أول مطاعن يوسف زيدان في الناصر صلاح الدين أنه يورد ما جاء به ابن شداد مؤرخه الخاص الذي كتب بأن هذا الأخير رافق مكرها جيش الشام الذي أرسله نور الدين زنكي تحت قيادة عمه أسد الدين شيروكوه إلى مصر، رغم أنه كان في ذلك مجده وسعادته. وكأنه يلمح إلى أن صلاح الدين، ليس بذاك البطل المقدام الذي يقبل بالخدمة العسكرية ،و يرتمي بكل أريحية في أتون المعارك كما نتصوره نحن ونخاله. لكنه يتغافل أنه بهذا الدفع إنما يبرئ ساحة صلاح الدين الذي لم يكن متحمسا للذهاب إلى مصر. وهذا أمر عادي جدا، فقد كان آنذاك حديث السن ومرتبطا بوجدانه بالشام وبوالده نجم الدين الأيوبي بالإضافة إلى أنه لم يكن يبحث عن مجد حربي أو سياسي كما سيجاهد أن يبرهن لنا يوسف زيدان بعد ذلك.فالسلطة هي التي سعت إلى صلاح الدين، وليس صلاح الدين هو من سعى إلى السلطة.ثم إني أتعجب كيف يؤاخذ زيدان صلاح الدين بكراهته للذهاب إلى مصر والله سبحانه وتعالى يقر في كتابه الكريم بأن ذلك من خصائص النفس البشرية السوية قائلا و مخاطبا الصحابة الكرام الذين كانوا يعيشون تحت كنف النبوة بل ويشهدون الميلاد الأول لمفهوم الجهاد(كتب عليكم القتال وهو كره لكم الآية 216 سورة البقرة). ولكن دعونا من كل هذا فالحماس والتردد قبل الإقدام على الأمور العظيمة، خصوصا لما تكون هذه الأمور لا تزال قابعة في رحم القدر والمستقبل، هي مجرد اعتبارات وتموجات نفسية تحدث لكل البشر على اختلاف مراتبهم، ولا علاقة لها بما يحققه المرء بعد ذلك في الميدان. ولنذهب جميعا إلى مصر ولنر هل كان صلاح الدين فعلا جاحدا لنعم وجميل الخليفة العاضد الفاطمي؟. وهل تصرف هناك كرجل دولة أم كغر متهافت على السلطة ، كما ذهب لذلك زيدان؟ ينبغي للأمانة التاريخية أن نقر أولا أن الجيش الشامي هو من كانت له اليد البيضاء على مصر وخليفتها الشيعي، فهو الحامية العسكرية التي كانت تحمي الثغور والديار المصرية، وهو القوة الرادعة التي أسقطت خيانات الوزير شاور الجاسوس والمتآمر الحقيقي مع الصليبيين على أرض الكنانة، بعد أن كان قد استفرد بالخليفة الحدث تاركا له من الخلافة اسمها ورسمها فقط.لم يكن هناك خليفة بمصر بل مجرد خيال خليفة .ولم تكن هناك خلافة كما يتصورها زيدان، بل صورة خلافة آيلة للسقوط، وفي نزعها الأخير ،وتنتظر فقط رصاصة الرحمة .ولقد كان من حسن طالع مصر وبلاد الإسلام، أن قيض الله في هذه الظروف، رجلا كصلاح الدين ،عرف كيف يدبر بدهاء هذه المرحلة الانتقالية الحرجة من حياة المحروسة، إنسانيا، وسياسيا، وأمنيا ، ودينيا ؟ومذهبيا .لقد كان صلاح الدين رحيما بالعاضد الذي توفي إلى رحمة الله، وهو لا يعلم بزوال الخلافة الفاطمية، فقد كان وزيره الناصر له الذي يرفق بمشاعره ويأسى لمرضه.أما الخلافة الفاطمية فقد كانت قد بلغت منتهاها سواء بصلاح الدين أن بدونه.