جهد مضاعف ذلك الذي بذله الصديق والزميل محمد جليد وهو يقدم للمكتبة العربية هدية من نوع خاص: كتاب العدالة الدولية لفيلسوف القانون الدولي هانس كوكلر. هذا الأثر الترجمي الهام استغرق منه ثلاثة أعوام من الجهد والكد والاشتغال الليلي وهرق ماء العين لنقله من الإنجليزية إلى لغة الضاد في الصيغة التي تحافظ له على حرارته التي كُتب بها، وتصون معانيه ودلالات ألفاظه من أي “تحريف” قد ينطوي عليه فعل الترجمة.* توطئة لا بد منها نعم، ثلاث سنوات من المثابرة، والصراع أيضا، على واجهتين. في النهار، استغراق في مهنة المتاعب وما تستوجبه من بذل كلياني للذات وذوبان في التفاصيل وجريان وراء الخبر. وفي هزيع من الليل سفرٌ بين لغتين وإقامة مضنية في “المابين” بحثا عن تلك اللحمة التي تصل لسانين وتجعل باب المثاقفة مشرعا بين حضارتين وأصول الضيافة بينهما مرعية كما ينبغي. فجليد، خريج مدرسة فهد العليا للترجمة، والقادم من عالم الفكر بالجامعة (حوار الثقافات)، يعرف أن الترجمة أبعد من أن تكون مجرد نقل من لغة إلى لغة. هي في العمق مبادلة للقيم والرموز بين ثقافة وأخرى وتجسير للعلاقة بينهما في إطار من المغايرة والاختلاف. لذلك، لم يكن تعريب هذا السفر سهلا وهو مصاحب بأسئلة إشكالية لا بد أن القارىء سيلمس أثرها على جسد النص. أسئلة كان المترجم يبوح بها لبعض خلانه بما يعني أنه ظل لأعوام ثلاثة منغمرا في العمل بكل جوارحه، «على قلق كأن الريح تحته» بتعبير المتنبي. وهو أمر مفهوم إذا ما عرفنا أن محمد جليد لم تلهه الترجمة عن عمله اليومي الآخر وبقي خلال مدة اشتغاله على هذا الكتاب دائم الحضور والعطاء على مستوى الجريدة، ودائم الالتزام مع نفسه ومع أساتذته وأصدقائه، موزعا شخصه على أكثر من جهة بروح متوقدة وحيوية لا يمسها كلل ولا يعتريها كسل. * إشادة خاصة بالترجمة لم يُوطىء محمد جليد لترجمته بتقدمة يضيء فيها بعضا من مشاق رحلته في ثنايا النص المترجم، ولا لتبيان قيمة المؤلف ووضعه الاعتباري في ميدان اختصاصه على المستوى الدولي. وإنما فضل ترك هذا الأمر للدكتور حميد لشهب، الذي راجع العمل وأشرف عليه. وللعمل عينه لكي يتحدث عن نفسه بنفسه، ويفصح عن مجهود صاحبه. ربما آثر المترجم أيضا أن يحتفظ لشخصه بدور الوسيط المجرد دون أن يقحم صوته المباشر ويفرض ذاته على القارىء في مستهل الكتاب. وربما ارتأى ألا يثقل هذا المؤلف الكبير أصلا (400 صفحة) بعنوان آخر هو المتضمن لمقدمتين وملاحق مكونة من تقارير ومذكرات وبلاغات. مهما يكن، ففي كلمة الأستاذ لشهب ما يكفي المترجم مؤونة وضع عبارة الابتداء كما جرت بذلك العادة. فماذا يقول فيها؟ يضعنا لشهب على بينة من البروفيسور هانس كوكلر حين يقدمه لنا كواحد «من الخبراء القلائل على المستوى العالمي الذين لهم دراية وافرة وواسعة بقوانين الأممالمتحدة، وبالأسس الفلسفية لهذه القوانين، وبالأخطار التي تحملها في طياتها إذا لم تطبق طبقا للأهداف التي قامت من أجلها». تصدير يفتح شهية القراءة ويتجاوز شخص المؤلف ليستجلي قيمة الكتاب ككل وهو يصفه بلغة الباحث العارف : «يعري هذا الفحص الفلسفي “لقانون العقوبات الدولية” عن المسكوت عنه في هذا القانون بطريقة إبستيمولوجية نقدية عميقة، تستلهم جذورها من نظرة إنسية وإنسانية». صورة عن الكاتب ونصه تليها في التقديم شهادة غير قابلة للتجريح عن الترجمة من شخص أشرف على فصولها مدة ثلاث سنوات.. وهي مساحة زمنية أثثها نقاش مسترسل، تساؤلات، بحث في المعاجم والمدونات وإضاءات قبل أن يستوي النص مختلجا بالحياة في لغة الضاد. يقول لشهب، الأكاديمي وأستاذ علم النفس التربوي بالنمسا حيث يقيم منذ سنوات طوال : «تعتبر هذه الترجمة بمثابة هدية ثمينة للخزانة العربية. وهي إثبات جديد لتضامن هذا المفكر العالمي الفذ مع العرب ومع قضاياهم العادلة، ودفاعه غير المشروط عن المسلمين في كل بقاع العالم». شهادة يغنيها ويختمها حميد لشهب بتقريظ صادق ودال في حق المترجم جاء فيه «لا يسعني في النهاية إلا أن أنوه بالمجهود الجبار للسيد محمد جليد في ترجمة هذا المؤلف الضخم إلى العربية، فقد اشتغل على هذه الترجمة ما يناهز ثلاث سنوات، وكان تواصلنا بشأنها بانتظام. فقد استمتعت واستفدت شخصيا من هذه الترجمة وأنا أراجعها. وأعترف أنني قرأت مسودة الترجمة مرات عديدة وشغلتني ليالي كثيرة لغنى مضامينها، وفتحت لي عالم أفكار كنت أجهله كل الجهل، بل زودتني بأدوات وأفكار تحليل جديدة يمكنني استثمارها في المستقبل بصفتي باحثا. فهنيئا للسيد جليد على هذه الترجمة المهمة جدا». أما صاحب الكتاب البروفيسور هانس كوكلر فلم يملك إلا أن يضع يده بحرارة على هذا المجهود شاكرا دفء الضيافة وهو يقول في مقدمة قصيرة خص بها التجمة العربية الأولى من نوعها لسفره الهام «أعتبر ترجمة كتابي هذا إلى اللغة العربية نوعا من التقدير المخلص للسنوات العشر المنصرمة». * مرافعة فكرية وأخلاقية وتنويع في الخطاب قد يكون المستفيد الكبير من هذا الكتاب هم طلبة العلوم السياسية وأساتذة الاختصاص بالمغرب والعالم العربي. فالعمل بجدته وحداثة المواضيع التي يعالجها وبجهازه المفاهيمي المخصوص ينتمي إلى حقل القانون والفكر النقدي الموازي له ويغطي نقصا تشكو منه المكتبة العربية على مستوى القانون الجنائي الدولي والمحاكم الخاصة، التي شكلتها الأممالمتحدة في أعقاب عدد من الحروب التي ارتكبت فيها جرائم ضد الإنسانية. إلا أن القارىء العادي بمستطاعه أن يجد فيه فسحات لتعميق وعيه بالسياسة الدولية وتلاعبات البلدان الكبرى بمقتضيات هذا القانون وتحريفاتها لروحه المكتنزة لجوهر العدالة الدولية. ولعل قارىء كتاب «العدالة الجنائية الدولية في مفترق الطرق : عدالة جنائية أم انتقام شامل» سيخرج بانطباع مفاده أن الكتاب في العمق وباللغة المحرر بها عبارة عن مرافعة فكرية وقانونية وأخلاقية عالية النبرة. كشف وفضح وتعرية بالشواهد والوقائع لألاعيب الدول الكبرى، وفي طليعتها الولاياتالمتحدةالأمريكية، وتجاوزاتها