يستهل الأديب الروسي هنري توريا كتابه المعنون ب "دوستويفسكي حياته-أعماله ", والمترجم من قبل علي باشا, والحامل بين طياته لخمسمئة واثنين وتسعين صفحة, بإقتباس للأديب العالمي دوستويفسكي إذ يقول: "أما أنا فلم أفعل في حياتي سوى دفعي للحد الأقصى ما لم تجرؤوا أنتم إلا إلى دفعه إلى النصف". هذا القول يجعلنا نشعر بالنقص أمام عظمة كبير بوطرسبرغ. فهو يوجه لنا القول بشكل صريح بقوله إننا لم ندفع ما دفعه إلا الى النصف. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو ما هذا الشيء الذي لم ندفعه إلا الى النصف ودفعه كاتب الجريمة والعقاب الى حده الأقصى. إن الجواب على هذا السؤال يقتضي أولا تغييره, فلا يوجد شيء واحد هزمنا فيه دوستويفسكي بل هي أشياء كثيرة, ونتيجة ذلك خلود إسمه إلى اليوم وقراءتنا له بكل اللغات. فمن منا يبلغ عظمة أديب روسي فقير عاش في بطرسبرغ وموسكو و الآن يدرس كل حالِم رواياته في كل بقاع العالم وبكل اللغات. إن الأمور التي تجاوزنا فيها العظيم دوستويفسكي ليس لها علاقة بصدفة جعلته يلتقي فيلسوفا من ذلك التاريخ علّمه ودرّسه؛ ولا بهبة ربانية جعلته رسولا ينزل عليه الوحي؛ ولم يكن إبن الأكابر؛ لنقول انه تجاوزنا في النسب أو المال؛ لكنه تجاوزنا في القيم التي يمتلكها كل خليفة مُفسِد على هذه الأرض. لقد كان دوستويفسكي إنسانا حرا وسط قطيع العبيد. أجل إنه دوستويفسكي هو ذلك الكائن الذي يعيش بصدق وحرية وشرف؛ رغم أن مجتمع روسيا حينها كان مليئا بالنفاق و الكذب و الإنتهازية و الوصولية. لقد كان مجتمعا مليئا بالعبيد كما هو حال مجتمعنا المغربي اليوم. أجل إن دوستويفسكي موجود بيننا لكنه يجب أن يدفع هو كذلك ما دفعه العظيم الأول إلى درجة الحد الأقصى. يقول دوستويفسكي واصفا أبناء مجتمعه حينها "كنت أنظر إليهم بدهشة مشوبة بالكآبة و الحزن وقد أذهلتني خسة تفكيرهم وحقارتهم وألعابهم وأحاديثهم وإهتماماتهم فلم يكونوا يحترمون سوى النجاح و الفوز(…) وبالنسبة لهم يقوم اللقب مقام الذكاء, وبينما هم لا يتجاوزن السادسة عشر من العمر فهم يتحدثون عن المراكز والمناصب الصغيرة التي تدر الربح الوفير, وكانوا فاسدين لدرجة أنهم أصبحوا منفرين يثيرون القرف و الإشمئزاز." وهنا يعلق كاتب سيرته قائلا "كان يكره تلك الحيوانات الصغيرة لأنها على هذه الدرجة من البساطة" إننا هنا أمام إنسان حر يشمئز من البشر الذين يعتبرون ذواتهم مجرد أرصدة بنكية و ماركات ملبوسة. إن دوستويفسكي تجاوز العبيد الذين إعتبروا أن النجاح عبارة عن تملق ونفاق و مال و ماركات؛ فهم وصلوا إلى نصف النجاح فقط والذي لا ينكره أحد -فالكل يعشق المال- لكن المصيبة أن تكلفة ذلك كان حريتهم ومعنى حياتهم فأضحى كل شيء عندهم بدون معنى ما لم يكن مسجلا بماركة عالمية وما لم يكن باهض الثمن. لقد حولوا ذواتهم من كائنات حرة الى عبيد يقيسون ذواتهم بما يملكون. وهذا هو الشيء الذي لن تخطئه عينك في بلاد العرب فقد أصبح العربي عبدا للماركات التجارية و للعقلية الإستهلاكية الرأسمالية فهو لا يرغب سوى بالتباهي فسعادته تكمن في مدى ثروته. إن القيم و المبادئ والمعاني أضحت شيئا غريبا على هؤلاء العبيد فهم لا يعلمون أنهم يستطيعون شراء كل شيء بمالهم إلا شيئا واحد وهو الذي تجاوزهم فيه العظيم دوستويفسكي إنه الصدق مع الذات. أستاذ الفلسفة بالدارالبيضاء