هما نكبتان، أو قل سوءتان. فإذا كان المواطن الصحيح ينحي باللوم على الحكومة لما يعيشه ويكابده، فإن المواطن المعاق له نكبتان، نكبته في الدولة التي أهملته وألغته من برامجها التنموية والاجتماعية، ونكبته في المجتمع الذي استمرأ إذلاله وامتهان آدميته، ولعل الأخيرة أمر وأقسى، لأن الإهانة التي تأتي من أناس بلحم ودم ولسان، أشد من تلك التي تأتي من مؤسسات وقوانين خرساء. فنظرة المجتمع لذوي الاحتياجات الخاصة(وتبلغ نسبتهم عشرة بالمائة في المغرب حسب الباحثين) هي أشبه في بعض تجلياتها بالنظرة الدونية للألمان النازيين لهم، فقد صنفهم الزعيم النازي "أدولف هتلر" بالكائنات غير المنتجة واعتبرهم في درجة دون الآدميين وفُوَيقَ الحيوان، في منزلة بين المنزلتين، وأوحى له شيطانه أن يجمعهم من أطراف ألمانيا ألوفا مؤلفة ويرحلهم إلى معتقلات النازية في بولندا وغيرها، حيث كان يستخدمهم طبيبه الشهير"جوزيف مينغلي" كفئران تجارب في أبحاثه الطبية.
وهذه النظرة والمعاملة لم يبتدعها الزعيم النازي من فراغ، فلها جذور ضاربة في تاريخ معاملة الكنيسة لهذه الفئة من الناس ترتبط أساسا بفكرة العقاب الإلهي والمسؤولية الذاتية، و ترى في الإنسان المعاق والمختل عقليا عقوبة الرب على خطيئة الفرد و المجتمع، كما أشار إلى ذلك الكاتب (ادوارد ويتلي)* ساردا نماذج وحشية لمعانات المعاقين في القرون الوسطى استقاها مباشرة من أزيد من ألف سجل فرنسي يؤرخ لتلك الحقبة، بلغت حد استغلال إعاقتهم الذهنية والبدنية لتسلية العامة في الساحات بمشاهد أقل ما توصف به أنها سادية مقيتة.
نسانتقريره أن الإو، ى كرامة بني آدم جميعايدعوا إل الإسلام والحقيقة المؤلمة أننا وبالرغم من أن المبتلى في عقله مرفوع عنه القلم، والسقيم في جسده مأجور عن الألم، فتاريخنا الجمعي ملآن بقصص مشابهة يندى لها الجبين عن حياة هذه الفئة من أبناء المجتمع بين أبناء جلدتهم، تحكي فصولا بئيسة من الاحتقار واللامبالاة والنفي إلى الملاجئ و القفار والأماكن المهجورة والتصفيد بالسلاسل والأغلال، وذاكرة "بويا عمر" التي انقلبت من ملجأ لإيواء مختلين ذهنيا إلى أقبية مخزية للتعذيب والاغتصاب، ومسرحا لبشاعات همجية شاهدة على مغرب لا زال ينتمي إلى القرون الوسطى.
نعم لا زالت فينا جاهلية عصور الظلام لم نتجاوزها بعد، كما قال الكاتب (ويل ريكاس) موجها حديثه إلى القارئ المعاصر بأنه يسهل علينا أن نعتقد أن فترة القرون الوسطى فترة بدائية عديمة الفائدة مضت
وأصبحت تاريخا يحكى، لكن الحقيقة أن هناك أحيانا تشابها بينها وبين عصرنا الراهن، وبالأخص في طريقة معاملة ذوي الاحتياجات الخاصة.
لازلت تسمع في مجتمعنا من يقول إنهم مسكونين بأرواح شريرة، والبعض منا يخجل أن يذكر أن له أخا أو أختا معاقا، يشعر بالنقص، يتمذق نوعا من الصَّغار والتقزز، وكأن به جربا أو جذاما ينبغي أن يواريه عن الأعين ما أمكن، لا زالت بعض الأسر تعتبرهم عقابا إلاهيا نزل بهم لذنب اقترفوه، وبعض الرجال يفسخ خطبته إذا علم أن المخطوبة لها من أقاربها معاقا كأنه يخشى العدوى، نعم إنها عقليات لا زالت تجد هواء تتنفسه في مجتمع عتيد بطيء التململ عصي على التغيير.
