من المؤاخذات المسجلة على الفكر الإسلامي المعاصر أنه يغفل الجانب العقلاني في طريقة تعامله مع النص الديني، مكتفيا باستحضار قراءات تراثية، أو فهما متواضعا لظاهر النصوص الدينية دون رغبة في إعمال العقل وركوب مغامرة الاجتهاد التي كان عدد من أعلام المسلمين سباقا لها دون أن تلقى جهودهم الاهتمام اللائق داخل البيئة العربية مقارنة بما حظيت به من اهتمام لدى الغرب. الدكتور "فؤاد بن أحمد" أستاذ الفلسفة ومناهج البحث في دار الحديث ، كان له لقاء ضمن برنامج منارات على قناة العربية، ناقش فيه أسباب عزوف البيئة الإسلامية عن قبول الفكر الفلسفي من خلال التركيز على مثال ابن رشد، وفيما يلي أهم ما جاء في هذه المقابلة. حاول الجزء الأول من اللقاء وضع اليد على أصل أزمة التشدد المعاصر التي تعرفها الساحة الإسلامية، متسائلا عن الأسباب وراء تهميش فكر ابن رشد كإسم يحيل على العقلانية وحرية التفسير والتأويل للنص القرآني والديني. خلال رده على السؤال أشار الدكتور "فؤاد أحمد" أن ابن رشد اسم واحد ضمن عدد من الأسماء التي همشت داخل الحضارة الإسلامية دون أن تتاح لهم فرصة تلقي فكرهم من طرف أكبر شريحة من المسلمين، وذلك لأسباب تاريخية وسياسية لم تسمح بتهيئة البيئة المناسبة لاستقبال جيد لفكر ابن رشد في الغرب الإسلامي، خاصة بعد وفاته. إلا أن مسألة تهميش فكر ابن رشد لسنوات داخل البيئة الإسلامية، أصبح أمرا قابلا للإستدراك اليوم، نظرا لتقدم طرق ومناهج البحث وفق ما أشار له الدكتور فؤاد الذي اعتبر أن إمكانية البحث في تاريخ الرشدية أصبح متاحا اليوم بالنظر لوفرة إمكانيات البحث في تاريخ أعلام آخرين لم يستقبلوا جيدا، كابن خلدون، وابن الهيثم، والغزالي. أصول التكفير في الفكر الإسلامي يعد وجود السند الديني الداعم لفكر التيار التكفيري من المعضلات التي تعيق فكرة ثني هذا التيار بلا مشروعية تصوره عن الآخر، أو عدم ملائمة هذا التصور للحياة المعاصرة على أقل تقدير، ولعل الرغبة في تقوية حجج هذا التيار هو ما يترجم الانتقائية في التعامل مع أسماء معينة لازالت بصمتها حاضرة لليوم في مسألة التكفير، كالغزالي الذي قدمه السائل كواحد من السباقين إلى تكفير الفلاسفة. خلال جوابه عن هذا السؤال، استحضر أستاذ الفلسفة ومناهج البحث في دار الحديث حجم الأعمال الموجودة ضمن مخطوطات داخل المكتبات بانتظار من يخرجها للناس للتعرف على الفكر الحقيقي لهذه الأسماء، ومن ضمنها أعمال لتلامذة ابن رشد الموزعة على خزائن المغرب و إسبانيا، مما يظهر امتداد هؤلاء الأعلام، وعلى رأسهم ابن رشد الذي حظي باستقبال وحسن التلقي داخل أوروبا خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر، بعد أن تم إغفاله داخل العالم الإسلامي لظروف تاريخية وملابسات سياسية، كما يمكن القول أن طبيعة نصوصه في حد ذاتها قد كانت سببا في عدم انتشار فكره. لكن هناك شواهد تدل أن فكر وكتب ابن رشد رغم محدودية تداولها وفق ما هو رائج، كانت