قراءة في المشروع الإصلاحي لطارق البشري "الجزء الأول" تقديم صاحب الغزو الغربي الذي تعرضت له العديد من أمصار الأمة العربية والإسلامية منذ أواخر القرن الثامن عشر، فراغا فكريا عجزت فيهالنخب العربية والإسلامية عن بلورة مشروع فكري إصلاحي متكامل، قادر على انتشال الأمة من الوضع التاريخي المتهلهل الذي اصطدمت به. في المقابل انبهر العقل العربيفي هذه المرحلة بثراء النموذج المعرفي الغربي،وهو ما أفرز محاولات فكرية عديدة عنيت بمواجهة التسميم السياسي والفكري الذي تعرضت له البلاد العربية، في شكل حركات فكرية مهمتها الأساسيةإستعادةالفعالية في الأمة لاسترجاع دورها التاريخي والحضاري. وتروم هذه المحاولات تحقيق مشروع حضاري عربي/إسلامي شامل للنهوض. وتعتبر فكرة التجديد من الأفكار البنيانية في نسق الشريعة، والتي يجب على الباحثين إعمالها وفق جوهرها وحقيقتها في نطاق أبحاثهم في كافة المجالات. وفي سياق العملية التجديدية يعتبر طارق البشري أن المشكل في أساسه مشكل ثقافي وفكري، يتعلق بالنتاج الفكري في مجالات الجماعة عامة، سواءا بالنسبة إلى الأطر المرجعية التي ينطلق منها الإنسان، أو التصورات الذهنية النظرية التي ترسم الخطوط العامة لعلاقات الانسان بالكون وبالجماعات المتباينة أو النظم السياسية والإجتماعية التي تشخص تجمعاتهم وتنظم أنشطتهم الإجتماعية أو أنماط العلاقات البشرية ووجوه المعاملات بين الناس، أو القيم التي يهتدون بها ويرسمونها في مناحي السلوك . كل هذا من أجل إعطاء انطلاقة جديدة للأمة عبر التحرر من خلال الوحدة، كون أن حركة الإلحاق الإستعماري قد فرضت التجزئة، ولكن حركة الإستقلال السياسي والتحرر الوطني التي قامت في بلادنا ضد السيطرة الإستعمارية لم تستطع أن تفرض الوحدة بين شعوبنا . ويعتبر التجديد السياسي جزء من هذا العمل الذي راكمه العديد من المفكرين والباحثين العرب والمسلمين، وهو تجديد في منهج النظر السياسي بالإستناد إلى قواعد النظام المعرفي الإسلامي. والتجديد كعملية للتحرك الفكري هو قاعدة للإصلاح، والإصلاح عند المستشار طارق البشري هو تجاوز واستيعاب التحديات الراهنة، بحيث يؤكد على شمولية الفعل الاصلاحي من خلال انتقاده للاجتهادات المطروحة في هذا الباب -الإصلاح- نظرا لكونها تحمل وجهة نظر تعطي الحقيقة من زاوية معينة (يعني دون الزوايا الأخرى). والحديث عن عملية تجديد النظر السياسي للأمة العربية لا يعني إمكانية فصل الجانب السياسي عن جوانب أخرى، إذ أن ذلك ليس إلا تمييزا فرضته طبيعة الدراسة التي تهتم فيه بالجوانب التي اصطلح على إدخالها في مجال السياسة. وحقيقة الأمر أن بين التجديد والسياسة ارتباطا لا انفصام له، فإذا كان التجديد في جوهره ليس إلا إصلاحا أو تقويما، فإن السياسة في معناها ومبناها تعبر عن القيام بالأمر بما يصلحه، وعملية التجديد السياسي ذات مستويات متعددة (الفكري_ النظامي_والحركي) . وهذا يحيلنا إلى ما أثله الأستاذ سعيد الحسن في مشروعه الفكري حول المدركات الجماعية باعتبارها المبادئ المرجعية التي توجه وتميز السلوك الإنساني، وتنتقل به من المستوى الفردي الخاص ومن بعده اليومي والزمني المحدود، إلى مستوى السلوك الجماعي العام، وإلى البعد التاريخي المطلق المتوجه من ماضي الجماعة إلى مستقبلها، وبما يشكل ناظما سلوكيا للوجود السياسي وللعلاقات الإجتماعية وللوظيفة الحضارية للجماعة. كما أنها محصلة تاريخية حضارية للخبرة والحياة الجماعية الممتدة عبر الأجيال امتدادا يتولد عنه مفاهيم مرجعية وقيم سياسية وتقاليد مسلكية ومؤسسية معبرة عن هذه المفاهيم والقيم. ويضيف على أنها دلالة على استواء وتكامل عناصر الوجود السياسي للجماعة في موطنها المشترك، نتيجة التطور التاريخي المشترك لمجتمع أجيالها المتعاقبة، وبذلك يكون هذ التميز علامة على استواء الجماعة مجتمعا(مكتمل التكوين)، وعلى مضمون وظيفته الحضارية(المعبرة عن مدركاته السياسية) .