انعقد بمقر العدالة والتنمية، يوم السبت 16 أبريل 2016 لقاء تشاوري رفيع على أعلى مستوى، بين خصمين إديلوجيين عنيدين بالأمس القريب، حليفين متوافقين حول قضايا الوطن اليوم في حظيرة حكومة التناوب الثانية بقيادة الأستاذ عبد الإله بنكيران، خصمين إديلوجيين وحليفين سياسيين هما: التقدم والاشتراكية الحزب الشيوعي المغربي سابقا، والعدالة والتنمية الحزب المحسوب على تجربة الإسلام السياسي.. لقد التأمت المرجعية القيادية لكلا الحزبين، في منعطف تاريخي فارق في الحياة السياسية المغربية، من أجل رسم معالم المستقبل الممكن لبلد ينحث طريقه بعسر نحو البناء المؤسساتي الديمقراطي والعدالة الاجتماعية والإقلاع التنموي، ولتبديد غيوم كثيفة من سوء الفهم خيمت على مراحل سابقة، ولرسم قواعد جديدة للتحليل السياسي للظرفية والتقدير المشترك للموقف إزاء التحديات التي تحدق بالمرحلة، وبالخصوص على مستوى وضع أسس مشتركة ومفتوحة أمام باقي القوى السياسية الديمقراطية والمستقلة لمجابهة التحكم، والتصدي لشبح نسف آمال الشعب المغربي في التحرر من الوصاية السياسية ونسف المسار الديمقراطي.. عنوان اللقاء كان هو إعطاء المعنى للممارسة السياسية، وربط السياسة بالنبل والأخلاق...عنوان اللقاء كان هو الوفاء للمبادئ، والصمود وسط الإعصار ومجابهة أي إمكانية للنكوص الديمقراطي والتراجع عن مكتسبات التجربة الديمقراطية ببلدنا... لكن لنرجع إلى الخلف قليلا لإجراء قراءة فكرية لبعض من آفاق هذا اللقاء المتفرد، على صعيد التجارب السياسية في وطننا العربي، لنقرأ بعضا من آفاقه، ونستوحي جزءا من دلالاته... بين عموم الإسلاميين وعموم اليسار في وطني- كما في باقي صعيد العرب- شك متبادل، أزمة ثقة، سوء تواصل وتقدير، لم يتبدد مع استطالة الزمن. على الرغم من الفرص التي أتاحتها التحديات الخارجية-العدوان على السيادة والأوطان-والداخلية-انتهاك الحريات والحرمات وانكماش المساحة التداول الديمقراطي- للتعاون واللقاء والتشارك ولتنمية فرص التفاهم. تراوح الأزمة وتتباين مفاعيلها عند معدلاتها المألوفة، من دون أن تتفاقم أو تستفحل على نحو مأساوي في بعض الأحيان، وفي بعض الساحات والمواقع، بينما يرتفع معدلها أكثر في أحايين أخرى وساحات أخرى، فتبلغ حدود التكايد والتصادم والصراع. كثيرة هي الأسباب التي تدفع نحو تلك الحال من التوجس المتبادل بين الفريقين، وترفع من معدلات أزمة الثقة بينهما، ويهمنا منها في هذا المعرض سبب نحسبه الأهم والأبرز والأكثر تجليا هو: الموقف من مشاركة الإسلاميين في الحياة السياسية وفي الصراع من أجل بناء الديمقراطية، وما يبدو من تنازع بين الفريقين على هذه المشاركة وعلى شرعيتها وما ينجم عنها من نتائج. يسلم بعض اليسار الديمقراطي المستقل بحق الحركات الإسلامية-وكياناتها السياسية- في المشاركة السياسية: بخوض تجربة في الحياة العامة، وفي تكوين أحزاب سياسية، وفي خوض المنافسات الانتخابية، وفي الوصول إلى السلطة التنفيذية-والاستمرار في قيادتها- من طريق صناديق الاقتراع. غير أن أكثر النخب سواء من عائلة الليبراليين أواليسار لا يُسلم –للإسلاميين جملة- بذلك الحق، لاعتقاده بأن مشاركتهم في الحياة السياسية وفي السلطة تهدد النظام الديمقراطي برمته، بل تهدد النظام السياسي في طبيعته المدنية. يميل قليل من المخالفين والخصوم الإديولوجببن للإسلاميين إلى قول ذلك مناورة واحتيالا، وبمفردات مبهمة ترفع الاشتباه عن موقفهم