تنتشر حالات اليأس المجتمعي بمظاهر شتى في مختلف المرافق والمجالات مثلما تنتشر النار في الهشيم، بلغة ساخطة على أوضاع شتى في التعليم مثلما في الصحة والأمن وغيرها. وكأننا لم نتعلم سواه، وكأن هذا السخط له ما يبرره دائما. فكيف يعيش الإنسان في أوضاع يراها خانقة لا تعبر إلا عن أزمات تزيد من تأزم حالته وتزيد من تعقد أوضاعه؟ وهل نستطيع إسكات قلب نابض يسمعنا دقاته مع تجاهلنا لها؟ كيف نتخطى داء يتسم بالعدوى يأتي في صورة يأس مجتمعي؟
مع كل نبض للمجتمع نتحسس مواطن ضعفه وأسبابه وعلله دون كلل أو ملل للكشف عن هذه الذات الجماعية، دون الضغط على آلامها وتكريس أوضاعها.
نحن نتحسس نبض المجتمع من أجل فهم سر شكواه وأنينه. فيتنفس الصعداء من جديد ويسترجع عافيته، بدون خوف من وجود قد يصير عدما.
تكثر الشكوى داخل المجتمع دون إنصات فعال لما يروج داخله، ولأن الكل ينين فإنك لن تسمع غير الأنين ولن تستبشر خيرا في غد مقبل.
ولكن مع انتهاء الأنين يعم الصمت القاتل ببشرى بنهاية متوقعة، هو صمت يعبر عن مخاوف هستيرية، كالخوف من وعلى المستقبل فنعيش الأحداث قبل حدوثها وكأننا أردناها أن تكون معاناة مزدوجة.
لكن الحياة تستمر ولا نملك سوى أن نجعلها تستمر وتلك غريزة الحياة المتأصلة في كل الكائنات الحية. ويظل السؤال المطروح والمستفز: هل هو مجتمع بائس؟ أم أننا جعلناه بنظرتنا القاتمة له كذلك؟
كثيرا ما أكد الفلاسفة أن إسعاد الشخص مرتبط بإسعاد الغير، وستبقى السعادة مبتغى كل ذات مفكرة عاقلة متوازنة ،وأن الأمر لا يتعلق بإسعاد الفرد لنفسه ببحثه عن سبل السعادة الذاتية، لكنها تتعدى ذلك بإسعاد الآخرين من خلال تقديم نظرة جميلة عن واقعه، وبنشر فكرة العطاء بسخاء في علاقات اجتماعية بإيجابية بحب ورضا يبعث الأمل في إشراقة يوم جميل في سماء الوطن.
و يتمظهر هذا اليأس المجتمعي في حديث عن تفشي البطالة لتفترس بشراهة أحلام البشر، وإدمان يدفع الأفراد في براثين الضياع و الأزمات النفسية التي تفتك بهم وتجعلهم كمن يتخبط في حالة من المس مع هلوسات وشكوك وهذيان...
هو جنون مختلف المعالم قد يأتي في شكل الهوس بالمستقبل والحذر الشديد مما سيقع، جنون أفراد لكنه يضعهم في لائحة أعقل العقلاء حين يصبح المستقبل لدى البعض الآخر غير موجود،لتبقى فئة أخرى ترى مستقبلها في مخيلتها وتعيشه وإن كانت في زمن الحاضر، ويضيع بذلك الحاضر و القدرة على التمتع به...والحقيقة أننا يجب أن نعيش الحاضر ونحضر للمستقبل برؤية واضحة.
وهكذا صار الكل مقذف في اتجاه المستقبل بكثير من التفكير والحيطة و الحذر بلغة يائسة من حاضرنا، وبهذا نتعلم داخل المجتمع شيء آخر غير ما كنا نظنه وما اتفق عليه علماء الاجتماع.
نتعلم لغة اليأس و نتفنن في أساليب التعبير عنه. من محاولات الانتحار على المباشر في المواقع الاجتماعية بالفيديو تعبيرا عن رفض أو سخط أو نقمة أو إحساس بالقهر الوجودي. فتكثر حوله الإشاعات والقراءات ونتسابق في نقل الأخبار وافتخارنا بمعاينتنا للظاهرة .
وأمام ذهول الأفراد بما يحدث والاكتفاء بالمشاهدة والتسجيل والتوثيق دون أي تدخل في الظاهرة، والأكثر إلتماس الأعذار باعتبار المنتحر في نظرهم ضحية، غير أنه فتح لائحة اليأس من جديد فتطول مع العدوى، الشيء الذي يجعلنا نتساءل عنه بدوره هل هو ضحية الظروف أم ضحية عدوى اليأس المجتمعي؟
نتذكر هنا الإشكال الإبستمولوجي الذي يطرح في العلوم الإنسانية وخاصة علم الاجتماع ويتلخص في كون الباحث في هذا العلم يهتم بالظاهرة وكأنه آلة تصويرلها، دون أية إمكانية للتدخل فيها من أجل توخي العلمية والموضوعية محاكاة للعلوم الحقة.هل معنى ذلك أنه في حالة دراسة ظاهرة الانتحار كظاهرة مجتمعية عليه أن يتسم بالموضوعية ويتأمل العينة في لحظة الانتحار؟ أم على الحس الإنساني وذاتية الباحث أن تتحرك لتنقذ حياة إنسان؟ بمعنى توخي الموضوعية يقتضي التخلي عن إنسانية وذاتية الباحث. وهذا ما يحصل عند معاينتنا لظاهرة الإنتحار: كلنا نساهم في كثرة الأحداث والإبداع في تنويعها ونقلها، وكأنه لا أحد يعتبر فاعلا في هذه الحياة بل كل منا منفعلا بها ، فينصب نفسه مفعولا به بصيغة المجهول.