نشير أيضا إلى أن تعاطي الأستاذ سعيد الحسن مع المدركات الجماعية هو تعاطي كلي وشامل من خلال القيم، وتجديد النظر بما يطرحه المستشار طارق البشري هو إحياء وتجديد للمدركات الجماعية بما هي إعلان عن تشكل للأمة المجتمعية. إن هذه الرؤية تعبر عن انعكاس القيم على ترتيب الحياة الإجتماعية والحضارية، وهي تكريس لرؤية الإسلام للإنسان باعتباره كائنا رساليا تجاوزيا. ومفهوم التجديد السياسي في ارتباطه بالخبرة الإسلامية باعتباره مفهوما شرعيا، يؤكد أن عملية التجديد في العالم العربي والإسلامي لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال العودة إلى الأصول والتفاعل معها، فهو تقويم للإنحراف وإحياء للأصول في مواجهة المواقف المستجدة والمستحدثة دون إفراط أو تفريط أو استظهار في كل ما يتعلق بمجال السياسة وبما يمكن إصلاح حال الأمة وإحداث نوع من التغيير الإيجابي لعناصر الرابطة السياسية: فكرا ونظما وحركة . فالتجديد بهذه الرؤية هو تحقيق للوفاء من قبل العقل الإسلامي لنموذجه الموروث في العيش والحياة، حيث يكون فيه منسجما مع مستلزمات الإنتماء الحضاري للأمة العربية والإسلامية، بما هو انتماء مؤسس على منظومة مرجعية وقيمية لها رؤيتها المتفردة للإنسان والعالم. في ذات السياق تحدث المستشار طارق البشري عن المرجعية الشرعية أو الإطار الجامع باعتبارها ركيزة التكوين النفسي والمشترك للأمة، أي البنية الأساسية التي تقوم عليها الجماعية السياسية. حيث حذر من خطورة الإنقسام المتعلق بأمر المرجعية الشرعية في الجماعة، لأنه انقسام لا يقسم الجماعة فقط، ولكنه يذيبها أو يعرضها للذوبان بما ينال من هويتها ومن إحساسها بالذات الجماعية، لأن الشعور بالإنتماء هو في التبسيط الأخير وضع ثقافي، فهي شعور وإدراك وتشكل فكري، والإنقسام يشكل خطرا لكن يمكن أن تتم مواجهته بدعوة إلى التوحيد، وهذه الدعوة تقوم على الشعور بالإنتماء للذات الجماعية . وتروم هذه الدراسة مناقشة دور التجديد السياسي الإسلامي في إحياء المدركات الجماعية للأمة، لهذا سنحاول تبيان دور هذا التجديد من خلال الإجابة على التساؤل التالي : ماهي القواعد والأسس التي استند إليها طارق البشري في منهج نظره في الفكر السياسي الإسلامي؟ وذلك من خلال المحاور التالية: أولا : طارق البشري، السيرة والمسار 1 –معالم في سيرة طارق البشري 2 – الأصول المنهجية والمعرفية للمستشار طارق البشري ثانيا: منهج النظر السياسي: التجديد قاعدة للإصلاح 1 – التجديد في الفكر السياسي الإسلامي للمستشار طارق البشري 2 –مقومات الإصلاح عند طارق البشري: الجماعة السياسية والتيار الأساسي للأمة حيث سنخصص هذا الجزء الأول للمحور الأول، فيما سنتحدث عن الثاني في جزء لاحق بإذن الله. أولا : طارق البشري، السيرة والمسار يعتبر المستشار طارق البشري من الرموز والأعلام التي تركت بصمتها في المسار الفكري والثقافي داخل الوطن العربي والإسلامي، هو مفكر وقاضي ومؤرخ مصري، ولد في 1 نونبر 1933 بالقاهرة في مصر، ينتمي إلى عائلة تعود أصولها الإجتماعية إلى محلة بشر في مركز شبراخيت بمحافظة البحيرة. كل هذه الصفات التي يحملها طارق البشري تدفعنا للبحث بشكل عميق في طريقة تكون شخصيته، والبيئة الإجتماعية التي نشأ فيها، أيا النسب العائلي والأسري وتأثيره على تكوينه النفسي والفكري، إضافة للمحيط الإجتماعي الأوسع الذي ترعرع فيه. ثم ماهية المنابع والأصول الفكرية والمعرفية التي نهل منها وانعكست على شخصيته وأثرت في مساره الفكري، والتي استند إليها وأسس من خلالها رؤاه الفكرية وأطره التحليلية. كل هذا سنتطرق إليه من خلال البحث في سيرة المستشار طارق البشري كشخصية مثقفة وعلمية. 