تلجأ أعداد متزايدة من النساء في المغرب إلى مهن كانت في عهد قريب مرفوضة إما لصعوبة ممارستها، أو بسبب احتكار الرجال لها. غابت عنها النساء بشكل كلي. اللجوء إلى مثل هذه المهن، يكون إما للتغلب على مصاعب الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وإما لإثبات الذات، خصوصا أن بعض هاته المهن لا تتوافق وتكوينهن الفيسيولوجي، حسب تصور المجتمع، وأبرز مثال على ذلك جهاز الشرطة. تتوشحن بلون أزرق قاتم، لون يطبع يومياتهن باعتبارهن في مجال الأمن بالمغرب. مسؤولية لم تعد حكرا على الرجل فقط منذ زمن خلا، فقد يخاطرن بحياتهن مقابل أمن وحياة المواطين، إذ يخضعن لخطوط حمراء لا يمكن تجاوزها، ويعتبرن علبة سوداء. هنا لا مجال للخطأ والإهمال والتهاون، إنهن نساء الشرطة. فإلى وقت ليس ببعيد، كانت التاء المربوطة علامة التأنيث الوحيدة في «الشرطة»، إلى أن قررت النساء كسر «تذكير» هذا المجال. في التدريبات كما في الميدان، كسرت المرأة المغربية حاجز الفصل بينها وبين الرجل، وأثبتت نفسها ندا عنيدا في أداء مهمة ليست ككل المهام، كانت في ما مضى حكرا على الرجال، مهمة، الفاصل فيها بين الحياة والموت خيط رفيع. إعجاب واستغراب نظرات المارة والسائقين تعلن إعجابا بمشهد قل ما يتردد أمام أنظارهم في الشارع. إنها فدوى دراجية بولاية أمن الدارالبيضاء تندفع فوق دراجتها النارية الكبيرة الحجم، وسط السيارات، مرتدية قميصا وسروالا بزرقة قاتمة وحذاء أسود. هذه البذلة التي تخفي الكثير من معالم أنوثتها، هي زيها الوظيفي الذي تفرضه المديرية العامة للأمن، تراه فدوى مفخرة لها. تختلط صافرة فدوى بصوت السيارات، وهي تلوح بيدها لسيارة تدعوها للوقوف أقصى اليمين، وهو الأمر الذي لم يناقشه سائق السيارة، فتوقف حيث أمرته الشرطية فدوى. بعد التحية وتفحص أوراق السيارة، انخرطت في اتخاذ الإجراءات اللازمة. «كتجيهم شوية صعيبة حيت كيشوفو امرأة فوق دراجة من حجم الكبير ماشي ساهلة، ماشي فحال الراجل حاجة عادية. وبالأخص فاش يشوفوك تابعة شي مخالف. ولكن الناس فهموا بلي المغرب تطور ومابقاوش دوك العقد، والحمد لله كلشي مزيان مع المواطن». هكذا باشرت فدوى حديثها، ووجهها تعلوه علامات الرضى عن التطور الذي تلحظه في عقلية المجتمع المغربي، خاصة بعد الرفض التام الذي كان يواجه المرأة من قبل المجتمع، في حال اقتحمت مجالا من الميادين التي كانت حكرا على الرجال. تسترسل فدوى في حديثها وعلى شفتيها ابتسامة عريضة قائلة: «بعض المرات كاع كيجيو عندي دراري، ونساء كبار، ورجال يوقفو معايا يسلمو عليا، ويعبرو على الإعجاب ديالهم والتنويه ديالهم بالمرأة في هذا المجال». كلام فدوى يدل على أنها استطاعت وباقي زميلاتها من نساء الأمن، تغيير النظرة التقليدية لدى البعض عن مجال الشرطة بصفة عامة، وعن اندماج المرأة في هذا المجال بصفة خاصة. بل واستطاعت كسب حبهم وودهم واحترامهم. هي نموذج للمرأة المغربية التي نجحت بفضل الكفاءة المهنية والشخصية الطموحة في إثبات قدرات النساء على العمل الجاد والمسؤول والعطاء. صحيح أن هناك فئة تقدر المرأة في هذه المهنة، وتعاملها بنوع من اللباقة والاحترام، وأن المغرب عرف تطورا من هذه الناحية، لكن هذا لا يمنع من وجود فئة مازالت غير معتادة على وجود امرأة شرطية في الشارع بصفة عامة، ما بالك بامرأة شرطية تمتطي دراجة نارية تفوقها حجما. حتى لو تظاهرت هذه الفئة بتقبلها، إلا أنه يبقى هناك رفض دفين لديها، وهو ما أكدته فدوى قائلة: «فاش كيكون ضروري أنك تبعي شي واحد باش تجيبي البيرمي أو لا