أولا:الحصار العازل ومسلك الظالم في مقاومة دعوة العادل يقول ابن إسحق :"فلما رأت قريش أن أصحاب رسول الله قد نزلوا بلدا – أي الحبشة-أصابوا به أمنا وقرارا ،وأن النجاشي قد منع من لجأ إليه منهم ، وأن عمر قد أسلم فكان هو وحمزة بن عبد المطلب مع رسول الله وأصحابه ،وجعل الإسلام يفشو في القبائل ،اجتمعوا وائتمروا أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بني هاشم وبني المطلب على أن لا ينكحوا إليهم،ولا ينكحوهم ، ولا يبيعوهم شيئا،ولا يبتاعوا منهم،فلما اجتمعوا لذالك كتبوا في صحيفة ،ثم تعاهدوا وتواثقوا على ذلك ،ثم علقوا الصحيفة في جوف الكعبة توكيدا على أنفسهم"1 . إن اللجوء إلى الحصار بهذا الشكل الشامل والمتحامل لهو عبارة عن مظاهر الانهزام والخوف من الآخر ،خوف معنوي وعقدي بالدرجة الأولى ،وخوف على المصالح ثانية ،إذ المعنى لا حدود له ولا سد،لأنه مثل الماء أو الهواء يتسرب سريعا ويخترق المنافذ بقوة نفاذه كلما وجد وليجة ولو على قدر ذرة وأنملة ،ولهذا فقد يقال: إن للعلم طغيانا مثل طغيان الماء، حيث التيار الجارف والداهم لكل المراصد والمواقف. وهنا تتجلى غباوة وبلادة قريش في اللجوء إلى هذا الإجراء والأسلوب من المحاربة والمعاداة للنبي s ودعوته وأصحابه ،وذلك حينما طغى على مخهم هذا التصور المادي للصراع العقدي الذي يختلف كليا عن باقي الصراعات والمنافسات الإنسانية والاجتماعية،فكان حينئذ لديهم الإسقاط ثم السقوط، فجاءت النتائج على العكس تماما مما كانوا يتوقعونه أو يصبون للوصول إليه،لأن الحصار كان قد بني على مظلمة منع حق الآخر في اختيار العقيدة الصحيحة بمقاومتها بالفاسدة ،وهذا سيؤدي حتما إلى صمود الحق وأهله بالثبات في مواجهة الباطل ومكوث الماء الزلال في دحر الزبد الزائل..." فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ "2. وحينما شعرت قريش ومن معها بعقمهم وسقمهم العقدي والمعنوي المدقع لجئوا إلى إسقاطه على التوهم المادي وتوظيف زيف الدنانير في محاربة ومعاكسة اللآلئ والجواهر ،جواهر الإيمان وصفاء القلوب ذات الروابط المتينة ،وذلك بالعمل على رفع أثمان السوق لإخضاع المؤمنين وتركيعهم بذريعة الحاجة والضرورة حتى يتخلوا عن عقائدهم ومبادئهم الراسخة التي لا تهزها الزلازل وتذؤبات الرياح،بل الجبال هي التي تخشع لها وتتصدع لما في قلوبهم من تجليات إلهية وأسماء حسنى قد تحققوا بها وتحلوا تخلقا وتذوقا. فكان من بين نتائج هذا الحصار الظالم على سبيل الإيجاز لا التفصيل كما يقول الدكتو ر محمد علي الصلابي: "أ- كانت حادثة المقاطعة الاقتصادية والاجتماعية سببا في خدمة الدعوة والدعاية لها بين قبائل العرب ،فقد ذاع في كل القبائل العربية من خلال موسم الحج ولفت أنظار جميع الجزيرة العربية إلى هذه الدعوة التي يتحمل صاحبها وأصحابه الجوع والعطش والعزلة لكل هذا الوقت ،وأثار ذلك في نفوسهم أن هذه الدعوة حق ولولا ذلك لما تحمل صاحب الرسالة وأصحابه كل هذا الأذى والعذاب. ب - أثار هذا الحصار سخط العرب على كفار مكة ،لقسوتهم على بني هاشم وبني المطلب ، كما أثار عطفهم على النبي s،وحتى ذاع أمر هذه الدعوة وتردد صداها في كل بلاد العرب ،وحتى ارتد سلاح الحصار الاقتصادي على أصحابه،وكان عاملا قويا من عوامل انتشار الدعوة الإسلامية عكس ما أراد زعماء الشرك تماما". ثم يضيف كاستنتاج أخير وعبرة للأمة: "على كل شعب في أي وقت ،يسعى لتطبيق شرع الله عز وجل أن يضع في حسبانه احتمالات الحصار والمقاطعة من أهل الباطل،فالكفر ملة واحدة ،فعلى قادة الأمة الإسلامية تهيئة أنفسهم وأتباعهم لمثل هذه الظروف وعليهم وضع الحلول المناسبة كي تتمكن الأمة من الصمود في وجه أي نوع من أنواع الحصار"3.
