جرت مشيئة الله في سنن تشكّل الجماعات الإنسانية أن ترسم كل أمة من الناس مسارها التاريخي الخاص بها، بما يترجم تفرّد مرجعيتها الجماعية ومخصوصية منظوماتها القيمية. وإن كان الظاهر من الأمر أن الأمم تتمايز بحسب ظروفها التاريخية وتحدياتها الحضارية، إلا أنه في الصلب من هذا التمايز يكمن الاختلاف في الاختيارات المرجعية والأنساق القيمية لكل جماعة جماعة. وهي المرجعيات والقيم التي انتدبتها وخبرتها كل جماعة على حدة لقرون ممتدة من الزمن، بما يجعل من الصعب، بل وفي حكم الاستحالة، على أي كان أن يبدلها أو يغيرها أو يلغيها بقرار سياسي أو فرض إيديولوجي أو احتلال استعماري. ولعلّه من المهم، بهذا الصدد، أن نعي جيّدا بأن هذه الاختيارات المرجعية والتفضيلات القيمية ليست مجرد إقرارات كلامية أو إنشاءات لفظية تتخذها المجتمعات عناوين رمزية لانتماءاتها القومية أو انحيازاتها المجتمعية، وإنما هي موجّهات أساس لأداء الجماعات البشرية ولطبيعة تفاعلها مع الذات والمحيط. وعادة ما تتفاوت المرجعيات بين المرجعية التطبيعية والمرجعية التنزيهية، وبينهما تتدرج مرجعيات أخرى، إن تنزيها أو تطبيعا. وفي سياق مقالة سابقة، تمت الإشارة إلى أن المرجعية التطبيعية، والتي تتأسس عليها أنماط العالمانية الشاملة في الفكر والسلوك، هي المرجعية التي ترى أن هذا الوجود الطبيعي هو وجود واحد وسرمدي ممتد عبر الزمن، لا أول له ولا آخر. وهو وجود مكتف بذاته لا حاجة له لأي وجود آخر يسنده أو يرشده. وأن الإنسان وفق هذه الرؤية لا يعدو أن يكون مجرد كائن حيواني طبيعي تجري عليه قوانين وقيم الوجود المادي، شأنه في ذلك شأن باقي الظواهر والكائنات، وما على الإنسان، العاقل الراشد في عرفها، إلا أن يحتكم إلى قوانين وقيم هذا الوجود الطبيعي المادي (أخلاق قوة وقيم صراع، يكون البقاء فيها للأقوى. قريبا مما سماها البعض بقيم “الداروينية الاجتماعية”). في حين تنزع المرجعية التنزيهية عن هذا العالم المادي الطبيعي طابع الواحدية والسرمدية والإطلاق، لأنها تعتقد بأن هذا الوجود المرئي الذي نحياه ما هو إلا جزء من وجود آخر غير مرئي يشمله ويهيمن عليه. وأن العالم المشهود في حاجة دائمة ومستمرة إلى وجود غيبي يفارقه ويمدّه بالمعنى والدلالة، وفي ذلك يتجلّى سرّ وحي الرسالات وبعث النبوات يستهدي بها الناس إلى الطريق السواء. وفي منطق هذه المرجعية فإن الإنسان ليس مجرد كائن من كائنات الوجود أو شيء من أشيائه وفقط، بل هو كائن مكرّم مستخلف مشدود إلى تمثل قيم عالم السماء وهو يكابد عناء العيش في عالم الأرض، معني بتحقيق مصلحته الدانية العاجلة بما يراعي صلاحه الأخروي الآجل. (أخلاق صلاح وقيم تزكية وعمران، يكون فيها البقاء للأصلح. قريبا مما يسميه البعض بقيم “التجاوز الرسالي”). التقاطب بين هاتين المرجعيتين، المرجعية التوحيدية كما تبنتها أساسا المجتمعات العربية والإسلامية والمرجعية التطبيعية كما تبنتها بتفاوت المجتمعات العالمانية والحداثية، أطّر بشكل أساس منظومات قيم هذه المجتمعات. حيث ينتظم السلوك الفردي والجماعي للأمم والمجتمعات وفق شبكة معيارية تختلف منظومة قيمها، فهما وترتيباً. فإن كان العيش الليبرالي يرتكز على الفرد