله مُزَكّيا، والقيام في لياليه متهجدا، والاعتكاف في المساجد المأهولة متقربا، ثم خُصَّ لانتهائه عبادة تدل هيئتها على عز الدولة، ونباهة حال الملة، وشرف الجود بالقُنية، وأخذ الحظ من السرور والبهجة، بعد الذي يُسّر له من الزلفى والقربة، وليس للأديان الأُخَر في صيامهم مثل هذه الرتبة الحميدة”. هذا من حيث ماهية الصيام وما يرافقه من العبادات والقربات، كلُّها متعلقة بالروح تربية وتزكية وتهذيبا، وفطاما لها من الانغماس في شهواتها، ويبقى السؤال: لماذا الصيام؟ ولماذا التقرب إلى الله بالامتناع عن الملذات المقوية والمنشطة للجسم؟ ورد في الحديث الضعيف سندا، الصحيح معنىً ومحتوى:”لكل شيء زكاة، وزكاة الجسد الصيام”. فالصيام زكاة للجسم، والزكاة معناها في العمق حرمانُ الإنسان من جزء من ماله، ولمّا كان المال شهوةً ومتعة ولذة، يحبه الإنسان حبا جما، فإن الزكاة في المحصلة حرمان الإنسان من جزء من شهواته ومتَعه.وكذلك الصيام، فهو زكاة لأنه حرمان الإنسان من متَع وشهوات وملذات، أكلا وشربا ونكاحا. هذا ما ظهر لي في توجيه الحديث، وللحكيم الترمذي أعلى الله مقامه توجيهٌ لطيف، ملخصه: الصيام زكاة للجسم، والزكاة معناها النماء والزيادة، ولمّا كانالإنسان كائنا أجوف، مُلئ بجنود القلب كالعلم والحكمة والإيمان …، وملئ أيضا بجنود النفس كالشهوات والغضب والأنانية …، ولما كان الصوم امتناعا عن عادات النفس، كان في ذلك بذل النفس لله تعالى، والتسليم له، فإذا قبلها زكَت بما أعطيت من الإيمان والخيرات. هذه الزكاة والنماء مرادف للبركة، وبينهما علاقة تلازمية،إذا حلّت البركة في الجسم زَكَا ونَمَا ورَبا فيه كل شيء من الخير، وقد جعل الله تعالى الصيام سببا لحلول البركة، فينعم بها الصائم شهرا كاملا، ويصوم ستا من شوال، فينعم بها عاما كاملا. لكن، كيف تحل البركة في الجسم؟ ومن أين له تلك البركة؟ حري بنا أن نتذكر عظمة الله وقدرته على إحلال البركة في أي جسم شاء، متى شاء، كيف شاء، دون ربط ذلك بالأسباب والمقدمات والنتائج والطرد والعكس، لكنه سبحانه وتعالى آثر أن يجعل ذلك رهينا بعالم الأسباب، فأمرنا بالسحور إرشادا لنا إلى محل البركة ومصدرها، فقال الرسول المبارك صلى الله عليه وسلم: “هلم إلى الغداء المبارك”، وقال: “تسحروا، فإن في السحور بركة”. لذا لم يكن الالتفات إلى ذلك الطعام من حيث الكثرة والقلة، أو من حيث الشبع والجوع، أو من حيث اللذة وعدمها، كما جرت العادة في عامة المأكولات، بل لا التفات إليه إلا من زاوية البركة وكفى، لذاورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يفيد الاعتناء به ولو كان أقلّ القليل: “السحور بركة فلا تدعوه ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء”، وورد مرسلا “تسحروا ولو بلقمة”. وسبب البركة في السحور كما قال الشيخ الأكبر في الفتوحات المكية، أنه مشمول بالأمر به، والنهي عن تركه، وليس ذلك الحكم لغيره من المأكولات. ومن معاني الصيام أنه جُنّة كما ورد في الحديث، والجُنّة الوقاية والحماية، وكثيرا ما حاول أرباب المنابر تقريب الحديث إلى الناس بلغة الدنيا، ومعايير المادة، وابتعدوا عن لغة الآخرة، ومعايير الروح، فحصروا جُنّتَه في الوقاية من الأمراض والأسقام، وكأنهم يُرَغبون في الصيام كما يرغب الطبيب في الحمية، وقد يكون هذا المعنى سائغا انطلاقا من مبدأ تعدد معاني النص الواحد، وسعة المعاني الوحيانية وعدم ضيقها، إلا أن تتمة النص وتكملته لا تسعف بذلك المعنى، فالصيام جنة بلغة الآخرة لا بلغة الدنيا، وبعض متون الحديث فيها: “الصيام جنة من النار”، وبعضها قرن بين الجُنة وبين بذيء الأقوال: “الصيام جنة، فلا يرفث ولا يجهل”، قال ابن الوحشي في شرح الشهاب: “الصيام يقي الصائم حر النار يوم القيامة، كما يقي أحدَكم المِجَنّ والدرع والجراح، ويكره للصائم أن ينطق بالكلام القبيح والخنا، وإن كان ذلك مكروها من جميع الناس، فهو أقبح في الصائم، كما أن الضحك في المقابر أشد في النهي من سائر الأماكن”. وحقيق بالإنسان أن يرتقي في صومه وبصومه حين يدرك مسألة ربط الصيام بالنار وجعله مانعا منها، كما أنه وسيلة للدخول إلى الجنة التي خُصَّ باب من أبوابها للصائمين، وهو باب الريان. فلماذا هذا الجزاء الأوفى؟ ولماذا لم تُخصص أبواب الجنة الأخَر للمصلين أو المُزَكّين أو الحجاج؟ جعل الله تعالى عبادة الصيام أشرف العبادات وأفضلها، فأضافها إلى نفسه تفضيلا وتفضُّلا، فقال: “كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به”، ولم يضف الصلاة إليه، بل جعلها مناصفة بينه وبين المصلي، “قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين”، فلماذا كان الصيام له جل وعز؟ بيّن أبو طالب المكي رحمه الله أن السبب في نسبة الصيام إلى الله تعالى راجع إلى ما فيه من أخلاق الصمدية، وهو ما لا يخطر ببالنا في ممارستنا الطقوسية لشعيرة الصيام، حيث لا نشعر بالترقي الذي يحصل للصائم إذا استحضر المعاني الإيمانية لهذه العبادة، وننخرط في موجة من الروتين اليومي، من اليوم الأول إلى اليوم الأخير من رمضان، دون إحساس –في الغالب- لأي ترقية أو تزكية أو تحقق بالتقوى “كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون”. لم يسعفنا أبو طالب المكي بشرح واف لمعنى الصمدية المذكور، وهو ما وجدناه لحسن الحظ عند بَلَدينا الإمام عبد الجليل القصري وتلميذه الألمعي ابن العربي الحاتمي. قال الإمام عبد الجليل القصري: “الصوم وصفٌ من أوصاف الربوبية، لا يتصف به على الكمال إلا الله كما قال: “وهو يُطعِم ولا يُطعَم”، وكما ورد في الحديث: “الصوم لي وأنا أجزي به”، فإضافة الصوم إلى نفسه، أي لا يتصف به أحد إلا الله، لأنه الغني عن الكل أبد الآبدين، ودهر الداهرين”. وقال تلميذه الإمام ابن العربي الحاتمي المرسي: “قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه تعالى أنه قال “كلّ عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به”، وقال صلى الله عليه وسلم لرجل: “عليك بالصوم فإنه لا مثل له”، وقال تعالى [عن نفسه]: “ليس كمثله شيء”، فالصوم صفة صمدانية، وهو التنزه عن التغذي، وحقيقة المخلوق التغذي”. وبيّن الشيخ الأكبر في موضع آخر من فتوحاته أن حديث “عليك بالصوم فإنه لا مثل له”، وفي رواية: “لا عدل له”، دالٌّ على بلوغ هذه العبادة درجة الكمال، لأن ما لا مثيل له هو الكامل، لذا جوزي الصائمون بالجزاء الكامل، وهو انفرادهم دون غيرهم بباب الريان المشتق من الري، وهو درجة الكمال في الشرب، حيث لا يقبل الشارب بعد الري شربا. ويبقى السؤال: متى يكون صوم الإنسان صوما كاملا يجعل صاحبه متخلقا بأخلاق الصمدية، ومتشبها بالله تعالى في صفة من صفاته العلية؟ يجيب ابن العربي الحاتمي في موضع ثالث من فتوحاته المكية: “لما كان الصوم حكماً أضافه الله إليه، وعرّى الصائم عنه مع كونه أمره بالصيام، فانبغى للصائم أن يكون مدّة صومه ناظراً فيه إلى ربه، حتى يصح كونه صائماً، لا يغفل عنه، فإن الحق لا يضيفه إليه حتى يصح أنه صوم، ولا يصح إلا بصيام العبد على الصورة التي شرع الله له فيه أن يأتي بها، فإن لم يصمه على حدّ ما شرع له فما هو صائم، وإذا لم يكن صائماً فما ثم صوم يردّه الله إليه، فإن الصائم قد يحسب أنه صائم وقد فعل في صومه فعلاً أوجب له ذلك الفعل أن يخرج عن صومه، كالغيبة إذا وقعت منه وأمثالها، فهو مفطر، أي ليس بصائم وإن لم يأكل، فإن كان لذلك الفعل كفارة وأتى بها فهو صائم، فيحافظ الصائم على هذا، فإن فيه إيثاراً للحق على نفسه، فيجازيه على قدر المؤثر به، وهو الله تعالى، فمن راعى ربه عز وجل راعاه الله تعالى، فما يكون جزاؤه إلا هو”. فالصيام الحقيقي الذي يقطع أسباب الشهوات كلها، ويمنع صاحبه من الوقوع في المحرمات كلها، يرتقي بالإنسان إلى درجة التخلق بأخلاق الربوبية، وسرعان ما يُفرض عليه الغداء مع الغروب حتى يرجع إلى مقام العبودية، ويعلم أنه ليس له في مقام الألوهية قدم، فيحس بالافتقار والتذلل إلى الله ذي الغنى المطلق، وأن حرمانه لنفسه من الشهوات والملذات لم يكن إلا لله تعالى إخلاصا له وتقربا إليه: “يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي”، كما أن الصيام في مبتدأه ومنتهاه لا يكون إلا مقرونا بالإيمان والاحتساب، “من صام رمضان إيمانا واحتسابا”، وهما قيمتان يجب على المرء استصحابهما وعدم الغفلة عنهما، ويستحسن تذكرهما وتجديدهما طيلة الشهر الفضيل. باستحضار هذه المعاني المغيبة، يمكننا إخراج شعيرة الصيام من مادّية العادة إلى روحية العبادة، ونرتقي بها إلى حيث مكانتها، وترتقي بنا في معراج الكمالات والمزايا التي نحن في أمس الحاجة إلى الاغتراف منها، والتعلق بها. ورمضان مبارك سعيد لعموم الأمة المحمدية