مجلس النواب يصادق بالأغلبية على الجزء الأول من مشروع قانون المالية لسنة 2025    غسل الأموال وتمويل الإرهاب… وزارة الداخلية تضع الكازينوهات تحت المجهر    الحكومة المغربية تعزز قطاع الدفاع الوطني بإعفاءات ضريبية جديدة    "الأمم المتحدة" و"هيومن رايتس ووتش": إسرائيل ارتكبت جرائم حرب ضد الإنسانية وجرائم تطهير عرقي    الركراكي: المباراة أمام الغابون ستكون "مفتوحة وهجومية"        مصرع 10 أشخاص بحريق في دار مسنين بإسبانيا    جدعون ليفي يكتب: مع تسلم ترامب ووزرائه الحكم ستحصل إسرائيل على إذن بالقتل والتطهير والترحيل    اكادير تحتضن كأس محمد السادس الدولية للجيت سكي    صحيفة إيطالية: المغرب فرض نفسه كفاعل رئيسي في إفريقيا بفضل "موثوقيته" و"تأثيره"    عامل إقليم الجديدة يزور جماعة أزمور للاطلاع على الملفات العالقة    بوريطة: المغرب شريك استراتيجي لأوروبا .. والموقف ثابت من قضية فلسطين    مثل الهواتف والتلفزيونات.. المقلاة الهوائية "جاسوس" بالمنزل    المنتخب المغربي يفوز على نظيره المصري في التصفيات المؤهلة لكأس أمام أفريقيا للشباب    إقصائيات كأس أمم إفريقيا 2025 (الجولة 5).. الغابون تحسم التأهل قبل مواجهة المغرب    اشتباكات بين الجمهور الفرنسي والاسرائيلي في مدرجات ملعب فرنسا الدولي أثناء مباراة المنتخبين    الحسيمة : ملتقي المقاولة يناقش الانتقال الرقمي والسياحة المستدامة (الفيديو)    تعيين مدير جديد للمدرسة الوطنية للهندسة المعمارية بتطوان    السفيرة بنيعيش: المغرب عبأ جهازا لوجستيا مهما تضامنا مع الشعب الإسباني على خلفية الفيضانات    مقاييس التساقطات المطرية خلال 24 ساعة.. وتوقع هبات رياح قوية مع تطاير للغبار    بحضور التازي وشلبي ومورو.. إطلاق مشاريع تنموية واعدة بإقليم وزان    عنصر غذائي هام لتحسين مقاومة الأنسولين .. تعرف عليه!    وزيرة الاقتصاد والمالية تقول إن الحكومة واجهت عدة أزمات بعمل استباقي خفف من وطأة غلاء الأسعار    لمدة 10 سنوات... المغرب يسعى لتوريد 7.5 ملايين طن من الكبريت من قطر    الدرك الملكي بتارجيست يضبط سيارة محملة ب130 كيلوغرامًا من مخدر الشيرا    المنتخب المغربي الأولمبي يواجه كوت ديفوار وديا في أبيدجان استعدادا للاستحقاقات المقبلة    أزمة انقطاع الأدوية تثير تساؤلات حول السياسات الصحية بالمغرب    هل يستغني "الفيفا" عن تقنية "الفار" قريباً؟    بتهمة اختلاس أموال البرلمان الأوروبي.. مارين لوبان تواجه عقوبة السجن في فرنسا    ‬المنافسة ‬وضيق ‬التنفس ‬الديموقراطي    الارتفاع ينهي تداولات بورصة الدار البيضاء    حوالي 5 مليون مغربي مصابون بالسكري أو في مرحلة ما قبل الإصابة    ألغاز وظواهر في معرض هاروان ريد ببروكسيل    الحكومة تعلن استيراد 20 ألف طن من اللحوم الحمراء المجمدة    صيدليات المغرب تكشف عن السكري    ملتقى الزجل والفنون التراثية يحتفي بالتراث المغربي بطنجة    الروائي والمسرحي عبد الإله السماع في إصدار جديد    خلال 24 ساعة .. هذه كمية التساقطات