قبيل أن تلملم الشمس خيوطها الذهبية وتطلق المساجد العنان لآذان المغرب ، شاهدت معطلي محضر 20 يوليوز قبل أيام قليلة خلت وهم يسيرون في مسيرة احتجاجية سلمية في أحد شوارع الرباط الرئيسية ، شاهدتهم في ذلك اليوم يصدحون بشعارات قوية وهتافات مذوية في الوقت الذي كانت أكفهم تلتهب من شدة التصفيق. كانت حناجرهم من صيامهم وتعبهم وهتافاتهم تكاد تبح مساء ذلك اليوم الرمضاني القائظ الذي كانوا يتابعون فيه وبخطى واثقة مسيرتهم الإحتجاجية المطالبة بإحقاق حقهم في التشغيل في الوقت التي تمترست قوات الأمن قبالتهم على بعد أمتار معدودة في محاولة منها لقطع الطريق عليهم . وما هي إلا لحظات حتى شاهدت قوات الأمن وقد تلقت فيما يبدو الإذن لفضهم تطلق سيقانها للريح مطاردة أولائك المحتجين الذين عادوا بعد ذلك أدراجهم راكضين وقت توزعوا مثنى وثلاث وجماعات خشية أن تصيب العصي رؤوسهم و أبدانهم .شاهدتهم يركضون بصدرياتهم الملونة إناثا وذكورا وهم في كامل لياقتهم البدنية وكأنهم في حصص تدريبية تحت إيقاع الصفارات والصراخ والكر والفر في اتجاه شارع محمد الخامس وبعض الشوارع المتفرعة عنه . كذلك استمرت تلك الأجواء لدقائق حتى تنامى إلى أسماعهم صوت آذان المغرب. لحظتها شاهدت معطلي المحضر وقد توقفوا عند أحد الشوارع الذي كان خاليا إلا منهم ومن مجموعة من قوات الأمن التي كانت تقف على بعد أمتار معدودة منهم للحيلولة دون متابعة مسيرتهم . كان المحتجون المحضريون يرددون في ذلك الوقت الذي صادف آذان المغرب هتافات تقول " صايمين وما مفاكينش" في إشارة منهم إلى أن الصيام لن يحول دون تنظيم مسيراتهم الإحتجاجية السلمية المطالبة بتنفيذ محضرهم . كانوا وقتئذ يرددون في حماس هتافاتهم حيث كان بعضهم يحمل في يده وجبة إفطاره بينما كان البعض الآخر يحمل حبات من التمر أو قنينة ماء بلاستيكية . وما هي إلا لحظات حتى تم إشعارهم بدنو موعد الشوط الثاني من عملية الكر والفر، وإذا بصفارة تعلن انطلاقة تعقب ومطاردة قوات الأمن لهم . فكان الركض وكان الصراخ. ثم إن المحضريين توقفوا بعد ذلك للحظات ليسترجعوا أنفاسهم وليقتنصوا فرصة الإفطار على تمرة أو شربة ماء أو قطعة خبز وعيونهم المتقدة حماسا ترنو نحو قوات الأمن التي كانت ترصد تحركاتهم .توقفوا وبدأوا في مشهد عنوانه الإيخاء والتضامن والأريحية يتقاسمون مع بعضهم البعض ما تيسر لهم من وجبات الإفطار البسيطة ، بينما افترشت مجموعة منهم الرصيف و قد تحلقت حول وجبة إفطار بالرغم من بساطتها فقد سدت قسطا من جوعها وروت نصيبا من عطشها . كان مشهدا رائعا تناسل في ذهني عند مشاهدته زخم من التساؤلات والعبر التي اهتديت من خلالها إلى أن هؤلاء المعطلين أصحاب محضر 20 يوليوز الذين ينحدرون من مختلف جهات المملكة ، لو لم يكونوا مؤمنين بعدالة قضيتهم وبأنهم ظلموا لما شدوا الرحال إلى العاصمة في رمضان ولما تجشموا عناء كل هذه المشاق و هذا النصب وهم صائمون متعبون مرهقون . اهتديت إلى أن هؤلاء المعطلين المحضريين لولا إيمانهم اليقيني بعدالة قضيتهم لما حرموا أنفسهم من تناول وجبة الإفطار مع أهليهم وذويهم وتناولوها في المقابل على قارعة الشارع تحت إيقاع مطاردة قوات الأمن لهم. نعم شاهدتهم يفترشون الأرصفة وقد جلسوا جنبا إلى جنب يناول بعضهم البعض في جو عائلي قطعا من الخبز والحليب والبيض المسلوق والتمر وأشياء أخرى...والحقيقة أن تلك المشاهدة قد أثرت في نفسي لكنها قادتني إلى الإعتقاد الجازم بأن السنوات الثلاث التي صرفها المعطلون المحضريون في شوارع الرباط تحت إيقاع المعاناة لا يمكن أن تذهب سدى وستتوج في النهاية لا ريب بإنصافهم ورفع الحيف عنهم.