حل اليوم العالمي للمرأة وقد غدا موضوع تعديل مدونة الأسرة ومراجعة نظام الإرث مطلبا اجتماعيا وحقوقيا، خصوصا بعد دعوة جلالة الملك إلى مراجعة شاملة لبنود المدونة قصد ملاءمتها مع الدستور " الذي يكرس المساواة بين المرأة والرجل، في الحقوق والواجبات، وينص على مبدأ المناصفة، كهدف تسعى الدولة إلى تحقيقه"(خطاب العرش 2022). لقد عانت النساء من الظلم الاجتماعي، عقودا من الزمن، بسبب تطبيق تأويلات معينة للنصوص الدينية أملتها ظروف اجتماعية أفرزها سياق تاريخي واجتماعي لم يعد قائما. وما دام "القرآن يفسره زمانه" كما قال علي بن أبي طالب، فإن وضعية النساء اليوم في مجتمعنا تستدعي تحديث فهمنا للنصوص الدينية بما يساير حركية المجتمع ويستوعب الأدوار الجديدة التي باتت تتولاها النساء، سواء داخل الأسرة والمجتمع أو في مؤسسات الدولة وقطاعاتها المنتجة. فلم تعد النساء يعشن عالة على الذكور (الآباء والأخوة)، بل صرن مساهمات في نفقات الأسر وكذا الثروة الوطنية حيث وصلت نسبة المساهمة 21 في المائة. وحسب المندوبية السامية للتخطيط، فإن نسبة مساهمة العمل المنزلي في الناتج الداخلي الخام تصل إلى 34، 5٪، وأنّ نسبة النساء في العمل المنزلي عالية جدّاً إذ تصل إلى 92٪ (البحث الوطني حول استعمال الوقت، منشورات المندوبيّة السامية للتخطيط، الرباط، 2014). واستنادا إلى الإحصائيات التي تقدمها المندوبية السامية للتخطيط، نجد أن من بين 8.6 ملايين أسرة، 1.5 مليون أسرة ترأسها نساء، وهو ما يمثل 16.9 بالمائة. هذا فضلا عن الأسر التي تتقاسم فيها النساء مسؤولية الإنفاق وتدريس الأبناء واقتناء المسكن. في ظل هذه التغيرات المجتمعية، بات من الضروري تغيير القوانين بما فيها قانون الإرث حتى يصير عادلا ويحقق مقصد الشريعة منه. وهذا ما شدد عليه الخطاب الملكي بمناسبة عيد العرش (2022)، كالتالي (فالأمر هنا، لا يتعلق بمنح المرأة امتيازات مجانية؛ وإنما بإعطائها حقوقها القانونية والشرعية. وفي مغرب اليوم، لا يمكن أن تحرم المرأة من حقوقها. وهنا، ندعو لتفعيل المؤسسات الدستورية، المعنية بحقوق الأسرة والمرأة، وتحيين الآليات والتشريعات الوطنية، للنهوض بوضعيتها". ذلك أن النساء، بخروجهن إلى العمل ومساهمتهن في اقتصاد الأسرة، غيّرن كثيرا من المفاهيم، ومنها: الولاية والقوامة. إذ صارت المرأة معيلة لأفراد أسرتها بمن فيهم الذكور، سواء كانوا الآباء أو الأزواج أو الأولاد أو الأخوة. الأمر الذي يفرض تجديد الفكر الديني ليواكب حركية المجتمع والتحولات التي تطرأ عليه. المساواة في الإرث مكسب مجتمعي. خلافا لما يروّج له مناهضو التغيير، فإن المجتمع المغربي، ليس فقط منفتحا على مطلب تغيير قانون الإرث ومتفهما لطبيعة الظلم الاجتماعي الذي تعاني منه الإناث، ولكن أيضا مستوعب لممارسته ومتقبل لها. ففي دراسة ميدانية أجريت سنة 2022 وعرضت نتائجها في ندوة بجامعة محمد الخامس، أشارت إلى أن نسبة المؤيدين لتغيير المقتضيات القانونية التمييزية تجاه النساء في الإرث تمثل 36 في المائة من العينة المستجوبة، فيما يرفضه 44 في المائة بينما 20 في المائة لم يعبروا عن رأيهم. ونسبة 36 % ليست باليسيرة حتى يمكن تجاهلها. أما فيما يتعلق باستيعاب المجتمع لمبدأ المساواة في الإرث وتطبيقه، فإن خير مثال يعطى ردا على الذين يعتبرون مطلب المساواة في الإرث "غريبا على المجتمع"، هو الأراضي السلالية التي تبلغ مساحتها 15 مليون هكتار، ويستفيد منها 10 ملايين نسمة. ويمثل أفراد الجماعات السلالية ما يزيد عن ربع الشعب المغربي؛ وهي نسبة جد هامة يتجاهلها مناهضو المساواة في الإرث. وكون ربع الشعب المغربي يطبق مبدأ المساواة في الإرث بالأراضي السلالية دون الاحتجاج أو الرفض أو توظيف الدين لتكريس ظلم الإناث، إنما يدل على قابلية المجتمع المغربي لمراجعة منظومة الإرث وإلغاء كل ما يشرعن الظلم والجور في حق الإناث. ويجدر التذكير هنا بلجوء كل الأسر التي لم ترزق ذكورا إلى البيع الصوري لفائدة البنات ضمانا لحقهن في كل تركة