المسجلة بجهة طنجة    الإعلان عن العروض المنتقاة للمشاركة في المسابقة الرسمية للمهرجان الوطني للمسرح    نشرة إنذارية.. هبات رياح قوية مع تطاير للغبار مرتقبة اليوم الخميس وغدا الجمعة بعدد من أقاليم المملكة    معدل الإصابة بمرض السكري تضاعف خلال السنوات الثلاثين الماضية (دراسة)    تمديد آجال إيداع ملفات الترشيح للاستفادة من دعم الجولات المسرحية    مركز إفريقي يوصي باعتماد "بي سي آر" مغربي الصنع للكشف عن جدري القردة    الاحتيال وسوء استخدام السلطة يقودان رئيس اتحاد الكرة في جنوب إفريقا للاعتقال    عواصف جديدة في إسبانيا تتسبب في إغلاق المدارس وتعليق رحلات القطارات بعد فيضانات مدمرة    "هيومن رايتس ووتش": التهجير القسري الممنهج بغزة يرقي لتطهير عرقي    إسرائيل تقصف مناطق يسيطر عليها حزب الله في بيروت وجنوب لبنان لليوم الثالث    أسعار النفط تنخفض بضغط من توقعات ارتفاع الإنتاج وضعف الطلب    حفل توزيع جوائز صنّاع الترفيه "JOY AWARDS" يستعد للإحتفاء بنجوم السينماوالموسيقى والرياضة من قلب الرياض    هذه أسعار أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    غارة جديدة تطال الضاحية الجنوبية لبيروت    أكاديمية المملكة تفكر في تحسين "الترجمة الآلية" بالخبرات البشرية والتقنية    الناقد المغربي عبدالله الشيخ يفوز بجائزة الشارقة للبحث النقدي التشكيلي    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    جرافات الهدم تطال مقابر أسرة محمد علي باشا في مصر القديمة    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نقض أوهام “الهوياتوية” بشأن لغة التدريس
نشر في العمق المغربي يوم 10 - 04 - 2019

لا شيء أخطر على الفكر من الأوهام. وتكون تلك الأوهام أشد خطورة حين تعتمد في مقاربة قضايا المجتمع، ومستقبل نشئه. ولعل أكبر ما راجت بسببه الأوهام من جديد ما يتعلق بلغة تدريس المواد العلمية في التعليم قبل الجامعي، وذلك بمناسبة مدارسة مشروع القانون الإطار المتعلق بالتربية والتكوين في البرلمان. ومن المفيد التوقف عند أهم الأوهام التي يستند إليها خطاب “الهوياتوية” الجديد، (إن صحت هذه العبارة التي سنعتمدها في هذا المقال)، والذي يلتبس عند كثير بخطاب الهوية الحقيقي الذي لا يجعل من الهوية “صنما”، ويقارب موضوعها بمقاربة علمية وواقعية تراعي مصلحة البلاد والعباد. أما “الهوياتوية”، خاصة في بعدها اللغوي كما سنبين ذلك، فهي حالة تعمى فيها الأبصار وتسقطها في أشد حالات القومية تطرفا حين تعمل ضد المصلحة العامة لصالح مكاسب لغوية بسيطة.
وحديثنا عن الأوهام لا يفيد التنقيص من أصحاب الأفكار التي سوف نناقشها ، فهو مصطلح غير قدحي ويعني فقط أن بعض ما يعتنقه هؤلاء من أفكار مجرد أوهام، أي أنها لا تعبر عن واقع الأشياء، تماما مثل ظواهر الأوهام البصرية حيث تظهر الأشياء على غير حقيقتها.
الوهم الأول: لغة تدريس المواد العلمية والتقنية قضية هوية
هذا من أكبر الأوهام، وسنبين ذلك من خلال عدة عناصر، بتركيز شديد.
