قد لا يصدق أحد أن مدينة انزكان تتربع فوق بقعة أرضية لا تتجاوز مساحتها 14 كيلومترا مربعا، وأن أسواقها من أن أنشط الأسواق في الجنوب المغربي من مراكش إلى حدود موريتانيا، وأن سوق الجملة للخضر والفواكه بانزكان يتحكم في أثمنة الخضر والفواكه في أوربا، وأن هذه المدينة العجيبة تضم أزيد من خمسة آلاف جمعية، وأن مجلسها البلدي من أكثر المجالس إثارة للجدل وطنيا، وأنها مفتوحة على جبهات لا تنتهي من الصراع بين السكان والمجلس البلدي وبين هذا الأخير والموظفين والتجار من جهة أخرى وبين الفرقاء السياسين أيضا... تنام المدينة على إيقاع معركة لتستيقظ في اليوم الموالي على إيقاع معركة جديدة.. عندما كان المجلس البلدي لإنزكان يعد مخططه التنموي، أعد دراسة ميدانية استجوب من خلالها عينات مختلفة من سكان المدينة، بمن فيهم الحرفيون والتجار والنساء والرجال والموظفون والعاطلون، وكانت النتيجة جد صادمة، رغم كل ما قيل عن ظروف إنجاز الدراسة، والملاحظات المنهجية التي سجلت في حقها، فقد كشفت عن كون ما يقرب من 43 بالمائة من سكان مركز انزكان غير راضين عن الوضعية التي توجد عليها مدينتهم، سواء من حيث الخدمات أو التجهيزات والنظافة، في حين عبر 10 في المائة عن رغبتهم الأكيدة في مغادرة المدينة إلى وجهات أخرى. ومن الحقائق التي أوردتها هذه الدراسة أن أعلى نسبة من العينة التي عبرت عن رغبتها في مغادرة المدينة كانت من بين النساء، مما يؤشر على أن المدينة لم تعد صالحة للاستقرار الأسري وهو ما أكدته بعض الجوانب التي كشفت عنها الدراسة ذاتها. لغة الصمت من الحقائق التي صدمت القائمين على الدراسة الميدانية المشار إليها، أن نسبة كبيرة من المستجوبين فضلوا الصمت ورفضوا الإجابة عن الأسئلة التي كانت تطرح عليهم، إذ وصلت نسبة الرفض عن بعض الأسئلة إلى 99 بالمائة، الأمر الذي لا يمكن، حسب الدراسة نفسها، تفسيره بأن «الصمت علامة الرضا» بل إنه يعكس حالة من التذمر الكبير من كل من يسأل عن رأي السكان في المدينة، حيث تركزت الأسئلة على مستوى الرضا عن نظافة المدينة وعن مستوى الخدمات المقدمة من طرف المجلس وكذا سير المشاريع عموما داخل المدينة، وهو ما يمكن تفسيره، من جهة أخرى، بالتردد الذي يصل أحيانا إلى درجة الخوف من أي إحصاء أو أي جهة تستجوب المهنيين والسكان من أجل الحصول على المعطيات، كما فسره بعضهم باليأس من أن تتغير أوضاع المدينة بسبب الصراعات التي لا تنتهي بين السكان والمجلس البلدي. وفاء من نوع خاص من بين التحليلات السوسيواجتماعية التي تفسر الصراعات التي تعيشها المدينة كون أغلب سكانها يرتبطون بها اقتصاديا ولا علاقة لهم بالمدينة كأرض وكجذور وهوية، بل إن أغلب الموجودين داخل مدينة انزكان مرتبطون بمشاريعهم الاقتصادية وليس لهم أي ارتباط بالمدينة، لذلك نجدهم يدورون حيث تدور مصالحهم، وهو ما يفسر كثرة التحالفات والانشقاقات والصراعات بين الجمعيات المهنية من جهة، وبين هذه الجمعيات والمجلس البلدي من جهة أخرى وبين هؤلاء جميعا والسلطة من جهة ثالثة، في دوامة لا تنتهي من الصراعات التي تتحول في بعض المحطات إلى مؤامرات لم تسلم منها حتى الهيئات المهنية التي تمثل التجار. العامل.. الرئيس.. ارحل؟ يكفي أن يطل العامل من إحدى نوافذ مقر عمالة انزكان آيت ملول لكي يراقب، عن كثب، كل ما يجري أمام البوابة الرئيسية للمجلس البلدي، التي تحولت مع مرور الأيام إلى ساحة للاحتجاج يتناوب عليها السكان والتجار والموظفون، إذ تعيش المدينة على إيقاع الاحتجاجات، فلكل يوم احتجاج، وازدادت الأمور استفحالا عندما انضم المعطلون إلى كوكبة المحتجين ليهتف الجميع «حيا .. على الاحتجاج « فتطورت الاحتجاجات بعدما كانت في البداية تلح على مطالب تلك الفئات ومع مرور الأيام أصبح الجميع يرفع شعار «الرئيس.. ارحل» « العامل.. ارحل».. بعد أن تبين للتجار والعاطلين على حد سواء عدم جدية هؤلاء في كل جولات الحوار التي خاضوها، وهو ما أكدوه من خلال بيانات تعبر عن يأسهم من تعاطي السلطات مع مشاكلهم اليومية. شتم على الهواء في أوج الصراع المشتعل بين المجلس البلدي والتجار على خلفية تحويل سوق الجملة للخضر والفواكه، كان أحد البرامج الإذاعية مناسبة لمقاربة هذا المشكل الشائك الذي يتشبث فيه كل طرف بموقفه، فالتجار متشبثون بقرار عدم التحويل لخوفهم من المجهول وعدم ثقتهم في خطط المجلس البلدي، ورئيس هذا الأخير متشبث بقرار التحويل لأنه يرى فيه حلا للاكتظاظ الذي تعرفه المدينة ومحاولة لتحسين وضعية السوق، ولازال هذا الصراع قائما على مدى عشر سنوات، أي منذ سنة 2002 عندما طرح سؤال شفوي في الموضوع بالبرلمان وكان الجواب بأن المجلس يجب أن يتخذ قرارا يراعي مصالح التجار. غير أن النقاش، الذي كان على الهواء مباشرة، تحول إلى سب وشتم متبادل بين الرئيس وبعض ممثلي التجار وهو حادث يؤشر على أن العلاقة بين الطرفين وصلت إلى نقطة اللاعودة وانحطت إلى مستويات لم تعد مقبولة. السياسة بكل الألوان من الحقائق التي تطبع الحياة السياسية داخل مجلس المدينة أنه ليس هناك وفاء لأي لون سياسي، هذا المعطى كشفته الانتخابات النيابية الأخيرة عندما أقدم النائب التاسع للرئيس، والذي يعتبر أحد أعمدة الأغلبية المشكلة من طرف الاتحاد الدستوري والعدالة والتنمية والاتحاد الاشتراكي، (أقدم) على الترشح تحت اسم حزب الاستقلال وهو ما أثار حفيظة بعض المستشارين الاستقلاليين الذين كانوا يشكلون المعارضة داخل المجلس، إذ قدم أحدهم استقالته من الحزب احتجاجا على قبول حزبه لترشيح هذا الشخص، وحملت كواليس السياسة أحداث الحملة الانتخابية حيث كان من المتوقع أن يساند الرئيس نائبه التاسع في حملته الانتخابية إلا أن الرئيس فضل عدم الخروج في أي حملة انتخابية، إلا أن بعض المتتبعين لاحظوا خروج أبنائه في الحملة الانتخابية المساندة للعدالة والتنمية، هذا الأمر يتوقع المتتبعون للشأن المحلي للمدينة أن ينفجر في دورة فبراير المقبلة مما قد يدخل المجلس مرة أخرى في دوامة من الصراع. رسائل من أزبال عندما ضاق سكان بعض الأحياء بانزكان ذرعا من تراكم الأزبال في أزقتهم اكتشفوا فكرة غريبة، فكروا في نقل الأزبال إلى مقر البلدية حيث رموها أمام البوابة الرئيسية للمجلس البلدي، في محاولة منهم لإرسال رسائل قوية إلى المسؤولين بالبلدية، وهي خطوة اعتبرها المتتبعون فصلا من فصول الصراع الدائم بين السكان وممثليهم في المجلس، وقد خلفت هذه الخطوة استياء عميقا وسط المتتبعين الذي اعتبروها مؤشرا على تدهور العلاقة بين السكان والمجلس ووصولها إلى مستويات غير مسبوقة من الاحتقان، خاصة أن المدينة تعاني خصاصا كبيرا في