هل يتحسر زيدان الآن على الخلافة الفاطمية، وهل كان سيفضل لو قيض له أن يعيش في ذلك الزمان، وهو المصري الغيور، أن تظل مصر بيد خليفة من الأطفال عوض قائد قوي كصلاح الدين؟. وهل يا ترى بمثل مشاعر الاستجداء وتسول الرحمة هاته، كان يجب في رأيه أن تدبر أمور دولة عظيمة كمصر؟؟ . هل العاضد في رأي يوسف زيدان أبقى من كل شعب مصر ؟؟. لقد اتخذ صلاح الدين قرار سياسيا عظيما لا يتخذه إلا الدهاة المقيضون للأمور الجليلة ،بدفن الخلافة الفاطمية المريضة.هذا القرار الذي لا يمضيه عادة إلا رجال الدولة من الطراز الأول ،كان من نتائجه المباشرة أن وحد من جديد بين جناحي الأمة الإسلامية تحت كنف الخلافة العباسية السنية ببغداد. والتي شئنا أم أبينا كانت تحوز شرعية تفوق بكثير شرعية الخلافة الشيعية بالقاهرة، بدليل أن السلطان يعقوب المنصور الموحدي سلطان المغرب العظيم الذي كان يوجد على غرب الخلافة العبيدية، كان يدعو للخليفة العباسي على المنابر. أما ما أورده زيدان من حديث ساخر شهد به المؤرخون المعاصرون لصلاح الدين كان قد دار بينه وبين صديقه القاضي الفاضل حين بلغهما نعي الخليفة المعتضد، فتأسف صلاح الدين لاستعجاله إنهاء الخلافة الفاطمية قبل أن يقضي الخليفة فعلا ، و تهكم القاضي الفاضل بأن إنهاء الخلافة قد كان هو السبب في تعجيل موته. كل ذلك ليس دليلا على سوء أخلاق صلاح الدين ،لأن الإنسان في جلساته الحميمية بما فيها تلك يخيم عليها الحزن والغم، قد تصدر عنه تعليقات من هذا النوع على سبيل ترطيب الأجواء و التنفيس عن النفس المكلومة خصوصا في المجالس الخاصة والتي لا يمكن للباحث أن يعتبرها دليلا ،لأنها تبقى أضغاث أحاديث ولاتزن شيئا في ميزان التاريخ. هذا إذا سلمنا بأن هذه الواقعة قد حدثت فعلا. ولست أدري لماذا لا يشكك فيها زيدان كما شكك في كثير من مناقب صلاح الدين. فالحياد العلمي يقتضى ان نتصرف بنفس الحاسة النقدية أمام كل الوقائع. ولكن لا غرابة في هذا وهو قد جمع أمره على تحطيم هذه الأيقونة النفيسة للتاريخ الإسلامي .فلا يستطيع أن يلقي بالا إلا لما يجرح في نزاهتها وأخلاقها لتشييد نظرية كاملة عن فساد صلاح الدين و خسته وانحطاطه الأخلاقي. يجنح زيدان لهذا رغم أن تعليق صلاح الدين كان متزنا وإنسانيا .بل ولعله هو من أوحى لصديقه بمثل ذاك الجواب الذي كان على سبيل الظرف والمنادمة دون تحفظ بين الأصدقاء. و هو جواب يعيد تركيز الأنظار على الوضع السياسي الجديد للأمة الذي ترتب عن وفاة العاضد. فقد وحد صلاح الدين، من خلال تزامن موت الخليفة و موت الخلافة ،بقرار منه الأمة بهذه الخطوة الحكيمة والشجاعة ليؤهلها ويعدها لمقاومة العدو وذلك دون اقتتال أو إراقة دماء أو هدر وقت ثمين في التخبط في الفتن الطائفية المقيتة. وهي الخطوة التي تقبلت قبولا حسنا ، فلم ينتفض ضدها أهالي مصر خصوصا، وهذا يبرهن أن الخلافة الفاطمية التي يذرف صاحب عزازيل عليها الدموع كانت قد استنفذت مشروعيتها ،و استهلكت بيعتها التي لها في أعناق الناس ،ويبرز أيضا أن الصراع السني الشيعي هو في الحقيقة صراع الساسة المسلمين بينهم، والذي تشكل الشعوب المسلمة إلى الآن حطبه الذي توقد به نار الاقتتال والتطاحن من أجل طموحات فردية.