العنصر الأول:متى نزلت “سورة الهوية”؟
الهوية الوطنية مقاربة دولتية وليست مقاربة دعوية، كما تشهد على ذلك أدبيات الدعوة ومدارسها المختلفة. ومن المفارق أن يتعامل معها “الهوياتيون” وكأنها وحي أنزل من السماء.
إن منطق الهوية في عمقه مرفوض في منطق الاسلام كديانة عالمية تحارب الأصنام التي تصنع من الحجارة كما التي تصنع من الأوهام.والهوية بالمفهوم التعبوي،والشعبوي أيضا، الذي يمارسه كثيرون، منطق “جاهلي”، (وفق رؤية سيد و محمد قطب رحمهما الله)، يناقض فلسفة الدعوة التي تسمو عن الحواجز المادية والمعنوية بين الشعوب. ويكفي النظر إلى مختلف شعوب الأمة الاسلامية لنكتشف أن هوياتها الخاصة بعدد تلك الشعوب، ولو أن كل شعب فجر عصبية هوياتية بالمنطق الذي يتحرك به “الهوياتوين” اليوم لنجحوا في خلق جزر محصنة بعضها ضد بعض. وحتى مع وجود الدين ضمن مكونات تلك الهويات، فحشره في بوتقة الهوية يفقده بعده العالمي، ويحوله إلى عنصر تعبوي ضمن مركب الهوية المتعدد المكونات. ولو أن كل شعب غير مسلم تفجرت فيه العصبية “الهوياتوية”أيضا بنفس القوة التي يتحدث بها “هوياتويو” المغرب لكان كافيا لمحاربة تلك الشعوب لأي أقلية إسلامية فيها حفاظا على هويتها الوطنية.
إن الاسلاميين تلقفوا مسألة الهوية بمنطق “العمى الطوعي” في سياقات سياسية خاصة، ولو تأملوا في أبعادها لأدركوا أن من حق أي مكون مجتمعي أيضا أن تكون له هوية خاصة يتعصب لها ويناضل من أجل غلبتها، وهذا هو منطق القوميات العرقية أو اللغوية الذي تعاني منه عدة دول إسلامية. وأيضامن حق كل شعب مسلم أن تكون له هويته الخاصة التي يقدسها، ومن حق أي شعب على وجه الأرض أن يشهر هويته في وجه الإسلام الذي جاء للعالمين.
ومما سبق سندرك أن العصبية الهوياتية تناقض فلسفة الاسلام كدين للعالمين، لكنها تتناسب ومنطق العصبيات القومية، لذلك لا نتردد في نعث تلك العصبية “الهوياتوية” بكونها تلبستها القومية، أدرك أصحابها ذلك أم لم يدركوه.
العنصر الثاني:منهج أم مراوغة فكرية
وفي إطار منطق الدولة، كثيرا ما ينطلق الخطاب “الهوياتوي” الذي ننتقده من الدستور، لكنه لا يناقش بالمنطق الهوياتي الحقيقي الذي يفترض فيه أن يدافع عن مكونات الهوية اللغوية الوطنيةفي شموليتها وبنفس الحماسة والقوة، فالحماس والقوة اللذان يشهر بهما البعد الهوياتي اليوم يخنس بشكل غريب حين يتعلق الأمر بإحدى أهم مكونات الهوية اللغوية للمغرب، ويتعلق الأمر بالأمازيغية. بل يلجأ هذا الخطاب إلى القفز على الاعتبارات الهوياتية لصالح مقاربة نفعية اجتماعية واقتصادية تتعلق بدور اللغة في التنمية الاقتصادية والعلمية وبعائدها في الإدارة والمقاولة والبحث العلمي وغير ذلك، وهذا في التقدير أمر سليم، لكنه لا يعبر عن منهج فكري، بل عن مراوغة فكرية، لأنه لا يصمد أمام مقارنة اللغة العربية بغيرها في تدريس المواد العلمية والتقنية. ويعلم أهل هذا الخطاب، أكثر من غيرهم أقوالهم ومواقفهم في هذا الشأن، وإنما أوردنا هنا هذا المثل كحجة كافية في الكشف عن تهافت دعاوي الهوية في مقاربة لغة التدريس اليوم، خاصة وأن العربية تقارن بلغات أجنبية.فأي المقاربات أولى، الهوياتية أم النفعية الاقتصادية والاجتماعية؟