ثانيا: الحصار العازل والمراهنة على الثبات والحل العادل
لا أريد أن أدخل في تفاصيل هذا الحصار وحساباته الزمنية والمكانية وخسائره الصحية والنفسية وكذا المالية والنقدية ،إذ النتائج معروفة ومألوفة في مثل هذه الحالة ،فهذا تمثل إنساني نابع من حس مشترك وطبيعة بشرية عادية ،وذلك لاعتماده على مظهري السلم والحرب والعدل والظلم وصراع الظالم والمظلوم والحق والباطل . ولا نجد أدق وأجمل مما تم تلخيصه في كتب السيرة المعتمدة وعلى هذه الصيغة التالية : "فجهد النبي s جهدا شديدا في هذه الأعوام الثلاثة واشتد عليهم البلاء،وفي الصحيح ،أنهم جهدوا حتى كانوا يأكلون الخبط وورق الشجر ،وذكر السهيلي أنهم كانوا إذا قدمت العير مكة ،يأتي أحد أصحاب رسول اللهsإلى السوق ليشتري شيئا من الطعام يقتاته لأهله فيقوم أبو لهب فيقول :يا معشر التجار غالوا على أصحاب محمد حتى لا يدركوا شيئا معكم ،فيزيدون عليهم في السلعة قيمتها أضعافا ،حتى يرجع إلى أطفاله وهم يتضاغون من الجوع وليس في يده شيء يعيلهم به"4. فما أشبه الأمس باليوم ،وقُتل الإنسان ما أكفره وألأمه !كفر بالنعمة وكفر بالدين وكفر بالإنسانية وحسها المشترك ،وذلك حينما تقوم دول بحصار أخرى والمزايدة والمناقصة على أثمان السوق و اللعب بالإنتاج أو احتكاره لأسباب سياسية، وتحت طائل العقوبات الاقتصادية ومنع التموين عن شعوب بأكملها والتسبب في نقص التغذية وسوئها مع سبق الإصرار والترصد ،ووضعها في سجن جماعي وأسر من أجل الموت حصرا كما كان يصطلح عليه قديما! إنها لجاهلية مسترسلة ومكررة ما زالت تتوهم أن العنصر المادي كفيل بأن يهدم العقيدة والمبادئ عن طريق الإذلال والإفقار والإرهاب ،ولكن هيهات هيهات! وخاصة لدى أصحاب الحق المبين وذوي العزائم من الرجال وشوامخ الأمم. فلقد كان بإمكان رسول الله s أن يغادر مكة ويهاجر إلى الحبشة حيث الرخاء السخاء والأمن والعافية والتكريم والتسليم ،والحماية والعناية،ولكن هيهات هيهات !إنه لَلأمين سيد الأمناء ،أمين على المبادئ وعلى الثوابت والروابط ،وأمين على القومية العربية والعشيرة بالجزيرة حيث لا يبغي بها بديلا ولا يطلب من غيرها نصيرا إلا من باب التنفيس المؤقت كما أمر به أصحابه لا نفسه بالذهاب إلى الحبشة ثم العودة إلى الوطن الأم،وأمين على الأرواح قبل الأجساد ،ثم أمين على سيادة النموذج بضرب المثال في التضحية والقدوة الحسنة. هذه القدوة سيكون الحال فيها مشتركا بين المسلم والكافر في معترك وخندق واحد حينما تصبح المبادئ والروابط الإنسانية المجردة مهددة بالتدمير والإفناء ،إذ العصبية والمصالح الاجتماعية والاقتصادية والسياسية مسألة غريزية ومتداولة بين البشر ،أرادوا أم لم يريدوا ،نسقوا أم تسابقوا ،تواعدوا أم تباعدوا... وهنا يكمن سر التدافع البشري في وجود التحالفات التي تقوم بين الأمم حينما تطغى أخرى قوية على ضعيفة كما هو الشأن بحرب الفجور ومواجهتها بحلف الفضول،سبق وبينا خصائص هذا في مرقى : نور الأمين ومقدمات إسعاد العالمين. إن عناد الكفار واستمراءهم للحصار ومضيهم قدما في التعنت لم يكن ليردعهم عنه رادع ،نفسيا كان أو اجتماعيا وقوميا، وهذا ما قد يمثل مظهرا جليا من مظاهر السادية المريضة والمتجلية في سلوك الإنسان حينما يفقد حسه المشترك ويتحول الألم شذوذا لديه إلى لذة سوداء كالحة ،استلذاذ بعذاب الآخر من جنسه وعشيرته وعرقه ودمه ،بينما في الحقيقة يكون صاحب هذا السلوك لا يعذب إلا نفسه لأنه محجوب عن الحق والحق ليس بمحجوب عن أحد "إذ لو حجبه شيء لكان له ساتر وكل ساتر لشيء فهو له قاهر وهو القاهر فوق عباده"بتعبير حكمة ابن عطاء الله السكندري. وحيث إن الأمر هنا قد وصل إلى باب مسدود إطباقا وحصل الاضطرار الكلي لدى الطرف الآخر المحاصر فإن الله تعالى وهو الحق العدل الذي يجيب ،قطعا، المضطر إذا دعاه سيكون تدخله المباشر بالمعجزة لا غير، إذ المعجزة هنا قد تكون فعاليتها حاسمة حينما تتوقف آلة التفكير عن العمل والقلوب عن ضخ الماء في شريان الحياة والشعور ،وبعدما تطمس أدوات المعرفة والتبصر لدى الإنسان بأهواء النفوس وأمراضها السرطانية الشيطانية التي تفقدها كل شعور بإنسانيتها فيحدث الختم والطبع ويسود الصم البكم العمي. هذه المعجزة قد جاءت على شكل تقديس للاسم الحق الضامن لكل المواثيق والعهود ، والذي به قامت السموات والأرض وخضعت له وأطاعت ،إنه الاسم الذي يتم به التصريف والتكليف وبه تشتد وتنحل العقد .
فلقد كان "باسمك اللهم" الإخضاع التام لمشركي قريش بالرغم من شدة المعارضة لديهم لدين الله تعالى ووحيه ولرسولهs،إلا أنهم قد خضعوا هذه المرة ولنفس هذا الوحي الذي كانوا يعارضونه عند اللحظة الأخيرة ويؤذون رسوله الكريم بالقول والفعل .