خلافا لتوقعات الكثير من المراقبين وغيرهم من المواطنين، الذين كانوا يعتقدون واهمين بأن الخطاب الملكي المزمع توجيهه إلى الى الشعب المغربي مساء يوم السبت 31 يوليوز 2021 بمناسبة عيد العرش المجيد الذي يصادف الذكرى الثانية والعشرين لتربع الملك محمد السادس على عرش والده المنعم رحمه الله، سيأتي في الغالب شديدة اللهجة بخصوص حكام القصر المرادية وفي مستوى الهجمة الإعلامية الشرسة التي ما انفكت تتعرض لها بلادنا ومؤسساتها بما فيها المؤسسة الملكية ذاتها. فإن قائدنا المفدى وبعد أن أشاد بوحدة الأمة وروابط البيعة المقدسة، والتلاحم القوي الذي يجمع بين ملوك وسلاطين المغرب بأبناء شعبهم في كل الظروف والأحوال. وخيب ظن وآمال أولئك المغرضين والمتشائمين من العلاقات الجزائرية المغربية في البلدين الشقيقين وخارجهما، وبعد أن أبدى كبير اهتمام بالظروف العصيبة التي تمر منها بلادنا وجميع بلدان العالم جراء تفشي جائحة "كوفيد -19"، وما خلفته من تداعيات اجتماعية واقتصادية قاسية، منبها إلى أن بلادنا مازالت بأشد الحاجة إلى توخي الحيطة والحذر والمزيد من اليقظة في أفق تجاوز الأزمة الصحية الخانقة وكسب "المعركة"، لاسيما أن الحملة الوطنية للتلقيح تتواصل بشكل فعال وسط إقبال جماهيري واسع. أبى إلا أن يكون إلى جانب ذلك متفائلا بالمستقبل الواعد ويلقننا درسا آخر أكثر بلاغة في الحلم وسمو الأخلاق، ويخص الحديث عن الشقيقة الجزائر بالحيز الأكبر من خطابه التاريخي الهام، حيث أنه بادر ثانية إلى تأكيد تمسكه القوي بسياسة اليد الممدودة، التي كان قد عبر عنها كموقف ثابت للملكة المغربية تجاه الجزائر في خطاب السادس من شهر نونبر 2018 بمناسبة ذكرى "المسيرة الخضراء"، موجها عبرها دعوته الصادقة للأشقاء في الجزائر للعمل سويا دون شروط مسبقة من أجل بناء علاقات ثنائية قوامها الثقة والحوار وحسن الجوار، إذ شدد في هذا الصدد على قوة الروابط والعناصر المشتركة التي تجمع بين الشعبين الشقيقين. حيث أن الخطاب لم يخل من رسائل واضحة عن الرغبة في التقارب، متغاضيا عن التصعيد الجزائري الأخير ضد الوحدة الترابية والمعاكسات والاستفزازات المتواترة. لأن الدبلوماسية المغربية على عكس ما يتوهمه البعض، تهدف بالأساس إلى نبذ النزاعات المفتعلة وكل ما من شأنه الإسهام في التفرقة وتأجيج نيران الحقد والكراهية، انطلاقا من الدعوة إلى فتح الحدود المغلقة منذ تسعينيات القرن الماضي. فخطاب الذكرى الثانية والعشرين للجلوس على العرش يعد دعوة صريحة أمام العالم أجمع لدفن تلك العلاقات المتشنجة بين البلدين الجارين، والعمل سويا على توطيد مبادئ الحوار الجاد والمسؤول وحسن الجوار وترك الأمور الخلافية جانبا، مع إعطاء الأولوية للتركيز على ما يخدم مصلحة الشعبين ومواجهة العدو المشترك والتهديدات الخارجية وعصابات التهريب والاتجار في البشر. حيث أنه اعتبر الجزائر والمغرب ليسا فقط بلدين جارين، بل هما أكثر من ذلك "توأمان متكاملان"، رافضا أن يستمر الوضع الحالي على ما هو عليه من توتر في العلاقات، لا تصب في مصلحة الشعبين اللذين يتطلعان إلى الانفتاح على بعضهما البعض والتعاون فيما بينهما، لأنه لم يعد مقبولا لديهما ولدى سائر بلدان العالم الديمقراطي الاستمرار في هذا التجافي الذي عمر طويلا. إذ وفق ما عودنا عليه ملكنا الهمام محمد السادس من رصانة وتبصر وسداد في الرأي، أراد مرة أخرى أن يكون لخطابه صدى طيبا وإيجابيا لدى الأشقاء الجزائريين، باعتباره دعوة أخوية صادقة تروم ترجيح منطق الحكمة وروح المسؤولية التاريخية والسياسية، لما فيه المصلحة العليا للبلدين الشقيقين. فاليد البيضاء الممدودة إلى الأشقاء، تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن القناعات والخيارات الملكية هي مغاربية صرفة، وتسعى إلى بث الاطمئنان بأن المغرب لن يكون أبدا منبعا للشر والمشاكل، معتبرا أن "أمن واستقرار الجزائر من أمن المغرب واستقراره"، مما يستدعي التعجيل ببناء علاقات سليمة للخروج من الوضع المختل الذي يؤثر سلبا على البلدين اللذين تربط بين شعبيهما علاقات متينة من الكفاح المشترك، والتعامل معه بعيون الحاضر في ظل ما بات يتهددهما من مخاطر وتحديات آنية ومستقبلية. إن خطاب العرش ليوم السبت 31 يوليوز 2021 سيظل محفورا في ذاكرة المغاربة والجزائرين، حيث أنه جاء ليشهد العالم على استعداد المغرب الدائم لطي صفحة الماضي، والتشديد أيضا على أن الحاجة اليوم لم تعد منحصرة فقط في فتح حدود البلدين، بل تجاوزتها إلى ما هو أعمق وأرحب، وهو فتح العيون والعقول لرؤية الأمور على حقيقتها بكل ما يلزم من حكمة وتبصر. لأن المسؤولية السياسية والأخلاقية تقتضي اليوم أكثر من أي وقت مضى في ظل التحولات المتسارعة، أن تتضافر جهود الجميع -مغاربة وجزائريين- كل من جانبه من أجل إلغاء قرار "الإغلاق" الشامل، خاصة أن لا فخامة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون ولا سلفه عبد العزيز بوتفليقة ولا الملك محمد السادس نفسه، مسؤولين عليه... فهل من آذان صاغية ؟