العنصر الثالث: مفارقات الخطاب والممارسة
تدريس العلوم بلغة أجنبية، أمر تفرضه وضعيتنا التنموية والحضارية، وتفرضه أولوية تأمين مستقبل الشبابفي سوق الشغل وفي البحث عن فرص رقيهم في التحصيل الدراسي والعلمي. ولا يمكن، دينا ومنطقا وواقعا، إضعاف تنافسية شباب المغربفي عالم مُعَولملاعتبارات هوياتية متوهمة في أغلبها. وفي مثل النقاشات العمومية التي تتدارس قضايا المجتمع، مطلوب من الجميع الانسجام بين الفعل والقول، وفي هذا السياق نجد مفارقات كبيرة، حيث أن كثيرين من يرفعون فزاعة الهوية في وجه تدريس المواد العلمية والتقنية بلغة أجنبية، تكون لهم مقاربات براغماتية ونفعية حين يتعلق الأمر بأبنائهم وأقاربهم! وهذه المفارقة تكشف أن الخطاب “الهوياتوي” خطاب عاطفي يتوهم أن المواطنين ليست لهم نفس الاعتبارات البراغماتية والنفعية حين يتعلق الأمر بأبنائهم. وهذا أكبر الأوهام، ويدل على ذلك المعايير التي يعتمدها الآباء في اختيار المدارس الحرة التي تنمو في المغرب بشكل استثنائي، والتي نجد على رأسها معيار اللغات الأجنبية: الفرنسية والانجليزية.
العنصرالرابع: “الهوية”أم النفعية
لغة تدريس المواد العلمية والتقنية لا تهدد الهوية ولا دور كبير لها في تمليك اللغة أو تجويدها، سواء كانت بالعربية أو بغيرها، لأنها لغة تقنية.ودورها، لا يتعلق حصرا بمدى سهولة فهم واستيعاب العلوم كما يدعي البعض، بل دورها الأساس أبعد من ذلك، يتعلق بتسهيل اندماج الشباب المتعلمين في سوق الشغل والرقي الدراسي والعلمي، داخل وخارج المغرب. فرغم أن تدريس المواد العلمية والتقنية كان قبل تعريبها يتم بالفرنسية، فقد رأينا في ظل ذلك كيف أن المؤشرات الاحصائية تعطي المكانة الأولى للعربية، سواء من حيث عدد الناطقين بها أو عدد من يكتبون بها، كما أن لغة الإعلام المهيمنة، سواء من حيث لغة المؤسسات الاعلامية أو لغة القراء، تعطي المرتبة الأولى للعربية، كما أن العربية هي اللغة المهيمنة في مواقع التواصل الاجتماعي اليوم.أما لغة النخبة فلا تحكمها الاعتبارات الهوياتية، بل تحكمها الاعتبارات المتعلقة بلغة النفوذ والرقي الاجتماعي وغيرها من الاعتبارات، والتي لا نجدها اليوم، مع الأسف، في اللغات الوطنية وعلى رأسها العربية. فرغم أن النخبة مفرنسة ورغم أن تدريس المواد العلمية والتقنية كان بالفرنسية لعدة عقود، فذلك لم يمس بالهوية اللغوية للمغرب بالشكل الذي يتخوف منه البعض اليوم متغاضيا عن مصلحة أبناء المغاربة.
الوهم الثاني: العربية لغة الإسلام!
