عرف المغرب في الأيام الأخيرة، حملة واسعة النطاق تحت شعار "زيرو كريساج" على غرار "زيرو ميكا"، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وهي خطوة إيجابية تقتضي الدعم والتثمين إذا ما كانت تندرج فعلا في إطار المبادرات المدنية المحمودة، الرامية إلى تكثيف الجهود صوب المزيد من الأمن للحد من العنف والانحراف. علما أنه يستحال القضاء النهائي على "الكريساج"، طالما هناك اختلالات تعكر صفو حياتنا العامة. ولا يحق بأي حال التقليل من شأن دور رجال الأمن في محاربة الجريمة. فرجال الشرطة حريصون على استتباب الأمن وإنفاذ القانون، وهم دائما رهن إشارة مؤسستهم حتى خارج أوقات العمل وأثناء العطل الرسمية، مستعدون للتضحية وبذل قصارى جهودهم لحماية أرواح المواطنين وتهييء أسباب راحتهم. لا يتخاذلون في تشديد الخناق على المجرمين، والوقوف في وجه الاعتداءات الإجرامية والتهديد بالسلاح في سلب الممتلكات. يصارعون قساوة الطبيعة آناء الليل النهار، للقضاء على بؤر الانحراف ومطاردة اللصوص والمجرمين ومروجي المخدرات، ومحاربة الإرهاب وتفكيك خلاياه وفق خطط استباقية ذكية. كما أنهم يحرصون على إغاثة المرضى ومساعدة ذوي الاحتياجات الخاصة والمسنين عند الطوارئ وعبور الطريق أو استقلال وسائل النقل. ناهيكم عن مكافحة الشغب في الملاعب الرياضية. ولا يمكن لأي مجتمع ينشد الأمن والاستقرار، اكتساب قوته وبناء حضارته في أجواء من الاحترام، إلا بوجود جهاز أمن قوي برجاله، قادر على التصدي لمختلف أشكال الانحراف، التي من شأنها تعريض حياة الناس للخطر، الإساءة إلى سمعة البلاد والانعكاس على جلب الاستثمار، ما يتحتم معه تسخير كافة الإمكانات المادية والبشرية واللوجستية الضرورية، في اتجاه حفز الموظفين ونشر السكينة والطمأنينة بين المواطنين. فالدولة وفرت معهدا ملكيا للشرطة بمدينة القنيطرة، يعنى بتأطير رجال الأمن من مختلف الدرجات، الذين اجتازوا بنجاح مباريات ولوج سلك الشرطة، ومن المتوفرين على الشروط النظامية الواردة في القانون الأساسي، عبر تكوين عصري في الدراسات القانونية وغيرها، وتدريب مكثف على حمل السلاح وحسن استعماله. يؤدون قسم التخرج للتفاني والإخلاص في العمل وعدم إفشاء السر المهني، ويتم تزويدهم بأحدث الآليات والوسائل المساعدة على تذليل الصعاب، والارتقاء بمستوى رسالتهم الأمنية... بيد أن هذا لا يمنع من وجود استثناءات كما في سائر القطاعات، تسيء إلى المنظومة الأمنية، حيث ما انفك المواطنون يسجلون بتذمر واستياء عميقين، بعض مظاهر التقاعس لدى بعض الأمنيين، في التعاطي مع قضاياهم اليومية، تسببت في إصابتهم بالإحباط وأفقدت الكثيرين منهم الثقة في مصداقية وهيبة جهاز الأمن، الذي من المفروض أن يشكل ملاذهم الآمن ضد العابثين بسلامتهم وحقوقهم. وأمام تنامي أنواع السطو والجريمة في واضحة النهار، كان لا بد من أن يعم القلق المواطنين، ويعبرون عن غضبهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي، ورفع عرائض استنكار إلى كبار المسؤولين، غير أن ما لا يمكن استساغته، هو تحويل حملة "زيرو كريساج" عن مسارها لأغراض انتخابوية دنيئة، والسعي إلى التشهير برجال الأمن وتبخيس جهودهم، في محاولة بئيسة لإثارة الفتنة كرد فعل انتقامي على عزم وزارة الداخلية إلغاء تسجيل حوالي 400 ألف ناخب، إثر شكاية مقدمة من قبل حزبين في المعارضة (الاتحاد الاشتراكي والأصالة والمعاصرة)، وبعد أن تبين لها من خلال البيانات المتوفرة لديها، أن ذلك العدد الهائل سجل بطريقة مشبوهة من طرف الجيش الإلكتروني للحزب الحاكم، قصد ضمان أصواتهم في تشريعيات السابع أكتوبر الذي لم يعد يفصلنا عن موعده سوى شهرين. أفلم يسبق لأمينهم العام ورئيس الحكومة ابن كيران، التنويه بوزارة الداخلية على ما تبذله من جهود أمنية؟ نحن جميعا مع رفع شعار "زيرو كريساج" للقضاء عل مظاهر النشل والجريمة وترويج المخدرات وحبوب الهلوسة في أحيائنا ومدننا، لكن هل يستقيم ذلك في ظل تخفيف العقوبات عن المجرمين لتفادي الاكتظاظ في السجون، ودون تضافر الجهود بين الأسرة والمدرسة وجمعيات المجتمع المدني والأحزاب السياسية ووسائل الإعلام...؟ ثم ماذا أعدت الدولة لمحاربة الفقر والهشاشة والتهميش وإصلاح المناهج والبرامج الدراسية، والحد من الهدر المدرسي ومعدل البطالة والهجرة القروية...؟ فالإدارة العامة للأمن الوطني لم تأل جهدا في محاولات جادة لتطهير المجتمع من المجرمين، واتخاذ ما يلزم من إجراءات تأديبية وزجرية ضد المخلين بالقوانين في صفوف المنتسبين إليها: تنقيل أو توقيف أو إحالة على القضاء، كل من ثبت في حقه جريمة ارتشاء أو شطط في استعمال السلطة. ولم تفتأ تحث موظفيها على التقيد بأحكام مدونة قواعد السلوك الخاصة، سيما المتعلق منها بمقتضيات النزاهة والاستقامة والشرف، والقطع مع الممارسات المنافية للقانون والمندرجة في إطار جرائم الفساد الإداري من قبيل الرشوة والابتزاز، جاعلة نصب عينيها الحفاظ على الأمن والاستقرار في مختلف أرجاء البلاد. وليعلم ابن كيران وكتائب حزبه الإلكترونية أن الانتماء للوطن ليس بالأمر الهين، ما لم نلتزم بالحفاظ على استقراره وأمنه الفكري الاجتماعي والاقتصادي، والمغاربة لا يخشون التهديد بعودة "الربيع" وقطع الرؤوس، مادام حب وطنهم أكبر بكثير من أي مغامرة سياسوية غير محسوبة العواقب. فلنعمل سويا إلى جانب جميع فعاليات المجتمع من أجل بناء مواطن صالح، عبر أسرة مسؤولة ومدرسة قوية ومجتمع متماسك، وألا نغفل أن المسألة الأمنية قضية مجتمعية، تستدعي توفير الموارد البشرية الضرورية، وبحث إدارة الأمن السبل الكفيلة بتطوير وتجويد خدماتها...