1 –معالم في سيرة طارق البشري ينتمي المستشار طارق البشري إلى عائلة مصرية كبيرة أدبا وعلما، تحظى بمكانة اجتماعية مقدرة جدا. حيث ولد طارق البشري في 1 نونبر 1351ه/1933م بحي حلمية الزيتون بمدينة القاهرة. وهو ينتمي لأسرة عريقة اشتهرت بالعلم الديني والعمل بالقانون، هي عائلة البشري التي يرجع موطنها إلى محلة بشر التابعة لمركز شبراخيت بمحافظة البحيرة شمال مصر. حيث كان جده من أبيه "سليم البشري" 1332ه/1914م شيخ السادة المالكية بمصر، كما اشتهر عمه عبد العزيز البشري كأديب كبير في مصر، وكان والده المستشار رئيسا لمحكمة الإستئناف حتى وافته المنية في عام 1370ه/1951م. تخرج البشري في كلية الحقوق بجامعة القاهرة سنة 1372ه/1953مم، حيث درس فيها الفقه والقانون والشريعة على يد كبار علماء مصر كالشيخ عبد الوهاب خلاف والشيخ علي الخطيب والشيخ محمد أبو زهرة. وبمجرد تخرجه تم تعيينه مباشرة بمجلس الدولة واستمر في العمل به حتى أحيل للمعاش سنة 1418ه/1998م – نائبا أول لمجلس الدولة ورئيسا للجمعية العمومية للفتوى التشريعية. قضى طارق البشري سنوات طفولته وصباه ومطلع شبابه في البيت القديم لجده الشيخ سليم-بحلمية الزيتون- إلى ان قارب العشرين من عمره، تحيط به العمائم والطرابيش، وهو يتقلب بين بيت جده لأبيه في المدينة، وبيت جده لأمه في القرية(احالة للقاضي المفكر ص 70) ، وذلك بين أسرته الممتدة والمترابطة التي تطغى فيها علاقات القرابة على أي شيء آخر. وكان ارتباطه بالريف ارتباطا وثيقا وحميميا، حيث يقول في هذا الصدد: " المسافة بين المدينة والريف يقطعها قطار الضواحي أو السيارة في زمن لا يصل إلى الساعة الواحدة، فلم تكن اي إجازة تزيد يومين إلا ونقضيها في القرية"(احالة طارق البشري التكوين ص 35) . وظل هكذا إلى أن كبر واستدرجته القاهرة وغرق في خضمها، فلم يعد يتردد على القرية، وخاصة بعد وفاة جده لأمه ووفاة خاله أيضا . فكانت القرية بالنسبة لطارق البشري محطة مهمة للإطلاع على الحياة بوثيرة مختلفة على المدينة، حيث قوامها الدين والزراعة والأسرة الممتدة، كما أنه لاحظ الدور الوظيفي بالغ الأهمية للتكوينات الإجتماعية الموروثة، وخاصة الطرق الصوفية ودورها في إيصال الثقافي الدينية والتربية الوجدانية لكل المستويات الشعبية، وأدرك الأثر السلبي لازدواج نظام التعليم على القرية، حيث التعليم الحديث يأخذ من الريف صفوته ويفرغه من طاقاته والتعليم الأزهري يربي له صفوته ويضيف إليه . ويرى الدكتور إبراهيم البيومي غانم أن أربعة كلمات تلخص السياق الإجتماعي بمعناه الخاص وبمدلوله العام الذي نشأ فيه الأستاذ طارق البشري، منذ ولادته إلى تخرجه من كلية الحقوق سنة 1953، وهي "العمامة، الطربوش، المدينة، والقرية". حيث أن من محيطة هذا تشرب الكثير والعديد من المبادئ والقيم، ومنه ايضا سلك طريقه إلى إلى مصادر تكوينه الفكري والثقافي . 