هذا أب الأوهام “الهوياتوية”، وهو ناتج عن تأثيرات قراءات قومية للإسلام تسللت إلى عقول المتأخرين من أبناء الحركة الاسلامية، وتأثيرات قراءات “سلفية” تنعت باقي اللغات بكونها “لغة الكفار”، وتستمران اليوم كوقود لاشعوري لمواجهة التفكير الواقعي في مناقشة قضايا المجتمع ذات الصلة بالسياسة اللغوية. فإذا كان القرآن الكريم عربي اللسان، واقعا وبحكم الآيات الكريمة التي توثق ذلك، فإن الإسلام جاء للعالمين عربا وعجما. وأن نفس القرآن الذي يؤكد أنه (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) يؤكد أيضا أن تنوع اللغات وتعددها من آيات الله(ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم، إن في ذلك لآيات للعالمين)، فالقرآن عربي اللسانلكن الاسلام عالمي الرسالة واللسان، لأنه إذا كان الاسلام عربيا وجب على كل مسلم أن يكون لسانه عربيا، والتاريخ يشهد أن الأمة الاسلامية، قبل أن تبتلى بالقومية العربية وبالفكر السلفي المزور، لم تشهد ولو حالة واحدة يرغم فيها المسلمون على تعلم اللغة العربية، بل تعلمها المسلمون حبا لها لأنها لغة القرآن والفرق بين الأمرين عظيم. ونجد الاسلام بين أمازيغ لا يعرفون شيئا في اللغة العربية ولا في الدارجة عبر قرون، ولم يمنعهم ذلك من أن يضلوا مسلمين.
لقد حاول البعض التأصيل لعربية الاسلام من النطق بالشهادتين والصلاة، حيث لا تقبل الصلاة بغير الفاتحة ولا بترجمتها، وكأن قراءة الفاتحة بالعربية هي اللسان العربي! لكن هؤلاء لا يناقشون مسألة أعمق من هذه، إذا نطق غير العربي الداخل الجديد في الاسلام الشهادتين وقرأ الفاتحة بالعربية متلعثما هل تكفيه مما قد يعج به دماغه من قيم الكفر والشرك؟ وهل على من يمثل الإسلام أن يتعلم لغة الداخل الجديد للإسلام ليعالج أدواء الفكر عنده أم على كل داخل في الاسلام أن يتعلم هو العربية كي يصل إلى نفس النتيجة؟ الجواب نجده في التاريخ وليس في الأوهام.
إن إقحام عربية الدينفي تقوية مطلب تدريس المواد العلمية والتقنية بالعربية، على ما ينطوي عليه ذلك من أضرار راجحة في هذه المرحلة، إقحام لا يخدم الدين ولا العربية، بل هو مجرد أوهام تغذي بقية الأوهام.
الوهم الثالث: العربية لغة النهضة المنشودة
من الأوهام التي راجت مؤخرا وبشكل كثيف، أن العربية لغة النهضة، وذلك بناء على أقوال تزعم أنه لا سبيل إلى نهضة أمة بغير لغتها (سوف لن نناقش ما يتعلق باللغة الأم إذ هي المقصودة حتى لا يتشعب بنا النقاش). ولاندريماذا تعيشه أمريكا اليوم هل هو نهضة أم ماذا؟ وإذا كانت أمريكا تعيش النهضة، فهل هي بلغة الهنود الحمر أم بلغة الغازي الأبيض؟ إن مشكلتنا هي أننا نتصور أنه بمجرد أن يتقن جميع المغاربة اللغة العربية سوف تحدث النهضة! وهذا كاريكاتير فكري وليس رؤية نهضوية، ذلك أن النهضة لها شروط وتقوم على أسس، فهي تقوم على ثورة فكرية ونظرة تجديدية تشمل جميع ميادين الحياة، وكسب علمي واسع، وهمم مستنهضة، وفاعلين ناهضين ومناهضين لكل الأغلال الفكرية والمجتمعية التي تعوق النهوض. وتاريخ النهضة لا يوثق لنهضة انتظرت حتى تم تعميم لغة ما على القوم الناهضين، بل هي حالة تدخلها الأمة حين تتوافر شروط لا تستثني الارادات السياسية، وحرية التفكير والرأي، وتشجيع الابداع الفني والأدبي، وانتشار التعليم وتوسع دائرة المعرفة، و… فينهضون وتنهض معهم لغتهم. وكون الأمم الناهضة تحدثت لغتها الأصلية في العموم لا يعني أبدا أن النهضة تشترط مثل تلك اللغات، بل تشترط فقط اللغة المنتشرة والمعتمدة من طرف الدولة والمجتمع معا.
