برنامج الدعم الاجتماعي يحظى بثقة ورضا أزيد من 87% من الأسر المستفيدة    الأمني: حضور رئيس الحكومة في البرلمان.. بين مزاعم بووانو وحقيقة الواقع    موجة حر وزخات رعدية قوية مرتقبة بعدد من مناطق المملكة    أنغام تخرج عن صمتها: لا علاقة لي بأزمة شيرين وكفى مقارنات وظلم    بنسعيد: المغرب يراهن على صناعة الألعاب الإلكترونية لبناء اقتصاد رقمي قائم على الإبداع والشباب    جريمة جديدة بحق الطواقم الطبية.. إسرائيل تغتال مدير المستشفى الإندونيسي وعدد من أفراد أسرته بغزة    التوفيق: الظروف التي مر فيها موسم حج 1446ه كانت جيدة بكل المقاييس    تفاصيل تفكيك خلية "داعشية" تنشط بين تطوان وشفشاون    السجن المحلي بالعرائش: وفاة سجين معتقل على خلفية قانون مكافحة الإرهاب    مجلس المنافسة: "مول الحانوت" يُسرع في رفع أسعار المواد الغذائية ويتأخر في خفضها    العدالة والتنمية: عناصر البوليساريو "مغاربة ضالين" وليسوا أعداء    عائلة برلوسكوني تبيع نادي مونزا الإيطالي لصندوق أمريكي    تكريم عبد اللطيف بنشريفة من الجامعة الدولية بالرباط بالجائزة الدولية للجغرافيا بألمانيا    "البيجيدي": وهبي ألحق ضررا معنويا بمؤسسة القضاء بإصراره على محاكمة المهدوي    بودريقة يدان ب5 سنوات سجنا وغرامة ثقيلة في قضايا نصب وتزوير    حزب "النهج" يستنكر سياسة التهجير القسري ونزع الأراضي وتفويتها لصالح اللوبيات العقارية    النفط يرتفع بعد تعليق إيران تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية    اعتراف دولي متزايد بكونفدرالية دول الساحل.. مايغا يدعو إلى تمويل عادل وتنمية ذات سيادة    ياسين بونو.. الحارس الذي حوَّل المستحيل إلى تقليد في ذاكرة الكرة العالمية    التنسيقية المهنية للجهة الشمالية الوسطى للصيد التقليدي ترفع مقترحاتها بخصوص '' السويلة '' للوزارة الوصية    الرعاية الملكية السامية شرف ومسؤولية و إلتزام.    ممثل وزارة الخارجية في المناظرة الوطنية: الذكاء الاصطناعي أداة لبناء شراكات جنوب-جنوب مبنية على القيم والمصالح المشتركة    أتلتيكو مدريد يتعاقد مع المدافع الإيطالي رودجيري قادما من أتالانتا    ترامب يحث حماس على قبول "المقترح النهائي" لهدنة 60 يوما في غزة    وقفة احتجاجية بسلا ضد الإبادة الإسرائيلية في غزة ومطالب بفتح المعابر        مجلس المنافسة: التجارة الإلكترونية تجذب المستهلك المغربي والشركات الغذائية تتجه للتسويق الرقمي    ثنائية جيراسي تمنح دورتموند بطاقة العبور لمواجهة الريال في ربع نهائي المونديال    دورتموند يعبر مونتيري ويضرب موعدا مع الريال في ربع نهائي كأس العالم للأندية    النائبة الفرنسية نعيمة موتشو: فرنسا ينبغي ان ترفع صوتها ضد الاعتقال التعسفي لمواطنيها في دول استبدادية مثل الجزائر    طقس الأربعاء: استمرار الأجواء الحارة مع هبوب رياح قوية    تفكيك خلية إرهابية موالية لما يسمى بتنظيم "الدولة الإسلامية" تنشط بين تطوان وشفشاون    نيوكاسل الإنجليزي يعتذر عن مشهد مسيء في فيديو الإعلان عن القميص الثالث    الحر يبدأ التراجع في أوروبا وترقب حدوث عواصف رعدية    روبرت كلارك يكتب في صحيفة التلغراف البريطانية: بريطانيا مطالبة بتصنيف "جبهة البوليساريو" منظمة إرهابية    سكان كتامة وإساكن يعيشون في ظلام دامس منذ أسبوعين.. والأجهزة معطلة بسبب انقطاع الكهرباء    ملتقى فني وثقافي في مرتيل يستكشف أفق البحر كفضاء للإبداع والتفكير    أطفال يفترشون الأرض أمام المركز الوطني للتخييم بالغابة الدبلوماسية.. مشاهد صادمة تستدعي تدخلاً عاجلاً!    