لنصوص القانون الدولي في سبيل مصالحها وتأبيد هيمنتها. إن ما يتحسسه القارىء من نبض حار يختلج عبر طوايا خطاب المؤلف لهو ذلك الضمير الإنساني الحي، لسان العدالة غير المفروق وصوت المثقف الملتزم بحق والآخذ على نفسه الجهر بالحقيقة مهما كان الثمن. والبروفيسور النمساوي هانس كوكلر، يفعل ذلك من موقع فيلسوف القانون الدولي، وأساسا من جهة عمله كمنسق للجنة الخبراء القانونيين التابعة لمنظمة التقدم العالمي في “محاكمة لوكربي”، ثم من وضعه كملاحظ فيما بعد في نفس المحاكمة التي عينتها الأممالمتحدة. المحور الذي يدور عليه نقد كوكلر الموسوم بالجذرية في الكتاب يكمن في كون “العدالة الجنائية الدولية ليست في الأغلب عادلة”. وهو يدلل على ذلك بحالات معاشة وتجارب سابقة. بل يذهب أبعد من هذا وهو يفكك كل الإواليات التي تجعل العدالة الدولية معطلة.. مرهونة بخدمة مصالح الدول الكبرى وفق ما يصطلح عليه البروفيسور ب”سياسة القوى” التي لا تعني غير فرض القوي لمنطقه وهو يعمد إلى ليّ عنق القانون الدولي وتوظيفه بما يخدم أجندة مصالحه وحلفاءه ويعفيه من كل متابعة عن الجرئم التي تكون قواته وموظفوه قد اقترفوها في النزاعات الدولية وفي الحروب وأثناء تدخلاته في مناطق التوتر عبر العالم. فالقانون يفقد مقاصده المثلى حين تقتحم ملعبه السياسة. وحيثما يكون ثمة توجيه عن سوء نية لدفته تنتهي رسالته الأخلاقية ويؤول ضد ما يرمي إليه من إحقاق للعدالة. قد يظن البعض أن الكتاب مادام ينتمي إلى فلسفة القانون الدولي فإن لغته ستكون جافة لا محالة. غير أن البروفيسور هانس كوكلر سلك في صياغة “مقالته” مسلكا مغايرا. سيجد القارىء نفسه أمام تنويعات أسلوبية مستجلبة من حقول أخرى بما فيها الأدب. وسيطالع قدرة على المزج بين العرض والكشف، وبين التحليل والنقد والتأمل، والمصطلح العقلاني والعبارة الدافئة وبين الخطاب العلمي الموضوعي والنظرة الذاتية الناضحة بعمق التجربة. وخلف مجموعة من المفاهيم التي نحتها الكاتب في مجال اختصاصه يطل وجه المثقف الملتزم بقضايا المستضعفين بدل الخبير القانوني المشغول بما هو تقني والمكتفي بذاته. * تأملات في تجربة (قضية لوكربي) يبدو الكتاب في “شكله العام” تأملا في تجارب عاشها المؤلف وهو منتدب لخدمة القانون الدولي في عدد من المحطات والنوازل. يقول كوكلر عن مصنفه «يعتبر هذا الكتاب ثمرة سنوات من الانخراط في معالجة قضايا تسوية النزاعات، ومن ممارسة القانون الدولي، وفي إطار مشاريع البحث ومحاضرات منظمة التقدم العالمي» قبل أن يضيف أن هذا «التحليل يميل إلى التفكير الفلسفي في القضايا الأساسية التي تطرحها العدالة الجنائية الدولية، وإلى تقديم وصف واقعي وتاريخي وقانوني». لذلك نجده يغلّب النزعة التأملية المسائلة للأسس التي قام عليها القضاء العالمي من الناحية القانونية والفلسفية. ويعود بقارئه في مسح تاريخي ممتع إلى أول محكمة دولية خاصة أنشئت عام 1474 باسم محاكمة بريزاك (إسم النمسا قديما)، وكانت قد