2 –الأصول المنهجية والمعرفية للمستشار طارق البشري تخرج طارق البشري من كلية الحقوق في مدينة القاهرة سنة 1953، حيث استمر في بناء شخصيته العلمية من خلال اطلاعه الحر والواسع، رغم أنه أضحى بعد ذلك أكثر تركيزا مع مجاله التخصصي الذي هو القضاء والقانون، حيث كان يعيش القانون كما قال. وبعد توسعه في القراءة والبحث كانت لها رؤى عادية في العديد من القضايا دون أن يؤسس تجاهها لخطاب نقدي، وأهمها العلمانية، كونه لم تكن مواقفه منها واضحة وقوية كما هي عليه الآن. فبسبب قوته في القراءة والبحث باللغة الإنجليزية استطاع أن يلم بأهم تفاصيل التاريخ السياسي لأوربا وللحركات السياسية التي تعاقبت على هذا التاريخ، فتعمقت هذه المعرفة بالتكوين الفلسفي والإقتصادي إلى أن أضحى علماني الفكر، واستمر هكذا لقرابة عشر سنوات تقريبا بين 1960 و 1970م، وكانت أبرز قراءاته في تلك الفترة في الفكر السياسي والحركات السياسية الغربية والحركات الاشتراكية والتجارب الثورية وحركات التحرر في العالم. كما أنه بدأ يكتب بمجلة الطليعة ككاتبعام سنة 1965م،حيث كانت الإيديولوجيةالإشتراكية هي الرؤية المسيطرة عليه في تلك الفترة، على اعتبار أنها تؤسسلعدالة اجتماعية وبناء وطني مستقل على القوى الإمبريالية من الناحية السياسية والاقتصادية. هذا التكون المعرفي الذي أسسه البشري أولا على الفكرة الإشتراكية جعله يؤمن بفكرة الإستقلال الوطني السياسي، هذه الفكرة التي كانت في وقته تتعلق بحركة الإستقلال العالمية العربية والرغبة في بناء وطن عربي قومي مستقل سياسيا واقتصاديا. وعلى خلاف وعكس فكره العلماني كان المستشار طارق البشري يؤمن بالعديد من الأساسيات التي تأسس عليها الدين الإسلامي، حيث كان على اطلاع واسع ومعرفة ودراية كبيرة بالفقه والشريعة كما كان يحترم ويقدر بشكل كبير الفقهاء المسلمين، إضافة إلى أنه كان يؤمن بأن الرزق الذي ظل دائما في قلبه وعقله يتعلق بأمر وقدر الله تعالى وفي هذه المساحة يمارس البشري العمل العام على أساس أنه واجب والأجر هو رزق من الله، ثم أن الصحة والموت مرهونان بقدر الله .وكانت بداية طارق البشري في تحوله إلى الفكر الإسلامي بعد هزيمة 1967،حيث كانت مقالته "رحلة التجديد في التشريع الإسلامي" أول ما كتبه في الفكر الإسلامي واستمرت كتاباته الإسلامية إلى يومنا هذا. الروافد المساهمة في بناء شخصية البشري المعرفية والعلمية ساهمت العديد من الروافد في تكوين شخصية طارق البشري فكريا ومنهجيا، حيث أجملها الدكتور إبراهيم البيومي في أربعة أمور أساسية: المناخ الثقافي العام للمجتمع الذي نشأ فيه وتأثر به، وتسربت قضاياه إلى وعيه منذ صباه الباكر، ثم نظام تعليمه الرسمي الذي سلكه منذ الإبتدائية إلى الجامعة، أيضا قراءته الحرة، وأخيرا تأثره ببعض أعلام العصر وكبار مفكريه، وذلك عن طريق قراءته لهم أو اتصاله بهم، أو إعجابه بأعمالهم وحواره معهم ومشاركتهم في بعض أفكارهم . وفي الغالب ما يكون السياق الثقافي الشامل مسهما في بناء وتكوين شخصية الإنسان بطريقة تلقائية وعامة، حيث لا يخص إنسانا دون آخر. لكن يختلف تأثر المناخ الثقافي باختلاف استعدادت كل شخص وانضمامه لهذا السياق العام وتفاعله من داخله. أما النظام التعليمي فهو يقوم بالمساهمة في تكوين شخصية الإنسان من خلال المعارف التي يتلقاها بطريقة اكثر تنظيما عبر مقررات ومناهج تكون اكثر ضبطا. وبخصوص القراءة الحرة أو المطالعة الذاتية في بحور العلم والمعرفة بشتى فروعها تكون أكثر قوة في البناء الفكري والمعرفي لشخصية الإنسان، لكن هذا يتوقف على قدرة الإنسان في توظيف ما ينقب عنه على أحسن وجه، ثم هناك الأعلام او الرموز العلمية والمعرفية التي يتأثر بها الإنسان من خلال الإطلاع على أعمالها العلمية. أ – السياق الثقافي : إن السياق المقصود هنا هو ذاك المناخ الذي كانت فيه