مفعولا هكذا بالشهرة والنجومية وحصد المال أصبح الإنسان المعاصر، وذلك بفعل التغيرات السياقية للحياة العامة، وظهور نوع جديد من الميديا التي أفرزت إعلاما جديدا هو إعلام الجمهور أو الشارع ضدا على أو مواجهة للإعلام التقليدي الذي كانت تتحكم فيه المؤسسات الرسمية والشخصيات النخبوية المحكمة؛ فقد فتح هذا النوع من الإعلام الكاسح بابا مُشاعا تدخله العامة متى امتلك أصحابها الأدوات والوسائل والأفكار الجديدة والغريبة. ويمكننا هنا أن نثير الاهتمام إلى ظهور وسيلة لافتة عبر هذه الميديا الجديدة، إنها ظاهرة الbuzz، هذه الكلمة الانجليزية التي انتقلت من مدلولها المعجمي كطنين أو أزيز الحشرات التي يزعج الأذن، إلى دال ينحت نفسه بقوة في حقل الميديا ليدل على تلك التقنية الجديدة في فن التسويق لإثارة الانتباه حول حدث أو منتوج مادي أو معنوي، أو الترويج لشخصية ترغب في الظهور في الواجهة عبر مختلف الميادين: تجارية، سياسية، فنية، دينية، أو حتى أدبية… ولم يخل إعلامنا العربي الجديد من هذه الظاهرة، إذ تحمل تسميات لا تخرج عن دائرة مصطلحها الغربي، من قبيل الصيحة، والخرجة الإعلامية التي يتفاعل معها الجمهور تأثرا وتأثيرا، من أقوال وأفعال وصناعات تشذ في الغالب عن المتعارف والمألوف، بالتصريحات أو الأعمال الفنية والأدبية، أو حتى الفتاوى الدينية الغريبة عن كل اجتهاد وقياس، أو من خلال مظاهر أخرى لها علاقة بثقافة الجسد العربي ولباسه، أو بالعادات والتقاليد المصكوكة والقيم الموروثة… هي أمثلة كثيرة يصعب حصرها في هذا المقال. وتكمن دواعي هذه الاستراتيجية التي تقوت في عصرنا الراهن في ثلاثة أهداف هي: الحرية، والشهرة، وفن الكسب؛ ثالوث يترجم سيكولوجية الإنسان الطموح بكل ما تحمله نزعته الماكيافيللية من معنى؛ ففي ظل الحرية بكل محمولاتها وروافدها، نجده قد كسر قيود عقله وعاطفته؛ وأمام بريق الشهرة، انجذب بكل عمى إلى تخومها العليا حتى يكون مثار حضور وإعجاب في عيون العالم؛ وبسبب إكراهات العصر المادية، فقد نحا هذا الإنسان أيضا بكل وسيلة مبررة أو غير مبررة إلى التفنن والتحايل في كسب المال لتأمين حياته المادية المرهونة، كرها، بانخراطه في منظومة واسعة من الاستهلاك والمتعة. وأمام هذا الوضع الإعلامي الجديد، وهذه التنافسية الشرسة في الظهور على الواجهة، أو الرغبة في التعبير عن سخط ما أو تغيير الواقع المبتذل، أو الترويج لإيديلوجيا معينة… حشد الأشخاص، ممن يمتلكون الإرادة والفكرة والوسيلة، كل طاقاتهم مستثمرين هذه التقنية الجديدة (buzz) كوسيلة فعالة، بل كسلطة جديدة وفعالة، قادرة على اكتساح أي سنن ثقافي وقيمي، واقتحام أي باب كان يُعد في ما سبق من المتعاليات؛ وقد تعزز هذا الفتح الجديد بفضل الإمكانات الهائلة التي تتيحها وسائل الإعلام والتواصل الحديثة رسمية أو غير رسمية، والتي تزحف ككرة الثلج من أقاصي الهامش إلى دريئة المركز المنيع، حتى أصبحنا نتحدث عن مركز جديد صاعد بقوته الإعلامية الشعبوية؛ حقا لقد استفاد الأشخاص، أولائك الذين