السنوات والأشهر والأسابيع والأيام ليست وحدات لقياس زمن تجري مياهه في نهر أبدي لا نملك تغيير مجراه.. الزمن حبات تنزل من ساعة رملية، لها بداية ولها نهاية.. ومع كل حبة تنزل إما نكسب وإما نخسر.. إما نستغل فرصا أعطتنا الحياة إياها أو نهدر آمالا كانت بأيدينا وصارت وراء ظهورنا... أسوأ شيء في المغرب أننا لا نقدر قيمة الزمن ولا ندخله في حساباتنا.. العطب الذي لا نصلحه اليوم يصير معضلة غدا.. والمطلب الذي نتأخر في الاستجابة له، يصير مشكلة غدا.. والجرح الذي يحتاج إلى الدواء اليوم، يصير ورما غدا يتطلب عمليات جراحية معقدة... 2009 سنة الانكسارات بامتياز... لم يكن أشدنا "تشاؤما" يتصور أن هذه السنة ستعرف كما هائلا من التراجعات وعلى كل المستويات... لنبدأ بالأحداث والوقائع الأكثر سوداوية... ميلاد حزب الدولة: ما كان سنة 2008 مجرد تخمينات، صار سنة 2009 حقيقة صادمة. فؤاد عالي الهمة الذي كانت يده، ولاتزال، في طنجرة "القرار الملكي"، صار له حزب وفريقان برلمانيان ومواقع حساسة في الدولة ونفوذ سياسي لا تخطئه العين... فاز بالمرتبة الأولى في أول انتخابات يدخلها.. وكأنه حزب سري يشتغل في خلايا نائمة، ومرة واحدة خرج إلى العلن فاكتسح صناديق الاقتراع... نعم المشهد الحزبي بائس، وخوف جزء من الدولة من النفوذ المتزايد للإسلاميين حقيقة قائمة، والتواصل ما بين الأحزاب والقصر شبه معطل... لكن ولادة حزب من رحم السلطة لا يحل المشكلة بل يعقدها.. إنه يزرع ورودا جميلة في حقل قاحل، ولكنها ورود بلاستيكية... الآن الحزب قائم، والقصر أعطى ضوءه الأخضر لحركته... فما هو برنامج هذا الحزب؟ وكيف السبيل إلى جعله "حزبا عاديا" ونزع إمكانات الدولة من يده، والسماح للتجربة الحزبية الفتية بأن تتطور وأن تنمو إلى أن تصير الأحزاب شريكة في الحكم وليس مجرد خادمة في القصر... الجواب ليس سهلا. إذا ابتعد الحزب عن الدولة سيموت، وإذا بقي لصيقا بها سيصير جزءا من السلطة، وفواتيره ستذهب مباشرة إلى القصر... ما هو السبيل للخروج من هذا المأزق؟ مذبحة الصحافة عاش المشهد الصحفي هذه السنة أقوى لحظات جزره العام. الدولة نزلت بكل ثقلها على أكثر من سبع صحف.. اعتقلت البعض، وأقفلت مقرات آخرين، وأثقلت كاهل الجميع بسنوات من السجن وملايين من الغرامات. في هذه المعركة استعملت الدولة القضاء كذخيرة حية وفعالة.. قصفت بيوتا هشة بطبيعتها لعدد من الأقلام التي تصنف بأنها مزعجة، وأن نقدها لا يقف عند باب عباس الفاسي ووزرائه، بل وتمتد بأعناقها إلى داخل القصر. كان الجميع ينتظر أن يتدخل الملك محمد السادس في اللحظة الأخيرة ويعفو عن الصحافيين، وأن ترجع المياه إلى مجاريها ولو مؤقتا... لم يتدخل الملك وترك السكين يخترق اللحم لكيّ عدد من الصحافيين (العبد الضعيف وزميله خالد كدار والزملاء: إدريس شحتان، حسن العلوي، علي أنوزلا، بوبكر الجامعي، وآخرون...)، كانت الرسالة واضحة: زمن "التسامح" انتهى، وعلى الصحافة المستقلة أن تراجع حساباتها، وتعيد رسم دائرة جديدة لحركتها.. دائرة فيها ثلاثة ألوان.. اللون الأخضر هو اللون المتعلق بالحكومات والأحزاب والنقابات.. هنا الطريق مفتوحة والسرعة غير محدودة. اللون البرتقالي: قرارات الملك وسياسات المحيطين به، وهنا وجب الحذر وتقليل السرعة والاستعداد للتوقف... اللون الأحمر: الحياة الخاصة للملك أو التجرؤ على الاقتراب من الطابوهات، وهنا ممنوع التحرك إلى إشعار آخر... المشكل هنا ليس فقط حكاية الألوان الثلاثة، وما إذا كانت خاضعة للقانون ولمقتضيات حرية الرأي والتعبير. المشكلة قائمة في اختلاط الألوان الثلاثة في كثير من الأحيان إلى درجة يصعب التمييز بينها، وتصبح الممارسة الصحافية تجوالا فوق أرض ملغومة في ليل حالك.. لا تدري متى تنفجر الأرض من تحت قدميك... هذا الوضع الملتبس استُغل من قبل عدد من المشتغلين في المحيط الملكي لاكتساب "حصانة" تجاه أي نقد صحافي لهذه الذوات التي صارت مقدسة، وهنا أصبح الدفاع عن الملك شعارا تختبئ تحته حسابات أخرى لشخصيات تستعمل الرموز الوطنية ذراعا ضد العمل الصحافي... كيف السبيل للخروج من هذه الوضعية؟ مرة أخرى لا توجد وصفة جاهزة.. تحتاج الدولة إلى وضع تصور واضح ودقيق عن نوع الصحافة التي تريد، ويحتاج الجسم الصحافي إلى وقفة صارمة مع الذات لتحصينها من تجاوزات "الطفيليين" ومن بطش السلطة ومزاج الدولة المتقلب. الحكومة مسجلة تحت عنوان "مختفون" لا توجد حكومة في المغرب بالمعنى الكامل للمؤسسة التنفيذية. هناك موظفون كبار يجلسون على كراسي الوزراء، ولكنهم لا يمارسون سلطة القرار.. إنهم معاونون للسلطان الذي يظهر، كل مساء، في نشرة التلفزة الرسمية يجوب البلاد طولا وعرضا، محاولا أن يرقع خارطة الفقر والتهميش والحرمان... عدا هذا، يعرف الجميع ضعف عباس الشخصي والسياسي معا، فالانتخابات التي أوصلت الحكومة الحالية لم يشارك فيها سوى 20 %، وأول حزب لم يحصل على أكثر من نصف مليون صوت من أصل 14 مليونا كان يحق لهم الإدلاء بأصواتهم في آخر انتخابات تشريعية، والأحزاب المشاركة في الحكومة بلا برنامج يجمع شتاتها سوى المحافظة على المنصب، والدستور المعمول به هو ذلك الذي وضع أسسه الحسن الثاني سنة 1962. ومع كل الرتوشات التي أدخلت عليه، مازالت بنوده تمنع اقتسام السلطة أو انبثاق شرعية ما من صناديق الاقتراع... مرة أخرى لا توجد حلول سحرية.. أحزاب الحركة الوطنية تعيش شبه موت إكلينيكي، ورغم جهود الإسعاف التي تمت، لم تظهر بعد أي مؤشرات على استعادتها الوعي بدورها، وخاصة حزب الاتحاد الاشتراكي الذي كان دائما حاملا لمشعل الأمل في مغرب ديمقراطي... ليس العيب فقط في الأحزاب، فالنظام السياسي هو أيضا مساهم في جريمة قتل شركائه.. اليوم مثلا عوض إدماج الإسلاميين في الحياة السياسية يجري إقصاؤهم وعزلهم بطرق سلطوية. وعوض أن تصبح جهودهم موجهة نحو التأطير والاقتراح والإعداد لسياسات عمومية بديلة، أصبح هاجسهم الأول هو الحفاظ على وجود حزب لهم فوق مسرح هامشي... لقد فات أوان حل حكومة عباس الفاسي وإعادة تشكيل حكومة جديدة... الآن نحن سائرون إلى "حكومة البام" سنة 2012... ما لم تقع أحداث جديدة تغير هذه الخطة... سنرى هل صدمة 2012 ستعيد الإحساس إلى الجسد الحزبي المخدر.. سنرى. أجندة 2010 إذا ما استبعدنا السيناريوهات "المتشائمة"، وسمحنا لبعض التفاؤل أن يحلم بسنة أفضل من السنة الماضية، كيف ستكون أجندة 2010؟ أولا، البلاد التي عاشت على أمل أن تكون استثناء وسط غابة السلطويات العربية، أصبحت اليوم مهددة بالنزول إلى خانة تونس أو الجزائر أو مصر... وهذا خطر كبير على بلاد لا نفط فيها ولا غاز، ولا تبعد بأكثر من 12 كيلومترا عن أوربا، وتعتبر أن مستقبلها في الشمال وليس في الجنوب.. شريك المغرب الأول هو أوربا أيا السادة، وأوربا اليوم قارة شبه موحدة، غنية وديمقراطية وتعددية، ولا يمكن أن تقبل بشريك سلطوي وفقير ومهدد في استقراره، أيا كانت الخدمات الأمنية التي سيقدمها هذا الشريك لأوربا... ولهذا، لا بد من إعادة توجيه بوصلة القرارات الاستراتيجية في مملكة محمد السادس. أوربا التي أعطت المغرب ورقة "الوضع المتقدم" ستجري له اختبارات سنوية لتتأكد من مدى أحقيته لهذه الجائزة.. لا توجد هدايا بلا مقابل في السياسة. الاستثناء المغربي مهدد، والمكتسبات غير محصنة، والتراجع إلى الوراء فرضية قائمة دائما... لا بد من بناء مؤسسات جديدة لتحصين المكتسبات وجعلها نهائية وليست ظرفية ومؤقتة... وهذا ورش كبير يبدأ بدستور جديد، ويمر عبر توزيع أكثر عدلا للسلطة والثروة، وينتهي عند خلق سلط مضادة لكل سلطة قائمة... حكم الفرد خطر على الديمقراطية مهما كانت نوايا هذا الفرد طيبة، والمغرب ليس استثناء في تاريخ البشرية الذي يعلمنا أن الطريق نحو التقدم يمر، حتما، عبر الحرية والعدالة والديمقراطية وحكم القانون والتعددية والشراكة في السلطة... توجد عشرات وسائل النقل نحو التقدم، لكن هناك طريق واحد هو طريق الديمقراطية، والجميع مجبر على المرور منه، سوى إذا كان هدفه وجهة أخرى.. فهذا كلام آخر، لا يقع داخل خانة التفاؤل بسنة جديدة.