فجأة طفا الحديث عن ظاهرة التشرميل على سطح الاحداث وصارت مادة دسمة للإعلام، كأن هؤلاء المشرملين كائنات غريبة نزلت لتوها من الفضاء أو خرجت من كهف عميق، والحال أن عملية التشرميل كانت جارية على قدم وساق منذ زمان بعيد، وما من أحد منا إلا وذاق من هذه التشرميلة ذات يوم عصيب في الازقة والأحياء المظلمة، بل في الشوارع العامة أحيانا. لن أتحدث عن هؤلاء المشرملين الذين تطفح بهم الصفحات الفيسبوكية هذه الأيام ويتناولهم الاعلام بكثير من الغرائبية والعجائبية.. فهم معروفون وجزء كبير من مدننا ينام تحت رحمتهم.. ولا جديد في الامر سوى أنهم نقلوا حياتهم المشرملة بالسيوف والسواطر والاجساد الموشومة وسرقات المواطنين البسطاء، من عالم الواقع الى العالم الافتراضي، وإنه لأمر غريب حقا أن الدوائر الامنية لم تتحرك وتستنفر أجهزتها إلا بعد وصول صورهم الى العالم الافتراضي في حين كان القاصي والداني يتفرج على مشاهد إجرامهم الحية في عالم الواقع.. لن أتحدث عنهم لأنهم يعترفون بجرائمهم ويقرون بذنوبهم ويتحدثون عن أنفسهم بصراحة دون لف ولا دوران... لكن هناك نوع اخر من المشرملين، والمشرملات أيضا ، الذين يخفون جرائمهم وسرقاتهم وشخصياتهم الحقيقية، ولا يظهرونها إلا في الحفلات التنكرية الخاصة جدا. إنهم أولائك الذين يبدون كأشخاص محترمين بلباسهم الانيق وربطات عنقهم الجميلة وعطورهم الباريسية... الذين يبتسموم أمام الكاميرات فقط، ولا يكفون عن الحديث عن النزاهة والشفافية وحقوق الانسان وتخليق الحياة السياسية كلما وجدوا الميكروفون.. الذين يتحدثون عن مستقبل الوطن والمواطنين والاوراش الكبرى والاستثناء المغربي والعبقرية المغربية وأجمل بلد في العالم. الذين يرددون نفس الجمل والعبارات ويتغنون بنفس الشعارات تقريبا رغم اختلاف اتجاهاتهم وإيديولوجياتهم.. هؤلاء هم المشرملون الحقيقيون ليس فقط لأنهم نهبوا المليارات وهربوا الاموال وأفرغوا صناديق الدولة بكاملها واستقروا خارج أرض الوطن، وليس لأنهم ورثوا المناصب لأبنائهم وأصهارهم وضحكوا على المواطنين البسطاء في الحملات الانتخابية ليس بسبب هذه الجرائم الفظيعة فقط، بل لانهم حولوا الوطن إلى قطعة مظلمة يسودها اليأس والبؤس والانانية والفساد والاستبداد حتى صار المجتمع كله مثقلا بهذه الامراض الفتاكة... بل صار البعض يعتقد أن الحلم بالتغيير بدونهم ضرب من الجنون، وهناك من أغرم بهم فأصبح ينظر إليهم على أنهم الوطن. هؤلاء هم المشرملون الحقيقيون، لأنهم أصابوا البلاد والعباد في المقتل حين ألحقوا أضرارا بالغة بصحة شبابه النفسية والعقلية ، فلا عجب إذ صار المغاربة يقبلون على الانتحار ، والتقارير الدولية تصنفنا من أتعس شعوب العالم ، وخير دليل على ذلك تأكيد وزير الصحة السيد الحسين الوردي على أن الصحة النفسية والعقلية للشباب المغربي مخيفة جدا حيث أشار الى أن 48 في المائة من الفئة العمرية 15 سنة فما فوق عانت من حالة الارق والقلق والاكتئاب، و14 في المائة من الفئة العمرية ما بين15و13 حاولت الانتحار... إذن شتان بين ندوب وخدوش قد تندمل مع الوقت، وبين جروح غائرة تعمل عملها الفتاك في النفوس والأحاسيس وشخصية الانسان المغربي الذي ينتظر منه أن ينهض بأعباء الوطن ويقود التغيير المنشود.
في الاخير أود أن أشير الى أنني لا أدافع عن ظاهرة التشرميل وأصحابها، بل ينبغي أن ينالوا العقوبة التي يسحقونها، إنما أردت أن الفت الانتباه الى أن هؤلاء ليسوا سوى رقما صغيرا جدا في معادلة التشرميل التي يتعرض لها الوطن منذ عقود من طرف مالكي وسائل الانتاج والإكراه.