القضية الوطنية تشكل الملامح الأساسية لتلك الفترة المهمة من تاريخ مصر، أي ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين. حيث فيه تفتح وعي طارق البشري بجماعته وأمته وسيطرت عليه القضية الوطنية بشكل كبير، واستعر فيه النضال من أجل الإستقلال، وتحرير البلاد من كل سلطان أجنبي . كان العالم العربي آنذاك يعيش على وقع النضال من أجل التحرر الوطني وتحقيق الإستقلال وفك الرهان من قبضة المستعمر، وكان السياق المصري هو الآخر كان في ذات الخيار، حيث ألقت الحرب بظلالها الكثيفة على الواقع الإجتماعي والسياسي برمته، وأسهمت في تشكيل المزاج النفسي، وعمق الشعور بالهوية لدى عامة الناس وخاصتهم. ويتحدث المستشار طارق البشري حول تأثير المناخ آنذاك، فيقول: " بعد الحرب كانت كلمة الجلاء تحمل أعذب النغم، علقت بها الشارات على الصدور، ونسجت على أشرطة الحداد التي كانت توضع على الأكمام، وهتفت بها المظاهرات، وسقطت تحت وطأتها حكومات، وتألفت حكومات…، لكن النقطة التي قد تكون خفية هي أن يتبلور الوعي في ظروف مفارقة-تكاد تكون تامة- بين المثال المحمول في الصدور، وبين ما يجري في الواقع، وأن تقوم هذه الفجوة لواسعة بين الرجاء والفعل" . وساهمت العديد من دوائر المجال الحيوي الثقافي في تكوين شخصية البشري، وكانت العائلة أولها، كما أثرت في ذلك النخب الثقافية الجديدة عبر الصحافة والمسرح والنقاشات الفكرية. فقام طارق البشري باستغلال مناخ نشأته وبناء شخصيته عبر ما وفره له هذا المناخ من أجل إغناء وعيه مبكرا بهموم الجماعة الوطنية، حيث صارت القضية الوطنية بالنسبة له أهم القضايا في وجدان البشري، ويتضح هذا بشكل جلي في العديد من كتاباته، حيث يقول في إحداها: "من يسألني من أنت؟ أقول له أنا من أبناء الحركة الوطنية في مصر، ومن هذا الجيل الذي تربى في حجر ثورة 1919، ولد جلينا بعد هذه الثورة ببضع عشرة سنة في الثلاثينات، ولكننا أبناء من قاموا بهذه الثورة؛ تربينا في حجورهم، وسمعنا أعذب النغم في طفولتنا عن استقلال مصر، وكانت صورة مصر المستقلة في رؤانا هي صورة المدينة الفاضلة . فساهم كل هذا في تربية البشري وبناء وجدانه السياسي وتكوين ضميره الوطني، حيث كانت هذه الأحداث معلمة للبشري في المجال السياسي ومكنته من كيفية تبين طريقة جريان الأحدث السياسية وأساليب التصدي لمشاكلها. ب –النظام التعليمي: بدأ المستشار طارق البشري تعليمة النظامي المدرسي في المدراس المصرية الأميرية، من مدرسة الزيتونة الإبتدائية سنة 1940، مرورا بمدرسة مصر الجديدة الثانوية في 1944، وصولا وانتهاءا بكلية الحقوق جامعة فؤاد(القاهرة حاليا)، سنة 1954. أمضى سنواته الإبتدائية بطريقة عادية وخلفت في ذهنه وتكوينه المعرفي والفكري العديد من ، حيث كانت كل فترة إلا وتركت أمورا عالقة بمخيلته، أنهى هذه المرحلة كارها لمادة الرسم بسبب المدرس، وولج المرحلة الثانوية أعجبته فيها مادة التاريخ بسبب الأستاذ محمود خفيف الذي كان يدرسهم "أوروبا في القرن التاسع عشر"، كما كان شاعرا ومؤرخا وأديبا معروفا بمصر، منه تعلم حقيقة أن العمل رسالة وليس وظيفة فقط. انتقل طارق البشري إلى الدراسة بالجامعة في كلية الحقوق بجمعة فؤاد الأول سنة 1949، وقد صادف التحاقه بالكلية أول سنة لسريان القانون المدني الجديد الذي بدأ تطبيقه سنة 1949، ووقتها لم تكن هناك كتب مؤلفة عن القانون الجديد، وتغلب منهج المقارنة بين مواد القانون القديم والقانون الجديد، وأفاده هذا المنهج في تعميق رؤيته للأمور وضرورة النظر إليها من أكثر من زاوية، إلى جانب أهمية الموزانة