فبعدما كان الإنسان ينزوي بعيدا عن الناس للقيام بمحاولات انتحاره، أصبح اليوم يدخل الأماكن العامة معلنا انتقامه من نفسه بشكل مثير للانتباه: فهذا يشعل النار على جسده أو يرمي بنفسه من الأعالي في أماكن عامة، والناس لا تملك سوى الرثاء لحاله بحكم أنه مسكين دون أن نتبه إلى ظاهرة مجتمعية خطيرة وهي نشر عدوى اليأس ويحيي النظرة البائسة دون استحضار لمقومات تشحن العزيمة والإرادة عند الإنسان ،مثلما استطاع النمل الأضعف حجما و قوة والأكثر إصرارا ليستمر في زمن انقرضت فيه الدينصورات الضخمة وعجزت عن مقاومة جبروت الطبيعة وقسوتها.
وإن استطاع النمل أن يتدرب على حمل أضعاف وزنه مئة مرة، ما كان ذلك ممكنا لو أن مجتمعه تبادل الشكوى والأنين، لكن كان التعاون و العمل بالتحد سر استمراره.
لو قرأنا كتاب حياة النمل لتعلمنا كيف كان يشحن طاقته بعيشه داخل عالم الممكنات ولو أنه دخل عالم المستحيلات بفكره لما حقق تلك المعجزة بقدرة تحمله.
نتكلم عن هموم أفراد داخل مجتمع تجعل منه يائسا غير منتظر أو متذوقا للجمال وحب للحياة، نتكلم عن شحوب ملامح إنسان يفتقد لتغذية ضرورية لتوازنه وفيتامين حب الحياة وتفعيل هورمونات السعادة التي تم تجميدها بالقضاء على كل نظرة جميلة تبث فينا روح الأمل، وتجعلنا نرى الحياة بشكل أجمل تكون مناعة نفسية لكل يأس مجتمعي، أو سدا منيعا أمام كل نظرة سلبية ونهاية لكل حياة يائسة.
ولأن لا حياة مع اليأس تنتهي كل قصة أليمة مع مناعة نفسية مفقودة من خلال حياة سطحية لا تجد في العمق إلا الحياة اليائسة والظلام المميت و القهر الوجودي.
ولأن لكل فكر فكر مضاد ووجودهما معا فيه إحلال لنوع من التوازن ، هكذا مثلما تعلمنا ثقافة اليأس علينا أن نتعلم ثقافة ضد اليأس المجتمعي وأن نبث روح النظرة الإيجابية فينا لتكون غذاء روحيا لحياة أجمل، نستطعم حلاوتها ونتقاسم مع غيرنا هذه الحياة الاجتماعية الإيجابية تخلو من كل تفكير سلبي. نراها حياة في لوحة فنية جميلة في مخيلة صاحبها، أو قصيدة شعرية نتغنى بها بين الحين والآخر.
صخب صوت اليأس المجتمعي يجعل صداه يحدث طنينا في الأذن يبقى مدويا داخل الذات لتعيش ضجيجا وجوديا يقلق مضجعها ويحرمها من سبات الليل وهدوئه ، لتعيش حالة من القلق الفاضح للإنسان في ملامحه التي تبدو مغلقة شاحبة فارغة من كل طاقة وحيوية ونشاط.
إن كنا نؤمن بلحظات طبيعية من اليأس، نكوص فعودة لأحسن الأحوال، مثلما رجوع السهم إلى الوراء يكون سببا في تقدمه ويخترق المسافات بقوة قهر الإحباطات المتكررة.
ومع أنه قد تنتابنا في حياتنا لحظات من اليأس وربما قد تكون سببا في تذوق طعم الحياة من جديد.
لتبقى في خبر كان تجعلنا نتقاسم المشاعر مع غيرنا في نفس الظروف ليس من أجل الإصابة من جديد بعدوى اليأس، بل من أجل القضاء عليه و انتشال الإنسان من براثين الضياع.
عموما لازال سؤال يفرض نفسه هل هي حياة ظالمة بائسة؟ أم أننا ظلمناها بنظرتنا اليائسة تحولها إلى ممات بقلب نابض؟
حقيقة لن نستطيع إنكار وجود حياة بقلب نابض، فيكفي أن نسمع نبضات قلوبنا عنوانا على استمرار حياتنا، لكن تبقى نظرة العقل تصبغها بألوان خاصة تنعكس على أحاسيسنا وسلوكاتنا. فكيف نجرؤ على إسكات قلب نابض بانتظام راغبا في حياة نخيفه منها ليفقد توازنه بين الحين والآخر في لحظات من الانهيار، تعطي المشروعية لحياة يائسة تطلب منا بإلحاح القضاء على عدوى اليأس المجتمعي بالدعوة إلى العيش بأسلوب مبهج يجدد رغبة الكائن العاقل، ويرفع من معنوياته ومزاجه ويشغل بذلك هرمونات السعادة الداخلية، ولتصبح لا حاجة لمواد مخدرة للعقل وللإرادات البشرية .