بدل الإلحاح على المريض للبَوْح، انتهج فرويد طريقة التداعي الحر لحث المريض على الاسترخاء والاسترسال في الكلام مهما كان المنطوقُ تافها. وإذا كانت هذه الطريقة قد أفلحتْ كطريقة علاج ناجحة، وفتحت أبواب علم النفس والتحليل النفسي على مصرعيه، فالأمر لم يفلح بخصوص التداعي الحر لمخططات ومشاريع إصلاح المنظومة التعليمية في المغرب. كما في كل عام، تشهد المراكز المغربية لمهن التدريس وتكوين الأطر التربوية إضرابا مفتوحا، بسبب التأخر غير المبرر في صرف منح الشهور المنصرمة، في ظل ظروف تدريبية وتكوينية غير ملائمة، بدأ بالهشاشة التي تعرفها مراكز التدريب، على مستوى المرافق وسوء الخدمات وضعف التجهيزات، مرورا بهشاشة الأستاذ المتدرب المادية وقلة ذات اليد، في حالة غريبة من لا مبالاة الجهات المسؤولة، وتماطلها غير المبرر في تمكين المتدرب من أبسط حقوقه وهي منحته الشهرية، على ما بها هي الأخرى من هُزال وهشاشة. منذ الاستقلال إلى يوم الناس هذا، ومشاكل التعليم في المغرب قائمة لا تراوح مكانها، سنتان بعد استقلال المغرب أُحدثت اللجنة الملكية لإصلاح التعليم سنة 1958، بعدها بسبع سنوات أقرت حزمة جديدة من الإصلاحات تمثلت في المخطط الثلاثي 1965، تلاها بعد ذلك المخطط الخماسي سنة 1968، استمر إلى سنة 1972، لم تفلح هذه المخططات في النهوض بمستوى التعليم في المغرب، كما لم تفلح كذلك في الحد من تفاقم مشاكله، فتم استنساخ مخططات إصلاحية جديدة من حيث الصيغة، مستهلكةٍ من حيث الآليات والتدابير. جاء المخطط الخماسي الجديد سنة 1973، وتلاه المخطط الثلاثي الجديد سنة 1978، كل هذه المشاريع و المخططات لم تحقق الأهداف المرجوة منها، ولم تحرز أي تطور في قطاع التعليم، ورغم ذلك لم يتوقف ميزاب المخططات والمشاريع من التدفق، ومع مطلع التسعينيات تم نهج ما يسمى بسياسة التقويم الهيكلي التي زادت الطينة بلة وغاص بسببها قطاع التعليم الهش في وحل التخلُّف والتأزم والهشاشة الى الرُّكَب، واستمر الوضع على ما هو عليه من تأزم إلى حدود سنة 2000، ليطلق المغرب مشروع إصلاح جديد سمي بالميثاق الوطني للتربية والتكوين، الذي لم يحقق أي نتيجة تذكر ليتم إنشاء المجلس الأعلى للتعليم سنة 2008، الذي أقر ما يسمى بالمخطط الاستعجالي (2009/2012)، وفي المحصلة وبعد كل هذه المشاريع والمخططات وإنفاق ما يقارب من 6% من الناتج الداخلي الخام أي حوالي 37 مليار درهم (2008)، ومن كل هذه الإصلاحات والمشاريع والميزانيات التي أهدرت على قطاع التعليم، كانت النتيجة، تصنيف المغرب ضمن ال21 أسوأ دولة في مجال التعليم في العالم إلى جانب الصومال وجيبوتي واليمن. وعلى قول الدكتور فيصل القاسم ( لي بِيْجرّب المْجَرِّبْبِيْكون عَقْلُو مْخَرّب)، وما دمنا نجرب نفس الوسائل ونفس الآليات وبنفس العقلية، فالنتيجة حتما ستكون هي نفسها وليس شيئا آخر. للمتفائلين الذين يتساءلون عن الحل ؟؟ الحل الحقيقي لأزمة التعليم يكمن في توجيه دفة الإصلاح ناحية (المعلم والمتعلم)، وبدرجة أخص المعلم (الاستاذ). فالمعلم هو المنوط به تكوين الأطر المؤهلة التي تضطلع بمهامها المتمثلة في تحفيز روح المواطنة، والتشجيع على الخلق والإبداع والتجديد والتنمية والتطور والانفتاح على العالم من خلال المدرسة، وهذه المعاني العظيمة والغاية السامية لا يمكن أن يمنحها أستاذ متسول غارق في الديون، ومهموم بمشاكل الحياة ومتطلبات العيش،وتسديد أقساط البيت والسيارة، و… إن مهمة الأستاذ، لا تقتصر فقط على التعليم باعتباره وظيفة أو عملا، إنها مسؤولية عظيمة تتمثل في رفع مستوى المتعلم فكريا ووجدانيا، وجعله عنصرا فاعلا وطاقة تساهم في نهضة الوطن ورفاهيته وازدهاره، ولا لا يتأتى في حالة الفوقية التي تتم بها مشاريع إصلاح المنظومة التعليمية في المغرب. إن إهمال الركيزة الأساس وحجر الزاوية للهيكل التعليمي، المتمثل في (المعلم – المتعلم)، وصياغة المخططات والمشاريع في كوكب آخر خارج مجرّتنا، أو استيرادها من النموذج الفرنسي البالي، وإسقاطها على بيئة مختلفة تماما، أو طبخها في أروقة ومكاتب الوزارة،وتنزيلها على شكل مذكرات ودفاتر وخطاطات فهذا لن يحقق شيئا غير مزيد من هدر الجهد والمال والوقت،وتكريس تخلفنا العلمي والتعليمي على حد سواء، لابد أن يكون المعلم والمتعلم هو المنطلق والأساس في كل عملية إصلاح جادة. فبغير الاستثمار في العنصر البشري لن يتحقق شيء، والدول التي كانت متأخرة عنا بعقود إلى الأمس القريب، تفوقت علينا اليوم، وبأشواط كبيرة جدا،بل حتى الدول التي لم تكن قبل سنة 1970م، تجاوزتنا بكثر، لا لشيء سوى لأنها استثمرت في ثروتها البشرية لتعوض بها عن قلة مواردها الطبيعية (ماليزيا إندونيسيا …). إن الدول التي تحترم نفسها هي التي تحترم مربي أجيالها، وباني سواعد نهضتها، وتوفر له الظروف الملائمة ليتفرغ إلى مهمته السامية ورسالته الوطنية، أما ما تتبناه الوزارة المعنية من تدابير ومخططات، فما هكذا تورد الإبل يا سَعْد.