ويقدّس حريته (الحرية الفردية)، فإن التجربة الاشتراكية تعتمد قيمة المساواة في بعدها الاجتماعي/الطبقي (المساواة الاشتراكية)، وبخلافهما تستند المجتمعات الإسلامية إلى مفهوم الجماعة وتعلي من قيمة العدل (عدالة التراحم الجماعي). ولا يعني هذا أن كل تجربة ترتكز على قيمة أساسية بعينها مبوِّئة إياها قمّة هرمها القيمي، بأنها تستبعد، بالضرورة، باقي القيم الأخرى. وإنما يعني ذلك أنها تسكّنها موقعاً وفق سلّم أولويات خاص بها يناسب مرجعيتها، ويعبر عن تجربتها التاريخية وخبرتها الحضارية. فاعتلاء قيمة من القيم لمنظومة قيم مجتمع معين لا يعني بالضرورة استبعادا لقيم أخرى، وإنما يعني أن هذه القيم تتخذ مفهوما آخر لا يتعارض مع القيمة العليا، وأنه في حالة التعارض تُقدَّم القيمة الأعلى فالأعلى. فمثلا اختيار المجتمعات الليبرالية لقيمة الحرية في بعدها الفردي لا يعني أنها مجتمعات تستبعد قيمة العدل مثلا، وإنما يعني أنها تعطي للعدالة معنىً إجرائياً بالمقارنة مع قيمة الحرية التي تعطي لها معنىً شاملا وكلياً. وفي المقابل، فإن اهتداء المجتمعات العربية الإسلامية للعدل باعتباره قيمة القيم لا يعني أي إلغاء لقيمتي الحرية، وإنما يمنح لقيمة العدل معنى شاملا ومهيمنا على باقي القيم الأخرى، بما فيها قيمتي الحرية والمساواة. والإنسان، وفقا لهذا المنظور، يفضل القيمة التي تتناسب مع انتمائه المجتمعي وتعبر عن توجهاته المرجعية، فينفعل وفقاً لما تمليه عليه خلفياته المرجعية والقيمية. وحتى يتضح المقال يمكن الاستعانة بقصة حكاها مالك بن نبي مدارها أن عربيا وأوربيا شهدا مسرحية منتهاها أن بطل المسرحية من فرط حبّه للبطلة سيقتلها وسيقتل نفسه ليلتحق بها. يصف بن نبي حال الأوربي بأنه خرج منتشياً لأنه شاهد قصة غاية في الجمال والرقة، البطل من فرط حبه يقتل محبوبته ويقتل نفسه التحاقا بها؛ بينما يخرج العربي متذمراً مشمئزاً، لأنه شهد ببساطة جريمتي قتل وانتحار. فاختلاف النسق القيمي للإنسان الأوربي الليبرالي عن النسق القيمي للإنسان العربي المسلم جعل كلاًّ منهما ينفعل بالقصة انفعالا مختلفا درجة التناقض. وهكذا هي ظروف الحياة كلها، تختلف انفعالات الناس بها باختلاف مدركاتهم المرجعية وأنساقهم القيمية. ومهما سعى البعض إلى توجيه المجتمعات توجيها معياريا على غير ما استقر عليه نسقها أمرها القيمي ومنظومة أهدافها الغائية، فإن المجتمعات تطويه وتتجاوزه، بل تحاربه وتقاومه، لأنها بالتزامها منظومة مدركاتها الجماعية، مرجعية وقيما، تصون حرمتها، وتذود عن ذاتها، وتحمي حقها في أن تطور تجربتها في التاريخ من موقع الوعي بالذات والانتماء إليها. ويبقى سرّ التنوع البشري للعالم في مضانه العميقة متعلقاً باختلاف المجتمعات في مرجعياتها وقيمها. وأن احتفاء كل تجمّع بشري بقيمه وسعيه لتنميتها من موقع الاستقلال بالذات، لا يعني بأي شكل من الأشكال بأنه انكفاء على هذه الذات أو انعزال عن العالم، كما يوهمنا البعض تحت مسمى الحضارة الكونية ووحدة التاريخ، وإنما يعني ذلك أن اعتزاز الجماعات، كل الجماعات، بانتماءاتها ومخصوصية قيمها هو إضافة للعالم إثراء لغناه، وليس اقتطاعا منه أو انعزالا عنه. والله أعلى وأعلم