أثارت مشاركة الوزير المنتدب لدى رئيس الحكومة المكلف بالشؤون العامة والحكامة السيد لحسن الداودي في الوقفة التي نظمها بعض عمال شركة سنطرال دانون بالمغرب، احتجاجا على استمرار المقاطعة التي طالت منتوجات الشركة، أثارت ردود أفعال صاخطة من قبل عموم المواطنين والمتتبعين للشأن العام ومن مختلف الأطياف السياسية بما فيها حزب العدالة والتنمية، وهو ما دفع بالوزير تحت الضغط لطلب إعفائة من المسؤولية, لا يختلف اثنان على الخطورة القانونية والسياسية والرمزية للتصرف غير المحسوب من طرف مسؤول حكومي بدرجة وزير ووقوفه في وقفة احتجاجية أمام مؤسسة دستورية صال وجال داخلها رافضا سلوك المقاطعة محاولا إقناع عموم الناس بخطورته على الاقتصاد عموما وعلى الشركة الفرنسية على وجه التحديد.
فهذا السلوك المدان طبعا، لا يمكن قراءته بمعزل عن الوضع السياسي بالمغرب، والذي شهد تدهورا كبيرا وانحرافا خطيرا بدأت معالمه تتنامى منذ سنة 2011، حيث طغى الخطاب الشعبوى على الفرقاء السياسيين، واستمر ليتحول لحالة من الفوضى السياسية غير الخلاقة، في ظل استفحال ظواهر لا تمث للسلوك السياسي القويم بصلة، ولا تحترم قيمة المؤسسات الدستورية بل وتضرب عرض الحائط مصلحة المواطن الحقيقية.
فاتسمت المرحلة بانتشار مقلق لسلوكات سياسية شاذة، كالاتهامات بالتخوين، والإيحاءات الجنسية، والاستعانة بقواميس غريبة كالحيوانات والجن، ثم امتدت لتطال الاحتقار والاستخفاف بالمواطنين باعتبارهم "مداويخ"، أو "قطيع"، وغير ذلك من النعوت القدحية، وانتهت باحتجاج الوزير على سلوك المواطن الذي لم يبرح مكانه من أجل
الاحتجاج على تدهور وضعيته الاجتماعية، بل اختار ممارسة الضغط باعتبارها مستهلكا، على اعتبار أن ممارسة حقوقه باعتباره مواطنا لم تؤت أكلها، ولم تفلح القنوات الرسمية من إيصال الصوت وإحداث الزلزال الاقتصادي والاجتماعي المنتظر,
كل ذلك وغيره، أدى وسيؤدى إلى مزيد من تهميش المؤسسات الرسمية، وفقدان الثقة في الوساطات الاجتماعية والسياسية من قبل المواطن، وهو ما نبه إليه ملك البلاد عندما قال بصريح العبارة أنه لم يعد يثق في السياسيين، فكيف للمواطن البسيط والمغلوب على أمره أن تكون له هذه الثقة، وكيف يمكن إقناعه بالمشاركة السياسية والمواطنة، وكيف نطلب من الموظف التفاني في العمل، والتلميذ والطالب الجدية في التحصيل، والأستاذ التضحية من أجل الأجيال، التاجر احترام أخلاقيات التجارة,, وهذه الفئات وغيرها ترى وتسمع وتعايش وتعاني من انحطاط الفعل السياسي والعمومي وانحرافهما، فلا يمكن إقناع الغير بنقيض الفعل، وإلا سارت القوانين والأنظمة والمؤسسات آليات مفرغة من أبعادها التربوية والتهذيبية قبل التنظيمية أو الزجرية,
لذلك، لا عجب اليوم أن نقف عند سلوكات اجتماعية غريبة عن المجتمع المغربي، من قبيل الاعتداء على الأصول، اغتصاب الآباء لأبنائهم، انهيار المؤسسات التربوية، هشاشة مؤسسة الأسرة، التباهي بالتخريب والاعتداء على الأملاك العمومية، اللجوء إلى شرع اليد,, كلها سلوكات مدانة طبعا، لا يمكن فصلها عن واقع الفعل السياسي والعمومي الذي لطالما شكل نموذجا بيداغوجيا للمواطنة واحترام القانون والمؤسسات في الدول التي تعي قيمة الرسائل التي يلتقطها المجتمع من الفاعل السياسي.
لكل ذلك ولغيره، فإننا اليوم في حاجة إلى إعادة النظر بشكل جدي في الممارسة السياسية والعمومية في اتجاه إعادتها إلى سكتها الصحيحة من خلال العديد من الإجراءات الصارمة، من بينها صياغة مدونة للسلوك السياسي والعمومي، تنهل من المبادئ الدستورية المتعلقة بالمسؤولية والمحاسبة والمواطنة وثقافة الشأن العام والمرفق العمومي، وتقديم مصلحة المواطن والوطن، وإعادة الاعتبار لقيمة المؤسسات السياسية ومن خلالها باقي المؤسسات الاجتماعية على رأسها الأسرة والمدرسة,
مدونة السلوك هاته لا ينبغي أن تنضاف إلى ترسانة النصوص القانونية التي لا أثر لها في الواقع، وإنما ينبغي أن تكون ميثاقا أخلاقيا وقانونيا يضبط السلوك السياسي والممارسة العمومية في اتجاه تحصينها من الانزلاقات الخطيرة والارتقاء بها، وترتقي بالفاعل السياسي والعمومي لدرجة المواطنة، وإعطاء السلطة القضائية دورا أساسيا في تفعيل مقتضياتها بشكل تلقائي وترتيب الجزاءات على مخالفتها، حتى نعيد الاعتبار للعمل السياسي ونصالح المواطن مع الدولة والمؤسسات والمجتمع,, وهي مقومات أساسية لكل استقرار وتنمية وتقدم وعيش كريم..
وما دام الفاعل السياسي والعمومي لا يعترف برأي المواطن لا يتفاعل معه، فإن هذه المدونة يتعين أن يحث عليها ملك البلاد وأن يحرص على وجودها وعلى تنفيذها بالصرامة اللازمة حفظا لما تبقى من هذا الوطن العزيز ومن أبناءه.