ديري شي إجراء، بمجرد ما توقفي عليه وتعطيه التحية وطلبي الوراق، هو كيتدهش، كيقول ليك كيفاش زعما دراجية وبنت تابعاني حاجة ماشي مألوفة». «سيرو ربيو أولادكم، وانتوما وليتو معمرين الشارع»، كلمات رماها شاب طائش وهو على دراجة نارية، أثناء حديثنا مع فدوى، هذه الكلمات تختزل موقف البعض الرافض لتحرر المرأة. نجاح مهني… ولكن بمكتب خلية العنف ضد النساء بولاية أمن الدارالبيضاء، تجلس امرأة ملأ وجهها جروح وكدمات، أو طفل منزو داخل قوقعة، بناها لنفسه ليحتمي فيها من قسوة الزمن، بعد ما تعرض له من تعنيف أو هتك عرض. من بين هذه المشاهد، للرجل المعنف أيضا حصة داخل هذه الخلية. استطاعت سارة عميد شرطة ورئيسة خلية العنف ضد النساء، أن تملأ ثغرة في مجال الخدمات المقدمة للمواطنين بصفة عامة، والمواطنات بصفة خاصة، وأن تكون الأذن المصغية لشكاياتهم. دعم العائلة لها جعلها تحقق ما كانت تصبو إليه، فتحدت الصعوبات وأثبتت الذات. ورغم الوقت الذي تخصصه لعملها، استطاعت أن توفق بين حياتها المهنية والعائلية، بل تفوقت في ذلك، حيث تقول بابتسامة تختزل علامات الرضى والامتنان: «ضروري كاين فرق بين سارة في الخدمة وسارة في الدار، كندخل الدار كنحاول ننسى الخدمة شوية ونقوم بالدور ديالي كزوجة وكأم، وباش نحقق هذه المعادلة الصعبة في هذا المجال ضروري من المساندة ديال الأهل وخاصة الزوج ديالي». لرؤساء سارة أيضا دور ريادي في مساعدتها على التوفيق بين حياتها الشخصية والمهنية. فالتشجيع الذي أصبحت تحظى به المرأة الشرطية من قبل رؤسائها وزملائها من الرجال، يبعث فيها روح المثابرة ورغبة أكثر في النجاح، الشيء الذي يجعلها تعمل بكل أريحية، وهو ما ينعكس إيجابا على حياتها الشخصية، حيث تقول سارة: «بالطبع كاين التأطير ديال الرؤساء لي كينوهو بالمرأة الشرطية، وكيحاولو يساندوك نفسيا باش تقدري توفقي بيناتهم بزوج». في المقابل، نجاح الشرطية سميرة في حياتها المهنية لم يكن كذلك في حياتها الشخصية، حيث تقول وهي متأسفة: «اضطريت نتفرق مع راجلي، حيت كان كينتاقد خدمتي بزاف،الشيء لي انعاكس سلبا على حياتنا الأسرية، وكان الطلاق هو الحل». فرحة مجهضة، تلك التي أحستها سميرة، وتحسها أي امرأة لم تكتمل فرحتها بنجاحها المهني. عيناها المتعبتان وهي تحكي لنا قصة طلاقها بسبب عملها، كانتا تخفيان رغبتها الشديدة في استمرار علاقتها الزوجية. نظرات وقلب متحسر أيقظ الأنثى الدفينة في الشرطية سميرة. فرغم محاولتها التظاهر باللامبالاة، كانت حركة يديها وهي تدير يمينا ويسارا الخاتم الذي وضعته في أصبعها، وتلك الابتسامة التي رسمتها على شفتيها، تعكس الفراغ الذي تركته علاقتها الزوجية في حياتها. لكن برباطة جأش شرطية سرعان ما لملمت نفسها، لتستأنف الساعات القليلة التي بقيت لها من دوريتها. وجود صعوبات في التوفيق بين الحياة المهنية والشخصية، قد لا يكون سببه دائما هيمنة العقلية الذكورية، فقد يكون خوفا، يجعل الأسر المغربية ترفض بشكل قطعي أي عمل قد يفرض على بناتهم الوجود بالشارع. هذا يعود إلى بعض الظواهر الاجتماعية التي يختزنها المجتمع في فضائه، والتي لم يطرأ فيها تغيير، إما بسبب ضعف القوانين، أو بسبب غياب آليات التأطير، ومن أسوأ هذه الآفات ظاهرة التحرش. حاجة أم تحد؟ دوافع امتهان النساء لمهن شاقة أو كانت مقتصرة إلى وقت قريب على الرجال، قد تكون اقتصادية أو اجتماعية من جهة، ومن جهة أخرى شخصية متعلقة أساسا بشخصية المرأة، التي ترغب في التحدي وإثبات ذاتها. سمية شرطية في مقتبل العمر أعلنتها صراحة: «الحاجة هي لي كتخليك تدخل لأي ميدان»، هكذا عبرت لنا سمية عن سبب دخولها إلى سلك الشرطة. فالمرأة في الغالب تكون مضطرة للعمل في هذه المهن، من أجل حفظ كرامتها وتأمين لقمة العيش لها أو لعائلتها، وبالتالي تحاول خوض غمار مهنة قبل الدخول إليها تكون نسبة التحمل فيها والتأقلم مع مناخها ضئيلة، إن لم نقل منعدمة. حديث سمية، عكس شغفها بهذه المهنة، إلى جانب الحاجة، تقول: «خرجنا حتى حنى فحالنا فحال الرجال، وكنديرو نفس الخدمة لي كيديروها وكنشوف راسي في هذه المهنة»، تحول نظرة سمية إلى مهنتها من الحاجة إلى الشغف، يبرز قدرة المرأة على التأقلم داخل أي ميدان. لكن هناك أيضا عوامل نفسية تقف وراء دخول المرأة معترك المهن التي ظلت لسنوات حكرا على الرجل، لعل أبرزها عامل التحدي وإثبات الذات وانتزاع الاعتراف من المجتمع بأنها الأجدر، ليرتبط اسمهن بصفات التميز والخروج عن المألوف والشجاعة والقوة، والقدرة على تحمل المسؤولية أكثر من بعض الرجال. «دخلت لهذه المهنة عن حب قبل خوض التحدي، حيت أنا عارفة راسي بلي غادي نثبته و ثابتاه و غادي نزيد نثبته مزال». في عيني فدوى يلمع شعاع تحد، ثقتها في نفسها تدفعها شيئا فشيئا نحو إثبات ذاتها أكثر. فهي ترى أن هذا العالم الذكوري لم يعد يسع الرجال فقط، بل استطاعت المرأة أن تجد لها موطئ قدم وجها لوجه مع الرجل. «باش نتبع شي مواطن بالدراجة وندير واحد الخطر براسي باش نشدو، هذو راه في حد ذاتو كافي ونتحدى بعض الرجال يديروها». التحاق فدوى بتخصص الدراجيات لم يكن وليد الصدفة، فهي قبل أن تكون دراجية، كانت ابنة دراجي. وحبها للدراجة كان أزليا، حيث تقول «ماعنديش مشكل مع الدراجة نهائيا، حيت المطور كان صاحبي قبل ما نلتاحق بالمجال شحال هذه، شي 15 عام». فدوى شأنها شأن الكثير من السيدات اليوم، بعزيمة وطموح تاء التأنيث ورغم النظرة الدونية التي تراهم بها أعين البعض، والتي يحكمها منطق العادات والتقاليد غالبا، استطعن كسر الحواجز، والمضي قدما. شرطية.. أم ومعلمة! تطبيقا لمبدأ سياسة شرطة القرب، وبعيدا عن الدور السلطوي والزجري لأجهزة الأمن، يظهر جانب آخر لهذا الجهاز داخل المجتمع، دور كفيل بتغيير النظرة التقلدية. فحتى وقت ليس ببعيد، كان المجتمع يرى في مهنة الشرطة والشرطي جهازا لقمع المواطنين، إن لم نقل إن هذه النظرة مازالت موجودة لدى البعض. لكن ثمة دور تربوي وتعليمي يقوم به هذا الجهاز من خلال تنظيم حملات تحسيسية بالمدارس التعليمية، هدفها تلقين التلاميذ والطلبة القوانين التي قد تساعدهم على تنظيم حياتهم، وتجنب العديد من الأخطار التي قد تلحق، بهم بسبب جهلهم لهاته القوانين. رجاء من بين الشرطيات اللواتي اعتدن القيام بمثل هذه الحملات، فهي وبالإضافة إلى أنها شرطية وأم لطفلين، أيضا يمكن اعتبارها معلمة. تقف رجاء أمام سبورة قسم إحدى المؤسسات التعليمية لتشرح للتلاميذ القواعد الأساسية للسلامة الطرقية، وتعيد على مسامعهم دون كلل معنى الرموز المثلثة والمربعة وألوان الإشارات الضوئية، وهي تمارس هذا العمل تلحظ في أعين التلاميذ نظرات حب واحترام، تجعلانها تشعر بقيمة العمل الذي تمارسه. رجاء اليوم هي مربية أجيال، داخل بيتها وفي عملها أيضا. قيام المرأة الشرطية بمثل هذه الأعمال لم يكن بمحض الصدفة، فطبيعة الأنثى حتى ولو كانت تتحلى بالصرامة، دائما تجعلها منبعا للعطف والحنان. تقول رجاء «فاش كيشوفو فتاة ولا أنثى هي لي كدير ليهم الحملات كيكونو مرتاحين، وحتى لي بغى يسول على شي حاجة ما كيترددش، وكنشوفو رغبة البنات حتى هما باش يدخلو لهذا المجال».