لاحاجة هنا لكثير التفلسف، ولا للفذلكة بالمصطلحات المتعالمة، ولا للتنقيب في المنجد عن العبارات... المجرمة التي أحرقت العلم الوطني في تظاهرة السبت في باريس أحرقتنا جميعا. أحرقت هويتنا، أحرقت انتماءنا المشترك. أحرقت انتسابنا لبعض الأشياء التي لازلنا نعتقد أننا نشترك مع الناس فيها. أحرقت المغاربة وقالت لنا بالصوت الصريح وبكل وقاحة: « أريد إبادتكم، الحقيقية لكنني لا أستطيع لذلك سأفعلها رمزيا ». وكذلك كان الذين كانوا يطرحون السؤال إبان مظاهرات الحسيمة حول غياب العلم الوطني، لم يكونوا يفعلون ذلك على سبيل « الشدان الخاوي » في المتظاهرين أو في القيادات التي تقود المتظاهرين. كانوا يطرحون سؤالا حقيقيا يعني لهم الجواب عنه كل شيء. كانوا يريدون توضيح الغامضات، والغامضات الملتبسات في كل ماجرى في الحسيمة كانت كثيرة ودون عدد أو حساب... قيل لنا يومها على سبيل الرد الغبي فعلا : إن العلم الذي تلتحف به الراقصات والمغنيات هو علم لا يشرف أحرار وحرائر الحسيمة أن يرفعوه. هكذا تحدث الزفزافي الصغير أي ناصر يومها، وهكذا صادق الزفزافي الكبير الصامت اليوم - رغم لايفات الفيسبوك المحزنة - عن إحراق العلم أي أحمد، وهكذا قال له من يتبعون كلامه دون أن يفكروا فيه « آمين ». قلنا يومها : هذا كلام خطير، ينم أولا عن احتقار للفن والثقافة، وهذه مسألة غير مستغربة من شاب بمستوى تعليمي جد بسيط مثل ناصر، وبعقل غير قادر على التفكير السوي والسليم (وهذه اتضحت في تطور الأشياء فيما بعد) لكن الأمر ينم عما هو أخطر : الناس لا تتقن التمييز بين الأشياء، والذين يخرجون وهم يرفعون شعارات كبرى لا يعرفون الفرق بين العلم والوطن والرمز والبلد وبين بقية الاختلافات السياسية التي تقبل كل الجدل وكل الصراخ وكثير التناحرات » قال القائل يومها بكل وضوح: « دعوكم منهم، إنهم يريدون أشياء أخرى لكنهم لا يجرؤون على التصريح بها لأنهم يعرفون أن ميزان القوى ليس في صالحهم، لكن الصب تفضحه عيونه، وكل مايقوم به هؤلاء يعني أمرا واحدا لا غير، وهو أمر جلل وأمر خطير ». قال الصادقون الحقيقيون الذين يصفهم المتكلمون الأبديون بأقذع الأوصاف: « لا داعي للتسرع واتهام الناس بأمور خطيرة. لن نقول انفصاليين، ولن نقول إنهم يرفعون علما لا يعرفه المغاربة، ولن نقول إنهم يرفضون رفع العلم المغربي. سنقول فقط إنهم غاضبون ولا يدركون خطورة مايفعلون ». يوم السبت الماضي في باريس كان الواقفون في ساحة لاباستيي يعرفون جيدا مايفعلون. لم يسارعوا لانتزاع العلم من يد المجرمة التي كانت تحرقه. لم يصفروا إدانة لها، لم يحتجوا لم يصرخوا. صفقوا، صوروا ماصوروه بهواتفهم النقالة الذكية الموجودة بين أيدي غبية كثيرا ومضوا لحال سبيلهم وهم يعتقدون أنهم بالفعل نصروا شيئا ما. في اليوم الموالي مع نشر صور العلم وهو يداس بالأقدام، ثم بعد ذلك يتعرض للإحراق، فهم المراهقون سياسيا أنهم لم ينصروا شيئا وأنهم فقط نشروا غباءهم على أكبر صعيد. استوعبوا أنهم أساؤوا إلى أنفسهم أولا، وأساؤوا إلى معتقلي أحداث الحسيمة بأن ثبتوا عليهم تهمة ظلوا ينفونها دوما ثانيا، وأساؤوا إلى كل من اعتقد ذات يوم أنهم يفهمون هذا الذي يتورطون فيه بالتحديد.. أما البلد فلم يسيئوا له لأنهم غير قادرين على هاته الإساءة. البلد ظل دوما عصيا على أن يتعرض لأي إساءة من طرفهم لأنهم أصغر من البلد بكثير. لانراهم لا بالعين المجردة، ولا بالميكروسكوب، ولا نريد رؤيتهم إطلاقا لأننا « عايقين ليهم بالملعوب » جيدا، واقتنعنا منذ اللحظة الأولى أن الحكاية لاعلاقة لها بمستشفى للسرطان ولا بطرقات أخري يجب أن تضاف للطرقات ولا بإصلاح أوضاع اجتماعية ولا بتشغيل فوري ولا بأي شيء من كل هذا الكلام الحكاية كانت تريد أشياء لم تستطعها. لكن الحكاية اصطدمت بسقف البلد القوي المؤسس على الحديد وعلى إيمان الناس بهذا البلد. ثم يجب أن نفهم مسألة أخرى أكثر أهمية من كل هذا الكلام: المغربي ذكي، لماح، نابغة لايحب من يستغفله، لذلك قد يذهب معك إلى أبعد من البعيد، حين تقول له قرارة ماتريد حقا، حين تصارحه، حين يكون شعارك مطابقا لمرادك الفعلي. يتبعك حينها إذا ما ااقتنع، لأن المغربي لم يكن أبدا جبانا ولنا في تواريخ النضال في هذا البلد الدلائل والأمثلة الكثيرة أما في حالة العكس، أي في حالة الاستغفال، في مرحلة جر المغربي معك إلى حيث تريد دون أن تقول له الحقيقة، يتركك هو « فالدورة »، ويمضي. يقول لك « حاولت المقامرة مع شعب لا يجب أن تقامر معه، لأنه يعرف كل فنون البلوف (bluff) بل هو الذي اخترعها، والآن عليك أن تؤدي ثمن مقامرتك الخاسرة معنا, لأنك كذبت علينا, وقلت لنا إنك تريد مصالحنا الاجتماعية، مع أنككنت تريد أشياء أخرى لم تبح لنا بها على الأقل لكي نقول لك إن كنا موافقين أم أننا نرفض ». المقامرة مع شعب لايمتلك إلا بلاده ووطنه وانتماءه لهذا البلد ولهذا الوطن أمر سيء للغاية، يرتد دوما وأبدا على من يقرر خوض هذا القمار، ومن يتجرأ على هاته المقامرة... درسنا المغربي الأول علمنا هذا الأمر منذ أتينا، ومنذ سمعنا التكبير في آذاننا قبل أن نستطيع فتح الأعين على زرقة سماء هذا الوطن، والعلم الأحمر بنجمته الخضراء يضيء لنا الطريق رغم كل شيء، ويذكرنا عبر صوت الأجداد ومن سبق الأجداد إن الحكاية في هذا البلد الأمين لم تبدأ بالأمس فقط، وهي غير مستعدة نهائيا للانتهاء