يمتلكون الوعي الشقي، من خدمات التكنولوجيا المعلوماتية الذكية بكل بواباتها التواصلية الجماهيرية من وسائل التواصل الاجتماعي ( فيسبوك، تويتر، يوتوب، مدونات، مواقع، تطبيقات ذكية …) فردموا الهوة التواصلية التي كان يرسمها الإعلام القديم بين الخاصة والعامة، وأسسوا لأنفسهم واقعا صداميا يتماهى فيه الواقعي بالافتراضي، فانمحت بذلك حدود التفاعل بين المرسل والمرسل إليه، واهتزت يقينية الرسائل وقنواتها، وانتكصت أيضا الرقابة بمقصها الصارم، وبرزت في السطح عولمة تواصلية شعبوية كسرت الجغرافيات السياسية والثقافية والقومية والعرقية والدينية؛ وبات التقويم والتقييم أيضا عنوان الجمهور والعامة في شكله المباشر دون وساطة سلطوية أو نخبوية تقليدية. هكذا تغيرت ملامح المشهد الحياتي العام تأثيرا وتأثرا، ودون شروط أو وصاية مُتَحَكَم فيها، فأصبح الأفراد الطامحون للشهرة والنجومية والمال يشكلون قوة جديدة فوق غرامشية تتذبذب بين الفاعلية في التغيير وبين الظهور اللافت فقط، فأفرزت نوعا جديدا من المثقف، بمعزل عن المثقف الصريح والمعروف اسما وجسدا، فظهر ما يمكن تسميته بالمثقف الافتراضي المتمترس، علنا أو خفية، خلف اسم صريح أو مستعار، يدون، يصور، يعلق، يبدع، يندد، يثير الفتنة، يسخر، يشَهِر بنظام أو بشخصية نافذة أو واقع ما…بحرية تامة ومنفلتة. هكذا وجد الكثير من الأشخاص أنفسهم بفضل ظاهرة الbuzz ميالين بكل ما كانوا يحملونه سابقا من عقد الحرمان والتهميش والرقابة، متوسلين بدافعية التسامي ،كما يشير إليها علم النفس، إلى اكتساح النجومية والكسب المادي والمعنوي، بجعل مجالهم بؤرة جاذبية وانتباه، ودائرة تأثير؛ وإحقاقا لهذه الأهداف يلجأ كل واحد منهم، كما هو معروف، على رافعات يقفز بها فوق الخطوط الحمراء الممنوعة، هذه الرافعات/الروافد تتغذى على الخوض في الطابوهات التي ألفناها في السياسة والدين والجنس، وأيضا من خلال إثارة الفضيحة والسخرية، أو بالإعلان عن حالة من التمرد والعصيان والممانعة سياسيا، دينيا، فنيا وفكريا وأدبيا (معارضة سياسية، منتوج سينمائي أو غنائي أو أدبي خارج عن السرب وعن المتواضع عليه، التشهير بشخصية سياسية، فتاوى غريبة، تعرية الواقع بمحمولاته الثقافية)، أو الجهر بسر من الأسرار الخاصة ذات النزوع الشاذ والفاضح… وهلم جرا من المواضيع التي تثير شهية المتلقي من جهة، وتبصم على شهرة وفرادة صاحبها من جهة أخرى لكونه كسر جدار الصمت، ومزق حجاب المستور. نشير أخيرا أن ظاهرة الbuzz ليست جديدة على عصرنا الحديث، إذ لجأ إليها الإنسان منذ القدم، فقد كانت خصيصة فئات نخبوية فردية، لتصبح راهنا محج الجمهور والجماعة، فانقلب معها الهرم الإعلامي والثقافي رأسا على عقب، وتبوأت فيه القاعدة العريضة الصدارة العليا على حساب زاويته الضيقة التي تتقهقر شيئا فشيئا نحو الأسفل؛ فهل تتفطن سوسيولوجيا الإعلام إلى هذا الانقلاب والثورة الذي تحدث في سياقاتنا وأنساقنا الثقافية، وما يترتب عنها من تداعيات إيجابية وسلبية على مجتمعنا العربي؟