تدرس إلى حدود القرن السادس عشر بين صفوف الأسر الأندلسية قبيل سقوط الأندلس. وعن أسباب تغييب أصوات العقلانية وانتشار الفكر المتشدد، أشار "فؤاد بن أحمد" أن الأمر يتعلق أولا بدور الجامعات في نشر العلم أو في تحويل الناس من أميين إلى أناس يحسنون تلقي النصوص ولا ينغلقون على أنفسهم في دراسة تفرض عليهم بطريقة أو أخرى. لأنه من الصعب على المتلقي امتلاك أو اكتساب ملكات نقدية بطريقة فردية خارج المؤسسة الجامعية، التي تعد المكان المناسب لتعلم الباحث أدوات تعين على حسن تلقي النصوص وقراءتها وأخذ مسافة بينه وبين كل ما يستقبل، وكل ما حوله من نصوص تفرض ذلك الرأي أو ذاك. نسبية التأويلات والاختلاف فيها ضمن الفكر الديني نقطة أخرى في غاية الأهمية هو أن ابن رشد في كتابه المعروف بين أيدي الناس باسم" فصل المقال"، الذي يشير فيه إلى أنه لا وجود لتأويل حاسم حتى وإن كان تأويل يقوم به العلماء أو من يسميهم أهل البرهان ، فهؤلاء لا يصلون إلى تأويل نهائي لوجود عدد من الاختلافات، بمعنى أنه حتى بين التأويلات العلمية لا وجود لإجماع. و من هنا يستحيل تكفير من خرج عن الإجماع، لأنه يستحيل قيام إجماع حتى في المسائل النظرية. ولنفهم فكر ابن رشد الذي يتخوف منه البعض بسبب دعوته إلى الاجتهاد، يجب وضع الرجل في سياقه لأنه لا يدعو لفتح النص على كل التأويلات الممكنة كما يقول التأويليون المعاصرون، لكنه يقول أن التأويل النهائي غير ممكن، أو كما يقول بلغته لا يعمله إلا الله، أما نحن كعلماء لا يمكننا أن نصل إلى التأويل النهائي، هذا الكلام يعلمنا نسبية التأويلات والاختلاف فيها، وبالتالي فسح فجوة وإمكانية للتأويلات المخالفة من قبل أناس آخرين. وجدير بالذكر أن ابن رشد لم يكن له تحفظ على التأويل في حد ذاته، وإنما تحفظ على فكرة حمل الناس على تأويل بحد ذاته، فهذه قد تقرأ بأن ابن رشد كان محافظا أو سلفيا حتى في نظر البعض، لكنه كان يقول هناك فرق بين تأويل النص وبين حمل الناس على العمل بهذا التأويل. بمعنى أن هناك إمكانية لتبني مستوى معين من التأويل النظري، لكن المشكل يظهر عندما نحاول حمل الناس على تبني هذا التأويل ونقله من المستوى النظري إلى المستوى العملي، أو المستوى المدني الذي نصرح من خلاله أن هذا التأويل هو الأصح .. ولدى ابن رشد مثال في غاية الجمال فهو يشبه الشارع أو صاحب الشريعة الذي وضع دواء لكل الناس، فجاء شخص غير معتدل المزاج فأول في الدواء الأول وغير فيه حسب مزاجه، ثم جاء الثاني فأفسد الطبخة السابقة، وهكذا إلى أن أصبح الدواء لا يشفي أي أحد. هذا المثال كان عبارة عن تمثيل لكثرة الطوائف التي تعتقد أن تأويلها الذي تحمله هو التأويل الصحيح، والتأويلات الأخرى هي بمثابة التأويلات الفاسدة. دور المؤسسات العلمية في التشجيع على الاجتهاد في الرشدية الغربية هناك رشديات أيضا، مثلا عن طريق ابن رشد عرف الغرب أفكار فيلسوف قبله وهو المجدد ابن باجه الذي كان ينتقد رأيه حول الفيزياء