والترجيح بين وجهات النظر المختلفة وفقا لمعايير واضحة ومحددة . منذ التحاقه بالكلية انضاف لديه إلى حبه للتاريخ حب القانون، كما أنه تأثر بالعديد من أعلام الفقه والشريعة الذين كانوا أساتذة هناك، أبرزهم الشيخ أبو زهرة، وفي هذا الصدد يقول المستشار طارق البشري: " أحببت القانون، واخترته دون تفكير في غيره، فكان كالقدر ليس له بديل، ولقد لقيني ولقيته وأحببته وأحبني، وما من أستاذ درست عليه إلا نفعني بعلمه… لكن الشيخ عبد الوهاب أثر خاص . فكانت مادة القانون من النوافذ التي فتحت للأستاذ البشري المجال للإطلاع على الفقه الإسلامي، وذلك من خلال دروس مادة الفقه الإسلامي، ويقول "كنت أشعر أن الشريعة الإسلامية ربانية لا يأتيها الباطل، والفقه الإسلامي المتصل بها والمجدول من أحكامها وفروعا وأصولا من أعظم ما تفتقت عنه العقلية الإسلامية فيما قدمته للحضارة الإسلامية(احالة التكوين ص38)". كانت كل هذه أهم الأمور التي ساهمت في تكوين شخصية البشري معرفيا وفكريا، طبعا إلى جانب العديد من المؤثرات التي لم تكن بمعزل عن بعضها البعض، خصوصا السياق الثقافي والسياسي وتجربته الذاتية في القراءة وتعلقه بالعديد من الشخصيات. ج – تجربة البشري الشخصية في القراءة، وتأثره بمعاصريه كبار العلماء: تساهم عملية القراءة والبحث في توسيع أفق ونظرة المطلع العلمية والمعرفية، كما أنها تؤسس لصقل معرفته وتجعلها متجددة باستمرار. فكلما زاد إقبال الإنسان على القراءة أكثر فأكثر كلما ساهم في تكوين شخصيته فكريا ووجدانيا وثقافيا. ابتدأ المستشار طارق البشري مسيرته فالقراءة بمكتبات أفراد عائلته، ثم مدرسة ثانويته، فمكتبة كلية الحقوق، ومن بعدها مكتبة مجلس الدولة، ومكتبة محكمة النقض ونقابة المحامين. كما أنه كون مكتبته الخاصة مع مرور الزمن. فكان يطلع على أغلب الكتب القانونية باعتبار والده كان يعمل في القضاء، كما أنه اطلع على كتب أدبية وفقهية كثيرة في مكتبة جده، ككتاب "أسنى المطالب شرح روضة الطالب" للشيخ زكرياء الأنصاري، وكتاب " فنح الباري شرح صحيح البخاري" لابن حجر العسقلاني. كما كان يقرأ كثيرا للعقاد وطه حسين والرافعي، لكن في فترة الجامعة ركز على الكتب القانونية إلى جانب بعض القراءات في الأدب العربي والفكر الإسلامي. فانعكس كل هذا الشغف الذي كان لدى البشري في القراءة على الكتب التي اشتراها وكون منها مكتبته الخاصة، حيث كانت تضم هذه الأخيرة حوالي عشرة لآلاف كتاب ، كانت تتوزع بين القانون والفقه والتفسير والحديث الشريف والتاريخ السياسي لمصر والدول العربية والإسلامية، إضافة إلى كتب الإقتصاد والفلسفة والإجتماع. تأثر طارق البشري بعدد مهم من كبار العلماء المعاصرين له والمفكرين، حيث استفاد منهم علميا وأخلاقيا وأضحى يقدرهم يقديرا خاصا. فكان للشيخ محمد الغزالي رحمه الله صاحب كتاب "عقيدة المسلم" الأثر الكبير في المتشار طارق، حيث بدأ يطلع على كتبه وهو في السنة الثالثة من كلية الحقوق، فيقول في هذا الصدد: "قرأت الكتاب على نفس واحد، وأعدت قرائته في الأيام الأخيرة بعد وفاة الشيخ فوجدته محفورا في صدري، أكاد أتبين ملامحه، وريم صفحاته في نسخته القديمة، ووجدت موازينةمركوزة في عقلي، ووجدته مكتوبا بمنهجه ذاته(…) ومن ذلك اليوم البعيد من عام 1951 بدأت متابعتي لشيخنا الجيلي، ومحبتي له؛ محبتي له التي لم أبدها له قط، فقد منعني الحياء- منذ طفولتي إلى اليوم- من التعبير عن عواطفي تجاه من أحبهم وأحترمهم، وأدركت أثرهم الكبير" . أعجب المستشار طارق البشري بالغزالي في توازنه واليسر والسهولة التي يتميز بهما