الوهم الرابع: لغة المستعمر!
في التقدير اللغة الأنسب للمغاربة في تدريس العلوم هي اللغة الانجليزية، لاعتبارات يمكن إجمالها في كونها لغة العلم، ولغة المال والأعمال، ولغة التكنلوجيا، ولغة العولمة بشكل عام. فهي اللغة الأنفع للأمة اليوم. لكن أليست هي لغة أكبر دولة تساند الصهاينة في استئصال فلسطين وأهلها؟ والدولة التي خربت العراق، وتتلاعب بمصير العديد من الشعوب الاسلامية، وتتحكم في موارد العرب النفطية، وتلجمهم عن فعل أي شيء يرجع على أمتهم بنزر نهضوي قليل و…؟ بالطبع أمريكا التي لا يتردد كثير من الاسلاميين و”الهوياتويين” بوصفها بالشيطان الأكبر، كما سبق للخميني أن وصفها به، هي أكثر من ذلك. ودولة بريطانيا بدورها، أليست صاحبة “وعد بلفور” الذي منح وطنا قوميا للصهاينة على أرض فلسطين، وعملت على التمكين لهم؟ أليست من استعمرت دولا إسلامية، وأخضعتها لما أخضعتنا له فرنسا؟ … ورغم ذلك لا يتردد هؤلاء في الدعوة إلى تعلم الانجليزية لأنها لغة التمكين اليوم، فبدونها من الصعب الاندماج في العالم في بعده العلمي والاقتصادي والتكنلوجي. وفي التقدير لو كانت العبرية مكان الانجليزية في العالم وبنفس قوتها اليوم، لكان معها نفس التعامل النفعي!
لكن الخطاب “الهوياتوي” حين يناهض اعتماد الفرنسية مثلا في تدريس المواد العلمية والتقنية، فهو يناهضها من زاوية أنها لغة المستعمر، وليس لكونها لغة تعيش تراجعا وضعفا.
نعم إن الفرنسية هي لغة فرنسا التي استعمرتنا، لكن الخطاب “الهوياتوي” يقع في تناقضات وشطحات فكرية مفارقة. فهو لا يرى بأسا من التدريس بلغة المستعمر تلك في الجامعة مثلا!
إن المبدئية تقتضي، إن كنا نقارب الفرنسية على أنها لغة المستعمر، أن نناضل من أجل اجتثاثها من التعليم، وأن نقاطعها في التخاطب الشبه يومي بيننا، وأن لا نخطب بها من مواقع رسمية لدولة لغتها الرسمية هي العربية والأمازيغية، وأن لا نتفاخر بتأثيث خطاباتنا بمصطلحاتها، وأن لا نحرص على تعليمها لأبنائنا، وأن نعدمها من مشاريعنا الخاصة، في المقاولات ومؤسسات التعليم و… ولكن أن نفعل ذلك أيضا تجاه الانجليزية، لما سبقت الاشارة إليه سابقا !
نعم إن الفرنسية ضعيفة مقارنة مع الانجليزية فيما يتعلق بمعايير عوالم العلوم والاقتصاد والمال والتكنلوجيا، لكن لتكن لدينا الشجاعة، واعتمادا على نفس المعايير، لنقارنها بلغتنا العربية، أليست هذه الأخيرة أضعف؟
إن مشكلة اللغة العربية فيما يتعلق بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية لبلدنا لا يتعلق بها كلغة، بل يتعلق بكون العرب تخلوا عنها. فدولهم، مثل دولتنا، مكنت للغة أخرى غيرها هي الانجليزية في الغالب، مما يفقد العربية قيمتها الإضافية في تشكيل حاضنة للتبادل العلمي والفكري والاقتصادي بين دولها. وقد لا نبالغ إن قلنا إن الانجليزية قد تعزز البعد العربي أكثر مما قد تفعل العربية ذلك مستقبلا. فكيف ينبغي أن نرهن مستقبل الشباب بلغة آفاقها اليوم محدودة؟
إن مقاربة مناهج التعليم ينبغي أن تستحضر بشكل متوازن، التمكين للغة العالم اليوم مع المحافظة على الهوية والقيم. إن تجويد مادة اللغة العربية وتعزيزها كلغة رسمية كفيل بأن يحفظها، لكن تدريس المواد العلمية والتقنية بها، لا يعطي أي أفق للطلبة الذين يضطرون إلى إعادة صياغة معارفهم العلمية بالفرنسية أو الانجليزية، مما يكلفهم من الأوقات والجهود الشيء الكثير.