التجهيزات اللازمة لتدبير قطاع النظافة، وهو ما دفع المجلس، في آخر دورة له خلال سنة 2011، إلى التصويت على مقرر التدبير المفوض لهذا القطاع، وبرر الرئيس وقتئذ الإقدام على هذه الخطوة بتهالك الشاحنات التابعة للجماعة وشيخوخة الموارد البشرية المكلفة بجمع الأزبال، وقد أثير أثناء النقاش جدل كبير حول ترجمة بنود كناش التحملات الخاص بالتدبير المفوض إلى العربية، خاصة عندما أعلن المهندس البلدي عن كون الترجمة ستكلف سبعة ملايين سنتيم مما حذا بهم للعدول عن ترجمة كناش التحملات والاكتفاء بالتصويت عليه دون التدقيق في مقتضياته. لعبة أرض.. جو من أوجه الصراع الدائم بين المجلس والتجار والذي أضحى حديث الخاص والعام بسوق الثلاثاء، مشروع كهربة هذا السوق، الذي سجلت فيه العديد من الحرائق بسبب العشوائية التي تم بها ربطه بالتيار الكهربائي، وقصة هذا الربط الكهربائي تعتبر فصلا من فصول الصراع الذي تعرفه المدينة، فالاتفاقية التي تم توقيعها بين المجلس والجمعيات الممثلة لتجار سوق الثلاثاء بحضور السلطات، تنص على أن تتم الكهربة بالربط تحت أرضي تفاديا لأسباب الحرائق التي تحدث من حين لآخر داخل السوق وكذا ضمانا لسلامة التجار وزبائنهم، إلا أن الشركة التي تولت أشغال الربط عمدت إلى ربط بعض الأجنحة بالتيار عن طريق الربط تحت أرضي، فيما اكتفت في بعض الأجنحة بالإبقاء على الشبكة القديمة، ليدخل التجار في موجة من أشكال الاحتجاج وتوالت اللقاءات مع عامل الإقليم، وقام الكاتب العام للعمالة بزيارة إلى السوق ودخل الملف في دوامة من التسويف والاتهامات والاتهامات المضادة، إلى أن عادت الأمور من جديد إلى نصابها فاضطرت الشركة إلى الالتزام بما ورد في الاتفاقية، ورغم ذلك سجل التجار في بعض المحلات رداءة التجهيزات التي استعملتها الشركة، والتي نتجت عنها بعض الأعطاب من حين لآخر في بعض المحلات. البوابة الدموية مازال التجار الموجودون عند البوابة الرئيسية لسوق الثلاثاء والمطلة مباشرة على شارع المختار السوسي قبالة محطة سيارات الأجرة، يتذكرون تلك الأمسية الدموية التي شهدتها البوابة عندما نشب شجار بين أحد المتسكعين، الذي كان في حالة هيجان جراء تناوله بعض العقاقير المهلوسة، وبين أحد الباعة المتجولين الذين يستعملون البوابة رقم 2 المشار إليها، إذ شرع المتسكع في قذف خصمه بكل الأواني التي تقع تحت يده والتي كانت معروضة أمام البوابة، ووقفت حشود من الناس تتابع المشهد الدموي المريع ولم يتدخل المتفرجون إلا عندما بدأ المتسكع يقذف الجميع بكل ما يقع تحت يده، وهو الأمر الذي جعل الجموع المتفرجة تقذفه بالعصي وصناديق الخضر، وتطارده إلا أنه احتمى بإحدى سيارات الأجرة التي كانت متوقفة، ولم يتمكن سائقها بمساعدة بعض زملائه من إخراج المتسكع منها لأنه كان يعلم بأن أيد هائجة تنتظره في الخارج، وبعد أن شارف هذا المشهد الدموي على الانتهاء حضرت دورية للشرطة لتنتشل المتسكع من داخل السيارة وهذا مشهد دائم التكرار في هذه الزاوية من المدينة على مدار فصول السنة. المعطلون على الخط تعززت مشاهد الاحتجاج التي تعرفها المدينة على الدوام بانضمام المعطلين من حاملي الشواهد إلى مسيرات الاحتجاج، إذ أصبحوا من المكونات الأساسية لخط الصراع الدائم بحيث مرت أيام تشهد فيها المدينة عدة تظاهرات