في التعبير عن الأمور التي قد تبدو للباحث معقدة، إضافة إلى شجاعته وجسارته وقوته، ويتحدث البشري عن قوة الغزالي أنها نابعة من قوة إيمانه بالله تعالى واقتناعه بالإسلام حقا. إضافة إلى الشيخ محمد الغزالي ساهمت عدة شخصيات في صقل شخصية البشري المعرفية، نذكر هنا خالد محمد خالد الذي يعتبر من الأعلام الذي عاصرهم البشري، حيث أعجب به ووافقه في العديد من آرائه، حيث كان مسهما بشكل كبير في بناء الجانب الفكري والسياسي من شخصية طارق البشري. ثم هناك الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، شيخ الأزهر رحمه الله، حيث أعجب البشري بدفاع الشيخ عن دعم استقلال الأزهر الشريف، ودفاعه عن الإسلام ومعتقداته، والذوذ عن حرمات الله. انتقال طارق البشري من العلمانية إلى الإسلام: ساهمت مصادر التكوين الفكري والوجداني والثقافي للمستشار طارق البشري في بناء شخصيته منذ شبابه إلى اليوم، حيث نجدها متنوعة ومتعددة وتتصل بروافد التراث العربي الإسلامي من ناحية، وروافد الفكر الغربي الحديث وتوجهاته الفكرية والسياسية والثقافية من ناحية أخرى. فبعد تخرجه من الجامعة وانطلاق حياته العملية أضحى المستشار طارق البشري علماني الفكر، حيث كان يضع حدا بين الأمور العامة والخاصة، مثلا بين ما هو سياسي وماهو ديني. وقد تعمق توجهه الفكري العلماني مع بحثه المتعمق في الفكر السياسي الغربي الحديث، إضافة إلى اطلاعه الواسع على تاريخ الحركات السياسية والغربية والثورات الإشتراكية وما ارتبط بها من تجارب تحررية في العديد من البلدان التي كانت مستعمرة آنذاك، وظل فكره على هذا المنوال إلى حدود 1970 تقريبا. في الفترة السابقة الذكر كان علمانيا قحا على حد تعبيره في إحدى المقابلات التي صرح فيها بالأمر، حيث كان وضع الدين في ذهنه هو علاقة الإنسان بربه وفقط، أي أن الإسلام هو أمر ذاتي فردي بعيد عن العمل الجماعي، ويقول: "كان لدي فكر إسلامي وديني في أمور ثلاثة هي: أولا، معرفتي الفقه كأساس مهني وفقط، ثانيا؛ الرزق وهو ظل في عقلي وقلبي أمرا يتعلق بقدر الله سبحانه وتعالى، ثالثا؛ الصحة والموت هما أمران مرهونان بقدر الله . هكذا كان تفكير المستشار طارق البشري، حتى حدثت هزيمة 1967 وانتكست العديد من الطروحات الفكرية والسياسية وتراجعت، كما صعدت في المقابل تيارات أخرى، ليس في مصر فقط، بل شمل الأمر العالم العربي والإسلامي أجمع. وكانت شخصية البشري جزء من هذا التحول الذي وقع، حيث اعتبر ممن أسسوا لإعادة البناء الثقافي والسياسي والتي خاضها أبرز أعضاء النخبة الفكرية المصري، وكان مسارهم التحولي العام هو الإنتقال من العلمانية كإطار مرجعي ورؤية معرفية وضعية، إلى الإسلام كإطار مرجعي أصيل، ورؤية معرفية إيمانية . مثل المسار الجديد الذي سلكه البشري منطلقا لطرح العديد من التساؤلات، خصوصا المتعلقة بتلك الهزيمة التاريخية، كما أنه ابتعد بشكل كبير عن الكتابات الأدبية التي كانت تشغله في وقت من الأوقات، وشغل باله وفكره بالأسئلة الكبرى، فتساءل عن طبيعة الذات العربية والإسلامية وماهيتها، وخلص إلى أن السبيل الوحيد للإستقلال السياسي لابد من تحقيق الإستقلالالإقتصادي وقبل ذلك معه الإستقلال العقدي والفكري والشعور بالهوية والإنتماء المشترك، وهذا بطبيعة الحال لا يكون إلا بالعودة إلى الذات والتصالح معها حضاريا وتاريخيا. كانت هذه المراجعات التي قادها البشري في مساره بمثابة الشعور باستعادة هويته المرتبطة بعقيدته وحضارته، حيث بدا يتضح له أن الرؤية العلمانية تجعل من الإنسان عمليا مقولة طبيعية فقط وتفرغه من محتواه. فبحث