الوهم الخامس: تهديد الدينوالتدين
لا يجادل أحد في أن العربية لغة القرآن. ولا يجادل أحد أن العلوم الاسلامية أغلبها بالعربية، ولا يجادل أحد في أن العربية هي المدخل الأساس لفهم القرآن، وأن هذا الأخير لا يترجم وإنما تترجم معانيه. لكن إذا كان الدفاع عن العربية من هذا المنطلق قد يخدم الدين، فإن أكبر المفارقات الصادمة أن لا نتحرك بنفس الحماسة والقوة للدفاع عن الدين والتدين في المغرب، بل أن نعمل على التمكين لأخطر الآليات المناهضة للقيم الدينية في عدد من القضايا الحساسة. وسنكتفي هنا بقضية واحدة.
من المعلوم من تجارب الاسلاميين بالضرورة أن أكثر شيء أجمعوا على محاربته بشكل تلقائي وقوي طيلة أربعة عقود تقريبا هي “اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة”، أو اتفاقية “سيداو” اختصارا، (دخلت حيز التنفيذ سنة 1981). وتراث الاسلاميين في العالم يزخر بمواقفهم الراديكالية تجاه هذه الاتفاقية. بل إن جميع الدول الاسلامية، خوفا من شعوبها، كان موقفها هو التحفظ على العديد من موادها، ومن يطلع على تحفظات المملكة المغربية في هذا الشأن سيجدها تضع عددا من مواد الاتفاقية في تناقض صارخ مع الاسلام دينا وشريعة. ورغم أن الاتفاقية لم تتغير وأن الاسلام أيضا لم يتغير، لانت مواقف الجميع من تلك الاتفاقيةمع الزمن وتغيرت! فصادقت جميع الدول الاسلامية تقريبا على الاتفاقية، واتسعت دائرة رفع التحفظات حتى أسقطتها تقريبا بشكل كلي، وفي نفس الاتجاه سار المغرب وسار إسلاميوه المشاركين في المؤسسات على الأقل. كيف ذلك؟
خلال سنة 2015، صادق البرلمان بالإجماع على البرتوكول الاختياري لاتفاقية “سيداو”، والذي يهمنا في هذا السياق أن الحكومة بقيادة الأستاذ عبد الاله ابن كيران، والحزب الذي هو أمينه العام، قادا حملة لتحقيق ذلك الاجماع. فالأمانة العامة للحزب قررت تلك المصادقة بالإجماع وتم حمل الفريق النيابي على الحضور والتصويت لتحقيق ذلك الاجماع، إلى درجة تمت مساءلة برلماني واحد عبر خلال مناقشة مشروع القانون المعني بالمصادقة عن موقف مخالف للتوجه الرسمي للحزب حول الاجماع. وأكثر من هذا فحركة التوحيد والاصلاح، تفاديا للتشويش على مؤسسات الحزب، أرجأت إصدار بلاغها إلى أن “وقع الفأس في الرأس” كما يقال، فخرجت في ذلك البلاغ لتعلن رفض ما أصبح واقعا، لكنها في لغة التدريس، سارعت لتمارس التأثير على الحزب بالخصوص، واستباق أي توجه يناقض قناعاتها في مجال اللغة!
