كما كان متوقعا فقد أعلنت حركة المتمردين الفبرايريين عن رفضها للدستور المقترح من طرف صاحب الجلالة و دعت إلى مقاطعة الإستفتاء المرتقب زعما منها أنه دستور ممنوح و غير ديمقراطي و لا يلبي ما يسمونها بمطالب الشعب المغربي للإنعتاق من الإستبداد الذي يتمثل حسب رأيهم في سلطات الملك الواسعة . و رغم علمي بأن أغلبهم لم يكلفوا أنفسهم عناء قراءة الدستور الجديد و دراسة فصوله فإني أود أن أشير إلى قضية مهمة و التي تطرح كما من التساؤلات إن كانت تدل فإنما تدل على الغموض العميق الذي يسود مطالب الحركة، فكيف لحركة تنشد الديمقراطية و تتبجح بكونها تمثل غالبية الشعب أن تدعو إلى المقاطعة و تبخس قيمة أصوات المواطنين ؟ أليس هذا بتناقض ديمقراطي صارخ؟أليست المقاطعة هي خيار من يهاب صناديق الإقتراع؟ و لماذا لا يصوتون بلا خاصة و أن المغاربة في هذا المنعطف التاريخي مخيرون بين التصويت بنعم للإصلاح يدا بيد الملك في إطار إمارة مؤمنين برلمانية أو التصويت بلا؟ و من يدري فقد تحصد "لا" الأغلبية و حينها ستكسب الحركة الثائرة شرعيتها مما يوجب على الطرف المعارض لها و بكل روح رياضية ديمقراطية الإنصياع لمطالبها في هيئة تأسيسية منتخبة لصياغة دستور جديد. أعود لمسألة الدستور الممنوح ، فبمراجعة لغوية سريعة لمعنى هذا المصطلح نجد أن الدستور الممنوح هو دستور يستفرد الحاكم بصياغته و فرضه على الشعب بدون أخذ رأيهم فيه، بينما دستورنا فهو دستور تشاوري ديمقراطي مغربي 100% ، صاغته لجنة من فقهاء الدستور و القانون مشهود لهم بالكفائة و النزاهة بعد تشاورهم مع كل الفعاليات و القوى الحية من أحزاب و نقابات و جمعيات ، ثم قدم للشعب الذي يملك و لوحده حق تقريره أو رفضه، فأين الدستور الممنوح من كل هذا؟ أما عن الدستور فهو في حد ذاته ليس بغاية و إنما وسيلة لتأسيس ديمقراطية حقيقية مع فصل السلطات ، و بقرائة متأنية لما أتي به الدستور الجديد نجد أن سلطات الملك (التي تزعجهم) تكمن في المجالات الدينية و العسكرية و الأمنية أما باقي المؤسسات فهو يرأسها شرفيا و يفوض لرؤسائها كامل الصلاحيات و يحتفظ بحق استعادتها في حالات استثنائية باعتباره الحكم الأسمى لهذه المؤسسات و هذا احتياط دستوري موجود في كل دساتير العالم الديمقراطية. أما عن ديمقراطية الشوارع التي تنهجها حركة 20 فبراير لتطهير ما تسميه الاستبداد و الفساد "زنكة... زنكة" فهي مخالفة لكل مبادئ الديمقراطية المنشودة و لا تسمن و لا تغني من جوع، بل لها آثار سلبية من تهديد لأمن المواطنين و احتمال حصول مناوشات بين "الثوار" و بين كل من ضاق ذرعا بمظاهراتهم و بتجرؤهم على مقدسات و ثوابث الأمة المغربية ، و الحل الأمثل لكي ينقشع الغبار هو صناديق الإقتراع التي سترينا الحجم الحقيقي للمبايعين و للمتمردين. و صفوة القول فإن كل إصلاح لا يمكن أن يتحقق "في دَقَّةٍ وَاحِدَةٍ" (كما قالتها وزيرتنا الضاحكة) بل يستلزم منا الصبر و العمل و التدرج ،كما أن التدرج سنة الاهية يمكن تدبرها من خلال القرآن الكريم في آيات عديدة كآيات خلق السماوات و الأرض في ستة أيام و أيضا في السيرة النبوية، و ما يحتاجه المغرب في هذه المرحلة هو نخبة وطنية من مسؤولين و مثقفين و سياسيين مترفعين عن المصالح الشخصية و الفئوية و الحزبية و تبذل كل ما في وسعها لتحقيق المطالب المشروعة للمغاربة و توعيتهم و شعب واع بحقوقه و واجباته ، و أي تغيير لنصوص قانونية أو وجوه لا يمكن له أن يؤتي أكله إذا لم يبتدئ المرء بنفسه ثم أسرته ثم حيه و هكذا بهذا التسلسل يسهل تأسيس مجتمع ديمقراطي و عادل، و القرآن الكريم يؤكد لنا هذا من خلال هذه الآيات التي لن أجد أحسن منها لأختم كلامي بها : ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿الأنفال: 53﴾ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ﴿الرعد: 11﴾ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَٰكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴿الروم: 9﴾ صدق الله العظيم