تشكلت من 28 قاضيا ينتمون إلى ما اصطلح عليه ب”الدول الحليفة”. وكان الهدف منها محاكمة بيتر فون هاغنباخ بتهمة ارتكاب جرائم أثناء سيادة الحكم البورغوندي على إقليم بريزاك (جزء من ألمانيا). هذا التأصيل التاريخي سيطعمه كوكلر بمسح كرونولوجي بدءا من 1872، موعد أول اقتراح لتأسيس محكمة جنائية دولية على يد غوستاف موانيي رئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر، الذي ارتبطت مبادرته هاته بمعاهدة جنيف عام 1864 المراجعة عامي 1906 و1929... وصولا إلي وضع قانون روما عام 1998 وإنشاء محكمة دولية للعمل بمقتضيات هذا القانون سنة 2002. وهنا ينبري الكاتب لتبيان الأسباب الحقيقية وراء عدم انضمام الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى هذا الإطار القاوني الدولي الجديد، بل مساعيها الدائمة إلى تقويض سلطة المحكمة الجنائية الدولية من خلال “معاهدات عدم تسليم المجرمين” التي تبرمها مع عدد من الدول بشكل ثنائي. ومن ميزات الكتاب وقوفه بالنقد والافتحاص عند كل نموذج من المحاكم الجنائية الخاصة التي انبثقت في القرن العشرين بدعوى تحقيق العدالة الدولية. محاكمات نورنبورغ وطوكيو التي همت ألمانيا واليابان في أعقاب هزيمتهما في الحرب العالمية الثانية. محاكمات يوغوسلافيا ورواندا. وهي نماذج محصها البروفيسور كوكلر وكشف عن خفايا تلاعبها بمقتضيات القانون الدولي القائم على مواثيق حقوق الإنسان. وبين كيف أن سؤال العدالة الدولية ينطرح بقوة بعد كل حرب أو نزاع دولي. وهو ما يجعل أمر هذه العدالة مهددا على اعتبار أن من يضع شروط المحاكمة الجنائية يكون باستمرار الطرف المنتصر. ومن هنا نحته مفهوم “عدالة المنننتصرين” الذي لا يخلو من نفحة ساخرة، وكذا إشارة إلى مأزق العدالة الدولية حين تنفرط فيها المقدمات القانونية السليمة، وتتحكم في سيرها ما يصطلح عليه الكاتب ب”العواطف السياسية” و”السلوكات النفسية” بما يقوض في العمق مبدأي اللاتمييز والعدالة الكونية. عروة الكتاب بدون شك وقوفه الطويل عند قضية لوكربي التي كان أحد شهودها الكبار. وأنجز تقارير عنها قدمها إلى الجهات التي انتدبته مراقبا دوليا وقد عرى فيها كيف يُستباح القانون وتُسفح العدالة الدولية على مذبح “سياسة القوى” والمصالح وتستحيل إلى انتقام مبطن ملبوس بقانون القوة أحادي القطبية. * على سبيل الختم في نهاية هذا العرض المختزل جدا لا بد من الإشارة إلى تميز هذه الترجمة بالوضوح على مدار صفحات الكتاب التي تربو على الأربعمائة صفحة. فالبرغم من طول جمل البروفيسور هانس كوكلر وتراكبها في كثير من الأحيان درجة أن جملة واحدة تشغل فقرة بكاملها إلا أن المترجم حافظ للمعنى على وضوحه وللعبارة على نبضها الحي وأوجد صيغا للتخفيف من الكثافة التي يتميز بها أسلوب المؤلف. كما عمد إلى وضع الهوامش في أسفل الصفحات وهو ما يسهل على القارىء الوصول إلى الشروح والإضاءات التي وضعها الكاتب والمترجم لهذا العمل الكبير. عبد العالي دمياني