في بعض الأحيان تأتي علي حالات من الحيرة والهذيان وذلك عندما أشاهد على شاشة قنواتنا المباركة زخما هائلا من الأخبار عن المنجزات التي أنجزت أو المزمع إنجازها وقد يتسم بعضها بالمهم أو الضخم والأضخم أو المعلمة الكبرى وهذا حسب الشخص القائم على هذا الإنجاز أو ذاك وكذلك حسب معد الخبر أو قارئ التعليق، فينشرح صدري فرحا وينطلق لساني مدحا وخصوصا عندما يتعلق الأمر بالقرى والبوادي وأهالي الجبال ولعل أول ما يتبادر إلى الذهن هو هذا السؤال التقليدي والبديهي على ما يزعمه إعلامنا التلفزي، هل ما يقال على هذه القنوات حقيقة أم خيال ؟ أم هو ضرب من شعبوية الدولة ؟ أو هو بلغة المزاح ذر العيون بالرماد لكيلا نحسد أو ما ضربناش العين على ما نحن فيه من الرفاهية والإزدهار في جميع المجالات وبدون أي استثناء من الإستثناءات المغربية المعهودة ولكن الذي رآى ليس كالذي سمع والذي يعاني من ويلات الرفاهية والإزدهار ليس كالذي عاين، والمصيبة الأدهى والأمر عندما يصاحب الخبر صور ولقطات من هنا وهناك تؤكد ما تقدم، وكذلك شهادات من الأهالي من عين المكان كشهود عيان أو مستفيدين من الإنجاز وهنا تزداد حيرتي ويعظم في الهذيان والهوس فمثل هذا الكلام لم يعد ينطلي إلا من كان في حالة شرود. فبحكم عملي الذي أكثر فيه السفر والترحال بين المدن والأقاليم والقرى والمداشر فقد اكتسبت تجربة لا بأس بها في أمور كثيرة، وتمييز الواقع بين الحقيقة والخيال ومنها معرفة مختلف البيئات المجتمعية والمعاشية والمناخية. وهذه المؤثرات لها بالغ الاثر في تكوين الشخصية والنفسية للمجتمع المغربي ولعل اهم مكتسب تحقق لدي هو معرفة مختلف التمايزات الطبقية والحيف الإجتماعي، وكذلك الإستفادة من تجارب الآخرين إن من خلال المعايشة أو من خلال الإستماع لأحادثهم وقصصهم، وكذلك اعتبارا لآراءهم ولأفكارهم وإن كان أغلب الناس أميين إن لم أقل كلهم فالذين درسوا غادروا قراهم وأهاليهم ولا يعودون في المناسبات إلا لماما ، وقد كانت لي ملاحظات كثيرة وذلك في معرض حديثي معهم من قبيل مشاكل الطرق والتنقل والمدارس وعوائق التمدرس والصحة وغياب المستوصفات وهلم جرا . وأحيانا كثيرة يكون سؤالي اعتباطيا فالحال يغني عن السؤال والمقال ألم وحسرة ومكابدة مرة وقد أسمع من الكلام القبيح والنابي في حق الدولة ما يعجز قلمي عن كتابته أو حتى الإشارة إليه، ولكن الحقيقة أقبح من القبيح والواقع أنبى من النابي فالمعيشة صعبة للغاية في حق هؤلاء الناس ومستحيلة في حق أناس مثلي ومثلك أيها القارئ الكريم الذي يعيش بين أحضان المدينة وخصوصا إذا كانت من المدن الكبرى، فأدنى المقومات للعيش الكريم اقتصاديا ثقافيا واجتماعيا تنعدم انعداما تاما بغض النظر عن أدنى فرصة للعمل إللهم بعض العاملين في الفلاحة والزراعة على قلتها وهزالة مردودها المادي، وكذا غياب المرافق المجتمعية والثقافية والتربوية وقد تجد بعض المقرات الحزبية والتي لا تشتغل إلا في المناسبات كالإنتخابات أو بعض البنايات التي كتب عليها مستوصف أو ما شابه وهي خاوية على عروشها إلا من بقايا الخبائث والقذارات، وكلما تعمقت سيرا في قرى البلاد وسبرا لنفوس العباد تحققت لدي البشارات وتعددت لدي العلامات، اكسبتني تجربة ومعرفة لا أظنها قد تنفع أهالي المغرب المنسي إلا ربما من خلال هذه الاسطر المتواضعة جدا، أقول ربما لأن مثل هذه الحقيقة معروفة لدى الخاص والعام وقد كتب وسمع عنها من قبل مرارا، لكن سرعان ما تنسى وتنسى معها المعاناة وينسى معها شعب بأكمله لا لشئ أو سبب سوى أنه فضل العيش كريما عزيزا في أرضه ووطنه بين أهله وخلانه، رغم قلة الزاد وضعف الحيلة وقصر اليد، فضل ألا يستجدي رحمة وعطف أحد أو يطرق على الأبواب وألا يقف على عتبة من الأعتاب، نسيه منتخبوه وبرلمانيوه ووزراءه وحكامه بعدما انتزعوا منه الشرعية واغتصبوا فيه انسانيته ومروءته، وأكلوا زرعه وضرعه ولم يتركوا له حتى الفتاة واللتات ولا يذكرونه إلا عندما يركبون على شعبويته ورعويته ليحصدوا سنبلاته الخضر وبقراته السمان، وتركوا له سنواته العجاف ووطنيته اليابسة، نسوه فنسيهم هو الآخر ونسي انتماءه واحتماءه بهم واستقال من ولاءهم إلا من مغربته ووطنيته التي لا يملك منها الاسم والحلم لعله ينقذ ما تبقى منها مستقبلا مع من يستحقون ولاءه وحبه وحضنه.