الأرسطية، فتعرف الأوربيون على ابن باجة عن طريق نصوص ابن رشد الذي يرد عليها فنشأت داخل أوروبا تيارات ، تيار رشدي وتيار مناهض، لذلك نجد رشديات في الفيزياء والعقل. في العالم العربي الإسلامي حاول البعض استعادة هذا المفهوم لكن بالإساءة إلى قراءة نصوص ابن رشد والتجني عليها بتحميلها ما لا يطاق أما عن رأيه في علاقة النصوص القديمة التي صيغة ضمن بيئة تاريخية وسياسية معينة، بواقع التأويلات المتشددة التي تعرفها الساحة الإسلامية اليوم، فقد اعتبر أستاذ الفلسفة ومناهج البحث بدار الحديث الحسنية أن التفسير اليوم يستدعي استحضار أكثر من عقل للقيام به، ذلك أن النص الديني له مستويات لغوية، دلالية، عملية اجتماعية، سياقية … لذلك من لا يحيط بهذه السياقات والمستويات لن ينتج سوى تفسيرا مبتورا، وهذا ما يجعل الناس يميلون للتشدد اليوم. نجد أيضا المؤسسات التي غاب دورها في توفير جو مناسب ومشجع على التأويل أو التفسير الذي ننتظر أن يكون معتدلا ، هذه المؤسسات في نظري لا يمكن إلا أن تكون مؤسسات علمية وجامعية، فأنا لا أتصور أن يقوم اليوم تفسير خارج إطار المؤسسات العلمية وخارج دائرة أهل الاختصاص. المؤسسات معنية بتتبع مستوى الرأي ومستوى التصريح بهذا الرأي كأنه اجتهاد يروج له ، مثلا لي الحق أنا كشخص أن أتبنى تأويلا معينا لنص ما كما أشاء بيني وبين نفسي، لكن أن أحمل الناس عليه باعتباره التأويل الذي يفترض في الناس أن يعملوا به هذا أمر آخر لا يمكن أن تقوم به إلا مؤسسة " موضوعية" محايدة تتعالى على الأشخاص إلى حد ما، حتى لا نسقط في تأويل مغرض كيفما كان نوعه، فالأمر يتعلق بالمؤسسات الجامعية لأن النص يستدعي من الناس استعمال العقل، أو يفترض حدا معينا من التعليم حتى يتمكن المجتهد من قراءة النص. داعش وآيات الجهاد اعتبر الدكتور " فؤاد بن أحمد" أن الأسئلة المتكررة التي تطرح حول طبيعة العلاقة بين آيات الجهاد وتطبيقات داعش التي تعتبر نفسها ممثلة للإسلام، ذات طبيعة محرجة لعقل وضمير المتلقي، ذلك أن قبول التفسير رهين بالأشخاص، فالتساؤل عن من يمثل الإسلام يظهر في الصورة داعش إلى جانب عدد من الشيوخ لأنها تقول أنها أيضا تمثل الإسلام .. وهنا أتساءل كيف لنا أن نقول أنها لا تمثل الإسلام، بمعنى أننا مطالبون بإقناع الناس على أقل تقدير أن الأمر يتعلق بتأويل من تأويلات عدة لم تتح لها الفرصة ، لكن اليوم اجتمعت ظروف كثيرة جدا جعلت صوت داعش يرتفع ويسمع ويتلقى ويهضم وينتشر، لأن الآليات التي تتحكم فيها لا علاقة لها بالنص في حد ذاته، ولا علاقة لها بالمضمون في حد ذاته وإنما بأمور حول القدرة على ترويج الفهم وتسويقه. و لمواجهة هذا الفهم في نظري، يجب على المؤسسات التعليمية القيام بواجبها، إلى جانب مؤسسات الإعلام بأن يصبح الكتاب في متناول الجميع، وأن تصبح الظروف الميسرة للمكتبات متاحة للجميع ، لأن تكوين مجتمع قارئ قد يحول الناس إلى مواطنين يحسنون التلقي والقراءة والانتقاد.