وماذا في الأمر؟
لنقف عند مسألة واحدة، كي نكتشف كيف أن المصادقة على البروتوكول المعني هو آلية استراتيجية للتمكين لقيم الاتفاقية في المجتمع المغربي، وهذر لعقود من الرفض والمسيرات والبلاغات والصراعات مع العلمانيين.وسنقف عند مادة واحدة هي المادة 13 والتي تقول بالحرف:” تتعهد كل دولة طرف بإشهار الاتفاقية وهذا البروتوكول على نطاق واسع، والقيام بالدعاية لهما، وتسهيل عملية الحصول على المعلومات المتعلقة بآراء اللجنة وتوصياتها، وبخاصة حول المسائل المتعلقة بتلك الدولة الطرف”.
لقد كتبت خلال سنة 2015 عدة مقالات تناقش تلك الخطوة وتنبه إلى مخاطرها من زاوية “المشروع الاسلامي” كما يتم تقديمه على أكثر من صعيد. منها مقال “العمى الطوعي في خطوة تبني بروتوكول سيداو”، ومقال :”في محاولة فهم خلفيات رفع التحفظات عن اتفاقية “سيداو”، كما ذكرت بتلك الخطوة حين بدأ القوم يقفون ضد نتائجها، ومن بين تلك المقالات النقدية مقال “العنف لا يُكَفِّر عن العمى الطوعي في قضية الإرث”.
خلاصات:
لقد صادق حزب المصباح وبالإجماع، وب”معاينة” من حركة التوحيد والاصلاح، على إلزام الدولة المغربية بالتعريف باتفاقية “سيداو” وإشهارها على نطاق واسع، رغم ذلك فهذه الخطوة، رغم التنبيهات، لم تثر ردود فعل سوى قلة قليلة لا تتعدى نصف عدد أصابع اليد الواحدة. فلم يدع أحد إلى عقد المجلس الوطني للحزب لحسم موقف يتعلق بدين الأمة، ولا دعوا إلى الخروج من الحكومة إذا تم تمرير المشروع، ولا حتى نهجوا موقف الامتناع عن التصويت الذي اقترحته شخصيا كحد أدنى للانسجام المبدئي. فما الذي يقع اليوم؟ كيف نجعل من مسألة لغة التدريس مسألة حياة أو موت؟ ماذا لو تم تمرير المشروع حتى بامتناع الحزب عن التصويت أو معارضته؟ هل الخروج إلى المعارضة سوف يغني في شيء؟ هل سيعيد ذلك لغة التدريس بالعربية؟ أم سيلغي مصادقة المغرب على بروتوكول “سيداو”؟
إن بحر العاطفة لا قاع له، ومن مفارقاته أن الغرق فيه يتم بمنطق البطولات وتحت التصفيقات والتهليلات. ذلك أن أخطر موقف يمكن أن تضعك فيه العاطفة من الناحية السياسية أن تسارع إلى إعلان مواقف تزايد بها على الشارع بدل أن تؤطره بالواقعية المطلوبة في أي عمل سياسي، فتصبح رهينة عاطفته التي لا نهاية لها.
المطلوب اليوم تمحيص جذور العاطفة التي نغرق فيها أنفسنا في التعاطي مع لغة تدريس مواد علمية وتقنية، هل هي عاطفة تستند إلى الدين، والدين منها براء، أم إلى تأثيرات قومية خفية، تفسر الكثير من التشجنج الذي يصاحب مناقشة قضايا اللغة؟
إن احترام مؤسسات الحزب التي عملت بالشكل المشار أليه آنفا في مسألة لا أظن أن بعدها ما هو أخطر منها على قيم المجتمع ودينهم وتدينهم، هو نفس الاحترام المطلوب اليوم في مناقشة قضية تدخل في إطار التقدير والاجتهاد، ولا تناقض نصا دينيا ولا تهدد قيما، رغم ما تنطوي عليه من مشاكل.
وختاما إن روح النضال الحزبي الحقيقيهو في السعي إلى الأنفع للعباد والبلاد.
1. وسوم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.