الأبوين وحماية لهن من ظلم التعصيب وجور العصبة، دون أن يقف العامل الديني/الشرعي في وجه تلك الأسر ويمنعها من التحايل على أحكام الإرث ونصوصه. ولا يُستثنى من اللجوء إلى هذا التحايل أولئك الذين يناهضون مخالفة الأحكام الشرعية في الإرث. فالمجتمع تحكمه مصالحه ونظامه الداخلي الذي صار يتجاوز كل ما يتعارض مع مصالحه حتى وإن كان حكما شرعيا. المساواة في الإرث مطلب مؤسساتي وحقوقي. إن مطلب المساواة في الإرث لم ترفعه النساء السلاليات فقط لوضع حد لما يتعرضن له من تمييز وظلم اجتماعي، وإنما صار مطلبا ملحا من طرف مؤسسات دستورية تضم في عضويتها خيرة بنات وأبناء الشعب المغربي من كل فئاته. ويأتي في مقدمة تلك المؤسسات: المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي الذي لا يفتأ يوصي بتطبيق مبدأ المساواة في الإرث بين الذكور والإناث انسجاما مع الدستور في فصله 19 الذي ينص على (يتمتع الرجل والمرأة، على قدم المساواة، بالحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، الواردة في هذا الباب من الدستور، وفي مقتضياته الأخرى، وكذا في الاتفاقيات والمواثيق الدولية، كما صادق عليها المغرب). نفس التوصية تقدم بها المجلس الوطني لحقوق الإنسان في أكثر من مناسبة. إذ قالت رئيسته السيدة أمينة بوعياش، إن "نظام الإرث المعمول به حاليا يحمل تمييزا للرجال ويؤنث الفقر" مشددة على "ضرورة إقرار مبدأ المناصفة في نظام الإرث بالمغرب" وتجاوز "صور التمييز" به ومنها "نظام التعصيب والوصية وقاعدة للذكر مثل حظ الأنثيين". و"هذا التمييز يمنع بشكل كبير المرأة من الولوج الأراضي والثروات، ويعرضها للفقر والهشاشة في أحيان كثيرة". لهذا لا سبيل للقضاء على التمييز القائم على النوع إلا بتغيير تشريعاتنا الوطنية ومواءمتها مع الدستور والمواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب. بالإضافة إلى هذه المؤسسات الدستورية، تواصل الهيئات النسائية والحقوقية، وهي جزء لا يتجزأ من المجتمع المغربي، رفع مطلب المساواة والمناصفة في الإرث وإلغاء كل أشكال التمييز ضد النساء. لا يمكن، إذن، التصدي لهذه المطالب النسائية والتوصيات المؤسساتية بمبرر أن المجتمع المغربي غير مستعد لتقبلها. فالشعب المغربي، بالإضافة إلى أن ربعه (4/1) يطبق حق الانتفاع من الأراضي السلالية وفق مبدأ المساواة بين الذكور والإناث، فإن الغالبية الساحقة من أفراده البالغين سن الرشد القانونية صوتت "بنعم" على الدستور وهي تعلم أنه يتبنى منظومة حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها كونيا، وأنه يجعل المواثيق الدولية التي صادق عليها المغرب تسمو على التشريعات الوطنية. نظام الإرث من الأحكام وليس من العبادات. لقد تعامل المسلمون مع نظام الإرث كأحكام قابلة للاجتهاد والتعديل والتعطيل. لهذا أضافوا إلى لائحة الورثة درجات من القرابة لم يرد فيها نص قرآني أو حديثي كما هو الحال بالنسبة للجد والجدة، فأحلوهما محل الأب والأم في حالة عدم وجودهما. وكذلك الشأن فيما يخص اعتماد الوصية الواجبة لفائدة الأبناء الذين توفي أبوهم قبل جدهم، ثم توسيعها لتشمل أبناء البنت بعد أن كانوا محرومين من الإرث. بينما لا يستطيع المسلمون تغيير العبادات وصفاتها مثل الصلاة والصيام والزكاة والحج. ومادام الإرث من الأحكام، فإنه من المفروض أن تجري عليه القاعدة الفقهية "الحكم يدور مع علته وجودا وعدما". فعلة إعطاء البنت نصف نصيب الولد انعدمت لما صارت البنت تنفق على الوالدين والأخوة ولم يعودوا هم ينفقون عليها. فمن حق كل فرد في الأسرة أن يأخذ نظير إسهامه في تكوين ثروتها. وهذا ما سبق وأفتى به فقهاء سوس في القرن السادس عشر الميلادي فيما يسمى "حق الكد والسعاية" الذي يسري على كل أفراد الأسرة وليس فقط الزوجة في حالة الطلاق أو الترمّل. إن مقصد الشريعة من الإرث هو العدل. والعدل مفهوم اجتماعي يتغير بتغير المجتمعات والعصور. فما كان عدلا في مرحلة تاريخية معينة يمكن أن يصير ظلما وجورا في مرحلة متقدمة.