الديمقراطي وتقيهم تبعة ضبطهم في حال تلبس غير ديمقراطي، فيما لا يتحرج أكثرهم من الإفصاح عن ذلك الموقف الحدي المتوجس جهرة وبغير قليل من العنف اللفظي. إنهم يشكون في إيمان الإسلاميين بالخيار الديمقراطي: نهجاً في السياسة ووسيلة للصراع السياسي، على نحو ما يحاول الأخيرون أن يشيعوه في الرأي العام. هم يعتقدون، في المقابل، أن للإسلاميين جدول أعمال ثانياً غير معلن هو برنامجهم الفعلي، وهو عينه البرنامج الذي على أساسه يعبئون جمهورهم في حياتهم التنظيمية الداخلية، والبرنامج هذا يتلخص في التعامل مع الوسائل الديمقراطية بانتهازية وظرفية بما هي وسائل للوصول إلى السلطة، ثم الانقضاض عليها وعلى الحياة الديمقراطية برمتها بعد تحقيق هدف الوصول إلى السلطة، وتطبيق برنامج يقضي بأسلمة الدولة والمجتمع وتقويض أسس النظام السياسي والاجتماع المدني. أما بعض من الإسلاميين عموما، من جهتهم، فلا يرون في علمانية العلمانيين-وفي طليعته اليسار- ما تعنيه العلمانية في أصولها الغربية من فصل بين مجال السياسي ومجال الديني وحياد للدولة أمام الأديان، وإنما يميلون في حديثهم عنها إلى الإيحاء بأن العلمانية ليست شيئاً آخر غير معاداة الدين. وهنالك طيف آخر بدأ يتخلق ويتشكل من جديد، لنحت تجربة مفارقة فيها التمييز الإيجابي بين الدين والدولة، لا فصل فيه مطلقا بل تمييز وظيفي وتحديد عملي في الممارسة والعلاقة. وهكذا يذهب العلمانيون في نظر كثير من الإسلاميين، إلى استكمال ما بدأته الغزوة الاستعمارية من فك لعرى العلاقة التلازمية بين الدين والدولة في الإسلام المرجعي، ومن فرض لقوانين وتشريعات ومنظومات قيم غير مستمدة من مبادئ الإسلام وقيمه، وإنما منقولة ومستوحاة من مرجعيات أخرى تعبّر عن شخصية مجتمعات أخرى.. ويزيد الإسلاميون على ذلك بالقول إن موقف اليسار السلبي من الإسلاميين هو أساسا موقف للحد من السلطة التوجيهية للإسلام نفسه على تدبير المجال العام، وليس موقفاً منهم كحركة سياسية فحسب حاملة لمشروع اجتماعي وسياسي وثقافي. ويعتقد الإسلاميون، أيضاً، أن مبررات شكوكهم في اليسار لا تقتصر على كون الأخيرين دعاة نموذج اجتماعي وسياسي وحضاري مجافٍ لقيم الإسلام ومستورد من خارج دائرته الحضارية فحسب، وإنما لمحالفتهم نخباً حاكمة مستبدة أو لا تتمتع بالشرعية الدستورية، لمجرد أنها تدعي الحداثة وتعادي الحركات الإسلامية وتجهد لحرمانها من حقّها في المشاركة السياسية وتملك مشروع مجتمعي قابل للنفاذ إلى مفاصل الدولة والمجتمع عبر البوابة الديمقراطية ومن خلال الاختيار الطوعي للناس.. بل إنهم يسارعون للاعتقاد، أن التواطؤ مع تلك النخب التحكمية جاري لمنع الإسلاميين من ممارسة ذلك الحق الطبيعي في المشارة والتدبير والتمثيل، وبما يعطي السياسات الاستئصالية لبعض تلك النخب شرعية سياسية داخلية. أعتقد أن هذه لوحة من سجال استطال حضوره في المشهد السياسي والثقافي العام، وهو جدال عقيم طالما نشهده، منذ عقود، بين قبيلتين سياسيتين وثقافيتين متنابذتين حديتين. عنوانه الحقيقي الصراع على السلطة في السياسة والمجتمع، لكنه الصراع الذي لا يستقيم إلا بمصاحبة ثقافية وإيديولوجية، والذي يحجب عنا إمكانية النظر بعمق وواقعية إلى إمكانية اللقاء في الحد الأدنى المشترك. لندع جانباً الوجهين السياسي والثقافي في هذا الجدل، ولنسجل ملاحظات حول شحنته الإيديولوجية وأغاليط الخطاب فيه انطلاقاً من السؤال التالي: هل تطابق الصورة النمطية التي يكونها كل فريق عن نفسه، وعن الآخر صورته الفعلية دائماً، وعلى نحو عام؟ وهنا وجب أن نسجل ملاحظات التالية: الأولى: أن بعض النخب من اليسار يتحدثون في الموضوع بمنطق من يحاكم النيات، وهذا ليس حديثاً سياسياً، وإنما هو ضرب من التنجيم السياسي، المحاكمة لا تكون إلا للأفعال وواقع الممارسة في الحال، ولم يتوفر شرطها حتى الآن. والثانية: أن بعضهم يقدم دروساً في الديمقراطية للإسلاميين، وإن لم أخطئ، فليس في السيرة السياسية للماركسيين والقوميين واليسار ما يسمح لهم بتقديم مثل تلك الدروس. فهم حديثو عهد بالفكرة الديمقراطية التي لم تتجاوز في وعي أقدمهم إيماناً بها ثلاثة عقود. والثالثة: أن العلمانية ليست معادات الدين إلا في وعي أيديولوجي يتقصد التغليط، واستغلال الشعور الجمعي لتأليب الناس على فئة من المواطنين تؤمن بأن مجال السياسة والدولة مجال زمني يجري تنظيمه بمقتضى التعاقد الدستوري والاتفاق المجتمعي العام، ولا قداسة له أو فيه، لأنه مجال النسبي والمصالح الدنيوية، وبعض من هذا بدأ يلج القناعة الإديلوجية والفكرية لعديد من قادة والموجهين الإسلاميين. والرابعة: أن أخذ اليسار جميعاً بجريرة بعض منهم أيدوا سياسات الاستئصال الأمني والانقلاب على الشرعية الديمقراطية، التي جاءت بالإسلاميين إلى السلطة في عديد من التجارب والدول، هذا التعميم فعل ليس يجوز إتيانه إلا من قبل من يبتغي التغليط وتزييف الوعي الفكري وتحريف بعض الوقائع أو على الأقل جعلها تستغرق كل المساحات، هو لا يلقي الاعتبار لمساحات وتجارب تم فيها اللقاء المشترك على قاعدة الوفاق الوطني في قضايا أساسية، وهو نظر قاصر تماما مثل من يأخذ الإسلاميين جميعاً بجريرة أفعال جماعات العنف المتوحش. لقد وصفنا هذا الجدل بأنه عقيم لأنه لا ينتج إلا الفراغ والمتاهة والدوران في الحلقة المفرغة. ونضيف إلى ذلك وصفه بأنه إيديولوجي لأن أطرافه تمارس فيه لعبة الإظهار والإخفاء الايديولوجية: إظهار محاسن الذات وإخفاء عيوبها، وتجلية عيوب الخصم وإخفاء فضائله. وهي لذلك السبب لا تتناظر موضوعياً، وإنما تتناقر وتخوض في مضاربات كلامية فارغة. أعتقد أن المرحلة التي تمر منها بلدنا، والموسومة بالانتقال الديمقراطي الحقيقي، حيث تتصارع إرادتان وقوتان: إرادة وقوة تؤشر إلى المستقبل وإنجاح الانتقال ونواتها العدالة والتنمية وحلفائه، وقوة نكوصية تعمل على إفشال هذا الانتقال وتبادر لنسفه، قلت إن هذه المرحلة بالذات، وجب أن يكون هدفها الأساسي هو: تأمين الإنتقال الديمقراطي، من خلال تعزيز إمكانية اللقاء المشترك بين الديمقراطيين المستقلين عن مراكز النفوذ السلطوي، مع تعظيم حظوظ البحث عن المشتركات السياسية والبرنامجية والنضالية، والتعاون فيها وتوسيع مساحاتها، مع العمل على تبديد سوء التفاهم الكبير بين فرقاء الوطن الواحد، والتدبير العقلاني المحكم لمواطن النزاع والخلاف الفكري والتحاور بشأنها... إن في العمل الديمقراطي المشترك.. متسع للجميع... هذه بعض من دلالات الفكرية والسياسية للقاء التشاوري الذي جمع بين حزبين عريقين في الساحة السياسية المغربي..حزب يتحدر من المرجعية الماركسية والشيوعية سابقا-التقدم والاشتراكية-، وحزب يتجذر على قاعدة الانتساب لحركة الأحياء المعاصر –العدالة والتنمية-.. وكلاهما ينحاز إلى قضية الانتقال وكافح ويكافح من أجل كسب مستحقاتها، هي تجربة خليقة بالدراسة والتقييم والتقدير والتأصيل ..