البشري في العلمانية ونقده لها جلعه يكتشف أن النموذج العلماني-الفكري والسياسي- للا يعطي للجانب العقدي والحضاري حقه. ووجد أن العلماينة تفقده الهوية؛ كونها تنفي عليه البعد الروحي والعقدي معا، ومن ثم تفقد الشخص إرادة الإستقلال التام، ومن ثم يقول: "من هنا بدأت استعادتي لهويتي، وبدا لي الفكر العلماني في مأزق لأنه يؤدي إلى تجريد الإنسان من هويته المرتبطة بعقيدة وحضارته" . وتحدث البشري في كتابه حول التكوين على أن رحلة الحج في سنة 1983 كانت مساهمة بشكل كبير في بناء فكره على أساس إسلامي حيث يقول: " ولم أسافر للحج إلا بعد أن وجدت نفسي خلصت في الأمر وأعدت بنائي الفكري والسلوكي على أساس إسلامي، وقد أخذ مني ذلك وقتا كبيرا حتى أسافر وأنا نظيف، وهناك شعرت كأنني خرجت من جاذبية كوكب معين إلى جاذبية كوكب آخر، وحينما رأيت الكعبة سألت نفسي من الذي أتى بي إلى هنا، وشعرت بهداية الله وتذكرت قوله تعالى "ثم تاب عليهم ليتوبوا إنه بهم رؤوف رحيم" . كان هذا التحول الذي عاشه البشري من ضيق العلمانية إلى سعة الإسلام ورحابته، ومن ثم تبلورت لديه العديد من الإشكالات على مستوى منهج النظر والرؤية كتمثل معنوي، والواقع والممارسة كتمثل واقعي. ومن القضايا الشائكة التي أسهم فيها البشري بشكل كبير حديثه حول مفهومي "الموروث" و "الوافد" ، حيث أسس لتأصيل نظري وممارساتي للمفهومين ، كما تحدث عن مفهوم "الإستقلال الحضاري" من خلال حشد قوى الأمة وتياراتها الفكرية المتباينة من أجل إنجاز هذا الإستقلال . هذا التحول أعاد صياغة مفهوم البشري للإستقلال الوطني بوصفه استقلالا حضاريا، مما سينقل اهتمام مشروعه القومي الذي أخضعه للتنقيح من الفضاءات السياسية والإقتصادية التي شكلت بؤرة اهتمام الناصرية نحو الأبعاد الفكرية، والأخلاقية والعقدية والثقافية. ووضح هذا مقالة "رحلة التجديد في التشريع الإسلامي" التي أسس من خلالها المشروع الحضاري للإستقلال عبر الشريعة الإسلامية لاغيرها، والتي سيعاد تفسيرها وفق عملية مبتكرة من الإجتاهد لمواجهة الظروف والتحديات الراهنة التي تواجهها مصر . فتحدث عن المرجعية الإسلامية في مقابل المرجعية العلمانية على مستوى التأصيل العربي، حيث يقصد بالمرجعية الإسلامية منهجا للنظر إلى الإسلام باعتباره أصل للشرعية، ومعيار للإحتكام، وكإطار مرجع في النظم الإجتماعية والسياسية، كما يقصد بالمرجعية العلمانية الصدور عن غير الإسلام وغير الدين في إقامة النظم ورسم العلاقات وأنماط السلوك . بهذا أضحى فكر البشري بأكلمة ينبع من الإسلام كمرج وإطار، ولهذا يعتبر البشري أن من يريد أن يكون وطنيا خالصا يجب أن يكون الإسلام هو "النواة الصلبة" لتوجهه، أو المسلمة الفكرية التي يتشبت بها، ويكون عليها مدار رؤيته وحركته ويكون الإسلام هو المرجعية العليا المطلقة، فيصرح على أننا نحن أمة خرجت من هذا الكتاب-القرآن الكريم- ولا تزال تنهل منه، والله سبحانه أسأل أن يجعل امته هذه أمة قرآنية، وأن يبقيها على القرآن . خلاصة الأمر من خلال الإطلاع على التأصيل النظري للمستشار طارق البشري عبر إسهاماته منذ التحول الفكري الذي حصل لديه، نجد كل إسهاماته رصينة مفعمة برحيق القرآن، فمنظروه هذا هو دلالة عن وعي عميق بأصالة الحضارة الإسلامية والإعتقاد الجازم بتميزها، والرغبة نحو تجديدها، وهذا كله لا يمكن حسمه إلا بالحسم المطلق مع مشكلة الهوية والتصالح مع الأمة والذات. فرؤية البشري هي محاولة بناء النظرية الإسلامية المعاصرة على مستويات عدة، فكريا، قانونيا، تشريعيا، سياسيا، اجتماعيا، وثقافيا وتاريخيا .