فالتجار يخرجون في مسيرة من سوق الجملة في اتجاه البلدية، فيما المعطلون يعتصمون أمام العمالة، وبعض من مناضلي حركة عشرين فبراير أمام المحكمة الابتدائية، وفي اليوم الموالي يفاجأ المتتبعون بوقفة احتجاجية لموظفي البلدية، وهكذا تتحول المدينة إلى مشهد واحد من الاحتجاج الذي لا ينتهي إلا ليبدأ من جديد، حيث أصبح منظر الاحتجاج بشوارع المدينة من المظاهر المألوفة، بل تقليدا من التقاليد داخل المدينة، فقلما يمر أسبوع دون أن تشهد المدينة مسيرة احتجاجية، خاصة أن حركة عشرين فبراير هي الأخرى كانت تفضل أن تركز مسيراتها الاحتجاجية بشوارع أزقة المدينة. صراع من كل الجنسيات تكاد تتحول مدينة انزكان إلى مدينة دولية باستقطابها مجموعة من الجنسيات، خاصة الإفريقية منها، انزكان.. التي تحولت إلى وجهة مفضلة لبعض السينغاليين والقادمين من وراء نهر السينغال ومالي والذين تقطعت بهم السبل، بعضهم تحول إلى باعة متجولين وآخرون وجدوا ضالتهم في هذه المدينة فجعلوا منها وجهة تجارية لكل البضائع المهربة القادمة من جنوب الصحراء، ومن حين لآخر تنشب معارك بين هؤلاء الباعة المتجولين الأفارقة وبين نظرائهم المغاربة حول مواقع العرض أو بسبب خلافات حول بعض البضائع، مما يحول ساحات العرض العمومية إلى مسرح للمعارك تشتعل لوحدها وتهدأ لوحدها دون تدخل من أي جهة أمنية أو غيرها ليعود الجميع إلى عمله كأن شيئا لم يكن، مما يؤشر على تعايش التجار مع هذه المعارك التي أضحت طقسا من طقوس هذه الأسواق المنتشرة في كل مكان من المدينة.
الأمن والصحة أولا..
كشفت الدراسة ذاتها، والتي سبق أن أجراها المجلس البلدي أن الاختيارات ذات الأولوية لدى سكان مدينة انزكان تتمثل أساسا في توفير مركز للشرطة بنسبة 14 في المائة متبوعا بالحاجة إلى حديقة للألعاب بنسبة 13,5 في المائة ومركز صحي بنسبة 8,10 في المائة، مما يؤشر على الحاجة الملحة للأمن داخل المنطقة التجارية، خاصة أن المنطقة تتجمع فيها مجموعة من العوامل غير المساعدة على توفير الأمن، كالبطالة وغياب فضاءات يمكن للشباب أن يملأ بها أوقات فراغه وكذا بعض الفضاءات المساعدة على تخفيف التوتر الاجتماعي والعنف المصاحب له، كما أن الفئات الأكثر إلحاحا على الأمن، حسب الدراسة، مكونة من العمال وأصحاب الحرف والعاطلين ونسبة مهمة من الموظفين، خاصة أن المنطقة تعتبر المركز التجاري النابض للمدينة فضلا عن وجود المحطة الطرقية والكثافة الكبيرة التي تميز هذه المحطة التي تربط المدينة بجميع الاتجاهات في المغرب وتعتبر الممر الوحيد للقادمين من الصحراء والمتجهين إلى شمال المملكة وفي الاتجاه المعاكس أيضا. من الصراع إلى الشراكة من النتائج التي خلصت إليها الدراسة أن المقاربة التشاركية في تدبير الشأن المحلي تعد من بين الضمانات الأساسية لإنجاح ما يتم إنجازه من مشاريع تنموية داخل المدينة، خاصة أن مراحل البحث الميداني كشفت عن وعي السكان بحاجياتهم الأساسية، وهو الأمر الذي يؤكد الحاجة الماسة، حسب البحث ذاته، إلى ممارسة ديمقراطية مواطنة، كما أكدت الدراسة أن الاستجابة إلى حاجيات السكان تحتاج إلى مقاربة شاملة نظرا لأن كل عنصر منها لا يتحقق إلا في إطار تكاملي في أفق إنجاز كل ما يمكن أن يحقق الأمن العام الجسدي والنفسي والاجتماعي لسكان هذه المدينة العجيبة.