ولست أدري كيف لم يكتشف زيدان في سلوك صلاح الدين هذه القوة التوفيقية بين فصائل الأمة التي تجعل من بعض الزعماء رموزا للوحدة الدينية والقومية ،والتي ما أحوجنا إليها اليوم ،وشبح التفرقة المذهبية قد أخذ يجوس خلال الديار العربية. خطب صلاح الدين بسلاسة كبيرة للخليفة العباسي، ودعا له في المساجد، وأزاح الورقة الذابلة للفاطميين، فجدد دماء الأمة، وأمضى عزيمتها، و شحذ همتها ،وهيئها للجهاد ضد الصليبين ،ودلل أكثر من هذا على ان الشعوب الإسلامية غير معنية كثيرا بالتقاطب الشيعي السني، الذي لا ينفخ فيه إلا الساسة والحكام، لتوطيد سلطتهم.هذا هو المغزى من دمج الخلافة الفاطمية في الخلافة العباسية الذي أنجزه صلاح الدين، لكن صاحبنا زيدان لا يريد أن يعترف له بهذا الإنجاز حين يتغاضى عن مضمون الوحدة التي أمضاها صلاح الدين بين بلادي الشام والكنانة، ويلتفت للسفاسف، ويهتم أكثر لشعور خليفة حدث أكثر من اهتمامه بشعور أمة بأكملها تريد من أعماق نفسها أن تتوحد وتلتئم ،ولعل نجاح صلاح الدين في تحقيق هذه الوحدة بسلمية ،ودون معارضة تذكر، هو ما يوغر قلب زيدان عليه. فالرجل الذي بالكاد يتقبل فتح عمرو بن العاص لمصر في جيش قليل العدد والعدة لا يتعدى 3000 مجاهد ،بل ويعزيه لتحالف القبائل العربية من الأنباط وسيناء مع الصحابي الفاتح، كيف له أن يقبل أن يضم صلاح الدين مصر لسلطات بغداد بدون حرب أو فتح أو اقتتال أو معارضة أو حتى تحالف .وكأني به يعبر عن نظرة قطرية ضيقة، إن كان لها ما يبررها اليوم، نظر ا لانشطار العالم العربي لعدة دول، بعد تقسيم تركة الخلافة العثمانية أو ما كان يدعى بالرجل المريض،فلم يكن لها أبدا ما يبررها في عهد الخلافة الفاطمية والسلطة الأيوبية التي تلتها، حين لم تكن هناك حدود جغرافية، أو تأشيرات بين الأقطار العربية، فكان الكل يتنقل على هواه طلبا للعلم أو للرزق، أو تقلبا فقط بسبب تصاريف السياسة والحرب ،وهو ما شكل مصدر خصب وثراء لمصر، و جعلها لا تستقطب صلاح الدين فقط، بل كثيرا من القادة والسياسيين غيره ،بل وحولها مهوى لقلوب الكثير من القادة الروحيين من الصوفيين الكبار،و الذين جاءها أغلبهم من بلدان المغرب العربي كأبي الحسن الشاذلي والسيد البدوي وعبد الرحيم القناوي و أبو العباس المرسي . إننا نوشك أن نحس بأن يوسف زيدان لا يعترف بمصرية صلاح الدين ،وينظر إليه بعد قرون طويلة كوافد من شام نور الدين زنكي، أو تكريت صدام حسين، أو كردستان العراق. فهل ينكر أن مصر كانت دائما بلادا مستوعبة لغيرها من العرب والمسلمين، وهل تكون له الشجاعة لينكر مصرية قطز وبيبرس وقلاوون، وخلفاء الفاطميين الذين أتوا مصر من تونس، ومحمد علي وذريته التي تمصرت وكانت مصر تخرج عن بكرة أبيها لتحيتها إلى حدود عهد الملك الأخير فاروق بن فؤاد الأول. …… يكفي هذا الآن….. لكن للمقال صلة….