ألف الرأي العام الوطني ؛ عند حلول موسم الشتاء من كل عام ؛ معاينة صور ومشاهد معاناة سكان مناطق جبلية نائية في الأطلسين المتوسط والكبير ..؛ جراء موجات الصقيع التي تضرب دورها وتعطل مسالكها تحت رحمة الأمطار الجارفة وتساقط الثلوج الكثيفة ، مما يفرض عليها عزلة تامة تتعذر معها سبل الحياة . وتتحول الظاهرة إلى مأساة حقيقية حينما تنفد المواد الاستهلاكية أو يتعذر على المرأة الحامل والمريض إيجاد الإسعافات الأولية سوى بالطرق التقليدية الشعبية ؛ والتي كثيرا ما تفضي إلى مضاعفة المعاناة أو تنتهي بأصحابها إلى الردى ! بيد أن المفارقة الغريبة في هذه المشاهد المأساوية السنوية هو تدخل السلطات المحلية في أقصى الحالات عسرا بحمل أغطية وأفرشة هي الأخرى في حاجة إلى تدفئة لتقادمها في المستودعات .
قضية التشتت القروي
إن ظاهرة تشتت الدواوير والوحدات السكانية عموما في المناطق الجبلية النائية وما أكثرها 70% تخلق مشاكل جمة معيقة للتنمية القروية بصفة عامة ، وعلى مستويات عديدة لعل أبرزها قطاعات الصحة والتعليم والفلاحة .. يمكن التأشير على بعض قضاياها فيما يلي :
* المدرسة الفرعية يتعثر نشاطها في الأيام الماطرة ؛
* زيارة أقرب مستوصف قروي يكلف ؛ في المتوسط ؛ زهاء ثلاث ساعات من التنقل وتتعذر في الأيام الشتوية ؛
* النشاط الرعوي والفلاحي عموما يعرف شللا مع قدوم فصل الشتاء واشتداد وطأة الصقيع ؛
* الدولة ؛ بهذا التنظيم المجالي القديم ؛ تخسر المليارات جراء العطل الذي تعرفه بعض المرافق التعليمية والصحية والاجتماعية ؛
* التشتت السكني القروي يشكل إحدى رواسب السياسة الاستعمارية التي كانت قائمة على مبدأ "فرق تسد " وتكريس العداء بين الدواوير والمداشر والقبائل ؛
* انعدام كل أشكال التعاون بين هذه الدواوير المشتتة إلا عبر النظام القبلي الذي تبنى "التويزة" كرابطة اجتماعية بين أفراد القبيلة الواحدة والذي اختفى العمل به حاليا إلا فيما ندر .
ما رأي الحكومة في هذا الحل ؟
لتجاوز هذه العقبات الطبيعية من جهة ولتأمين حياة كريمة وآمنة لساكنة هذه الدواوير المشتتة يجدر بالحكومة إعادة النظر في هيكلة السكن القروي نفسه ، وذلك باعتماد استراتيجية تنموية شاملة تقضي بتجميع الدواوير والوحدات السكنية النائية في قرى نموذجية بمواصفات حديثة ؛ مجهزة بالمرافق الضرورة مع تعزيز بنيتها الاجتماعية بخلق تعاونيات فلاحية محلية ، ومنح الإنسان القروي تسهيلات في امتلاك سكن اقتصادي بخصوصيات محترمة .
ولعل مثل هذه القرى النموذجية ؛ وبالمعايير الحديثة ستواكبها خطوات اجتماعية أخرى من شأنها أن تغير نظرتنا إلى القرية والبادية ، وتخلق لدينا حوافز للإقامة القروية ، وبذلك تخف وطأة الهجرة القروية وتتحول ؛ مع الأيام ؛ إلى هجرة مضادة (الهجرة المدنية) والتي ستعمل على التخفيف من ظاهرة الاكتظاظ التي تعرفها المدن واختناق شوارعها وتعذر العيش في أجوائها الملوثة .