بعد تجربة حرمان استثنائية وموجعة لمن قلوبهم معلقة بالمساجد، وانتظار شغوف لذلك الغدو والرواح المتجدد الى ".. بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه.." (الآية) في صحبة الآخرين، تحلقا بخشوع وانكسار خلف الإمام، تعود من جديد أصوات الآذان لتصدح في الدوحة بدعوة مبشرة مفتوحة الى الصلاة بالمساجد ب"حي على الصلاة.. حي على الفلاح"، بدل "صلوا في بيوتكم.. صلوا في رحالكم". بدا صوتا نشازا، على مدار ثلاثة أشهر من إغلاق المساجد في قطر بسبب الأزمة الصحية العالمية، ترديد المؤذن خمس مرات بدأب لم يكن يستجيب لنوازع القلب وهفوات الخاطر، عبارة "صلوا في بيوتكم.. صلوا في رحالكم". كانت العبارة تحمل كل ما يتضمنه معنى الطارئ الجلل، لت وق ع ه قلقا وهما ثقيلا وكدرا يغشى نفوس وقلوب، ليس فقط من اعتادوا ألا يغيبوا في صلاة لهم عن بيوت الله، وإنما أيضا أولئك الذين وقفت دونهم نوازل الأمراض وظروف المعيش الصعبة عن ارتياد المساجد لأداء جميع صلواتهم المفروضة. كان كافيا أن يبلغ الانتظار الق ل ق م نتهاه، وقد امتد بالعبارة زمن بدا بغيضا لأنه اخترق سكينة وروحانية الشهر الفضيل، حيث المقام لا يحلو ولا يستقيم إلا في حضور صلوات المساجد، والانخراط في حلقات أذكار جماعية، والاستماع الى دروس دينية في حضور موسع، ولا تكتمل فرحة الإفطار فيه إلا بصحبة الجماعة، وضمن روح ايثار وتبادل للعطاء لا يسمو الى مراتبه الحقيقية إلا بحضور الآخرين. غادر الشهر الفضيل وبقيت الغصة لدى الكثيرين أن أشياء ضاعت في غياب المساجد والاخرين، وازدادت حلقاتها استحكاما باشتداد الانغلاق وتردد صدى ضيق العيش على الكثيرين في أنحاء المعمور، لكن الدعوة المستجدة الى معانقة المساجد، ازاحت بعضا من غمة القيد، ونثرت بعيدا شيئا من سحائب التشاؤم، وظهر من خلالها لدى الكثيرين أن في نهاية النفق هناك بصيص ضوء يبشر بقرب انفراج الغمة ككل. ومع انطلاق أول مرحلة اعتمدتها قطر لخطة من أربع مراحل للرفع التدريجي للتدابير الاحترازية والقيود التي فرضتها مواجهة جائحة "كورونا" في مختلف مناطق البلاد، فتح خمسمائة مسجد، من بين أزيد من 1848 مسجدا (بحسب إحصاء 2013)، ابتداء من صلاة فجر أمس الاثنين، أبوابه أمام المصلين لأداء الصلوات الخمس (باستثناء صلاة الجمعة). وحثت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية القطرية، في رسالة لها الى مرتادي المساجد بضرورة اتباع مجموعة من الإجراءات الاحترازية، بما فيها؛ الحرص على الوضوء في المنزل بسبب استمرار غلق المرافق المخصصة لذلك في المساجد، وعدم الحضور مبكرا، لأن المساجد لن تفتح إلا عند رفع الآذان، والتزام التباعد، وتجنب المصافحة ولو بالقفاز، وإظهار تطبيق "احتراز"، الذي يكشف عن الحالة الصحية لحامله، للمشرفين على المسجد قبل دخوله، وإحضار كل واحد لسجادته الخاصة ومصحفه الخاص او القراءة من التطبيق الالكتروني، مع ارتداء الكمامة. كما حرصت، في بيانها، على تجديد تأكيد أن رخصة الصلاة في المنزل قائمة للمرضى وكبار السن المصابين بأمراض مزمنة، وجائزة أيضا لمن لم يجد من الأصحاء متسعا بالمسجد في المناطق ذات الكثافة السكانية. صحيح أن لازمة "سووا صفوفكم يرحمكم الله فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة"، عملا بالحديث النبوي الشريف "أقيموا الصفوف وحاذوا بين المناكب، وسدوا الخلل (...)"، تحولت الى لازمة أخرى، تحث على التباعد، وتلزم المصلين بالمحافظة على مساحة مترين بين كل واحد منهم، غير أن العودة الى المساجد واسترجاع بعض من حركة الرواج داخل المراكز والمجمعات التجارية، تعيد حالة من الطمأنينة، وترفع الإحساس بجلل الأمر واستحكام المدلهمات، وتمنح دفقة أمل بأن عن قريب ستستعيد الحياة وتائرها المعتادة. وبحسب الأجندة التي اعتمدتها دولة قطر للخروج من حالة الإغلاق التام، سيكون على الجميع التزام المحاذير الموصى بها، والانصياع لضوابط مراحلها التدريجية الأربع، التي جرى أمس تفعيل انطلاق أولها، والتي تشمل أيضا "السماح بالرحلات الجوية إلى خارج الدوحة"، في ظل التشديد على أنها ستكون مقصورة على "حالات الضرورة القصوى". وبنجاح وسلاسة مرور انطلاق هذه المرحلة، من المرتقب أن يتم الانتقال الى الثانية، ابتداء من فاتح يوليوز، ليتسع بعض الشيء مجال فك الإغلاق، على أن يجري فتح مزيد من المساجد التي ستقام فيها صلاة الجمعة بدءا من غشت المقبل، مع السماح أيضا باستقبال الرحلات الجوية الوافدة على الدوحة. وبعد تقييم دقيق وشامل بين كل فترة وأخرى، ومن مرحلة الى ما يليها للوضع الوبائي، ومدى سير مستوى التعافي وتراجع العدوى في الاتجاه الصحيح، سي ستكمل بالكامل فك الإغلاق، في ظل مرحلة رابعة وختامية تبدأ من فاتح شتنبر، ليتم انطلاقا منها توسيع نطاق حركة الرحلات الجوية، والسماح بإقامة الحفلات والمناسبات ذات التجمعات الكبيرة، وفتح كافة المساجد والجوامع والمسارح والمعارض ودور السينما وباقي المرافق الترفيهية. غير أن ما هو مؤكد في هذه المرحلة الأولى أن تخفيف القيود يأتي وفق شروط وضوابط ملزمة للجميع، ما فتئت وزارة الصحة في بياناتها اليومية تؤكدها، في ظل التنبيه بقوة الى أن تجاوز قطر مرحلة ذروة انتشار المرض بقليل، والاتجاه نحو تسطيح المنحنى، لا يعني أن خطر الفيروس قد انتهى، بقدر ما يحض على التزام الحذر والتعاون مع السلطات المختصة للمرور الى بر الأمان.