أما الدولة ومؤسساتها فما زالت قوانينها ومقاربتها الاجتماعية والتنموية دون المستوى، فهي لم تأخذ في الاعتبار التطورات التي تتراكم في الدول المتقدمة وما انفكت تتحدث عن خططها المتخلفة جدا لإدماج هذه الفئة كمعطى إيجابي، في حين أن العالم المتقدم يتحدث عن المَأْسَسَة والعمل المؤسساتي المزود بترسانة من القوانين والرؤية الواضحة والأوراش المستدامة، أما الإدماج الوهمي الذي تتحدث عنه الحكومة فهو إن تحقق كان آنيا ، تثبته حكومة بالليل وتمحوه أخرى بالنهار، ليست له ملامح ولا تطبعه الجدية، ولا نجد غضاضة في ادماجه ضمن المزايدات والوعود والمناكفات الحزبية المعتادة.
فالنهوض الفعلي بهذه الفئة من المواطنين ينطلق من فلسفة طبية وحقوقية وقانونية شاملة، وعمل مؤسساتي يعتبر المُعاق مواطنا استثنائيا، يستدعي رعاية خاصة تدخل في صميم حقوقه المدنية، وبرنامجُ دولة متكامل، يروم في جوهره إشراك هذه الفئة فعليّا في محيطها، ومرونة حركتها في داخله، بالاعتماد أساسا على ما تقدمه التكنولوجيا الحديثة.
وهو برنامج قائم على توفير خريطة حياة موازية داخل المجتمع، وتمكين كامل ومؤهل لكافة المرافق الإدارية و الاجتماعية من تخصيص الحيز المكاني كاعتراف بالوجود، واعتماد وسائل مواصلات مجهزة بالآلات السمعية والبصرية، وأدوات تسهيل الولوج والاستخدام، وتوفير الموارد البشرية المؤهلة، وإنشاء مراكز الرعاية والإيواء، ومراكز الخدمة الاجتماعية والطبية المتخصصة، وتوعية العموم بمبدأ الأسبقية والأريحية في المعاملة مع هذه الشريحة من المجتمع كواجب يفرضه القانون لا كحسنة أو نوع من الشفقة والتطوع الخيري، وغيرها من الإجراءات التي تمكن ذوي الاحتياجات الخاصة من العيش كمواطنين كاملي المواطنة، يتمتعون بجميع الحقوق والامتيازات التي يتمتع بها المواطن العادي.
وعلى غرار القانون الأمريكي لذوي الاحتياجات الخاصة -الصادر عام ألف وتسعمائة وتسعين والذي يندرج في خانة الحقوق المدنية، ويمنع التمييز ضد الأشخاص ذوي الإعاقة بكافة أنواعها في جميع
المرافق ذات الطابع العمومي والحياة العامة، بما في ذلك العمل والمدارس والمواصلات وكل الأماكن الخاصة والعامة المفتوحة في وجه العموم – فإن المغرب كدولة صاعدة و المشرع المغربي مطالبٌ بإعداد مشاريع قوانين يصادق عليها البرلمان في أقرب الآجال، تتضمن إجبار مؤسسات الدولة أولا ثم القطاع الخاص على نبد التمييز بين المواطنين بتوفير كافة الوسائل الكفيلة بتساوي المواطنين في الاستفادة و الولوج المرن إلى الخدمات المقدمة، بما في ذلك الخدمات العامة(مطاعم،فنادق،مقاهي،مراكز تجارية،ملاهي..) وإلزام مقاولات البناء بدفتر تحملات يقتضي مراعات احتياجات ذوي الاعاقات، وإدخال تغييرات على ما هو قائم من مؤسسات ومرافق عامة، من قبيل توسيع الأبواب والممرات حتى تتسع للكراسي المتحركة، وتزويد الحافلات برافعة الكرسي المتحرك وأحزمة السلامة المخصصة داخل الحافلة، وتخصيص حيز في مرائب السيارات والمراحيض العمومية، إلى آخر ما هنالك من إجراءات وبنود معمول بها في الدول المتقدمة.