كأس أمم إفريقيا للسيدات (المغرب-2024): لاعبات المنتخب الوطني "متحمسات لانطلاق المنافسات" (خورخي فيلدا)    كاريكاتير في مجلة "LeMan" في تركيا يشعل حالة غضب ويؤدي إلى اعتقالات واسعة    ساكنة حي اشماعو بسلا تستنجد بالسلطات بسبب سيارة مهجورة    مهرجان موازين يستقطب أكثر من 3,75 مليون متفرج ويحتفي بأزيد من 100 فنان عالمي    انطلاقة قوية للمناظرة الوطنية الأولى حول الذكاء الاصطناعي تُبرز طموح المغرب للريادة الرقمية (صور)    الريال يتخطى اليوفي بمونديال الأندية    بورصة البيضاء تنهي تداولاتها على وقع الأخضر    شيرين عبد الوهاب تتعثر فوق مسرح "موازين" وغادة عبد الرازق تصفق للظلّ    شيرين تهدد باللجوء الى القضاء بعد جدل موازين    عاجل.. بودريقة يشبّه محاكمته بقصة يوسف والمحكمة تحجز الملف للمداولة والنطق بالحكم    طريقة صوفية تستنكر التهجم على "دلائل الخيرات" وتحذّر من "الإفتاء الرقمي"    أكادير تحتضن أول مركز حضاري لإيواء الكلاب والقطط الضالة: المغرب يجسّد التزامه بالرفق بالحيوان    وقت الظهيرة في الصيف ليس للعب .. نصائح لحماية الأطفال    حرارة الصيف قد تُفسد الأدوية وتحوّلها إلى خطر صامت على الصحة    إبداع بروكسل يفك الحصار عن غزة    الصويرة تحتضن مؤتمر المدن الإبداعية 2026    الصحة العالمية تحذر: الهواتف ووسائل التواصل تعزز مشاعر الوحدة        ضجة الاستدلال على الاستبدال    وزير الأوقاف: خدمات واضحة تحدد تكلفة الحج الرسمي وتنسيق مسبق لضبط سعر الصرف    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ادريس بنهيمة يكتب: التقطيع الجهوي: أداة حاسمة للتنمية


بقلم : إدريس بنهيمة
يتطرق مشروع الجهوية الموسعة الذي ينخرط فيه المغرب إلى خمس أبعاد مختلفة على الأقل، ولو أنها متكاملة:
بعد تاريخي لتغلغل المعاصرة في تفاصيل الديمقراطية التقليدية للسلطة المغربية،
إرادة لمواجهة ووقف الميل المتوالي لتمركز النشاط حول الوجهات الأطلسية، ظاهرة عرفت شعبية كبيرة بما يعرف ب"المغرب النافع والمغرب غير النافع"،
خلق مستوى مؤسساتي جديد من أجل تعميق الديمقراطية ومنح الهويات الجهوية إطارا للتعبير،
منح هذا المستوى المؤسساتي مسؤوليات مرتبطة أساسا بالتنمية المستدامة واستشراف للمستقبل،
وأخيرا الاختيار المناسب للفضاءات الجغرافية الجهوية.
من ضمن هذه الأبعاد الخمس، تعد الأربعة الأولى مستوعبة بوضوح من طرف الرأي العام، ولن نتطرق إليها إلا على سبيل التذكير. بينما يعتبر الاختيار المقترح من أجل التقطيع الجهوي جديرا بتعميق البحث والنقاش وذلك اعتبارا، من جهة، لكونه يشكل الوعاء الذي لا محيد عنه بالنسبة للمشروع الاستراتيجي بأكمله، ومن جهة أخرى لكونه الشق الأكثر تعرضا لاحتمال المعارضة لأسباب ثانوية.
فلنتطرق باختصار للمحاور الأربع المذكورة سالفا:
البعد التاريخي: تتحدث النسخة الإيديولوجية الاستعمارية، المبنية على أساس التجربة الفرنسية لنظام سلالة "كابيت"، عن أطروحة ملكية راغبة على الدوام في الممارسة المطلقة للسلطة، والتي تزعم أن مغرب ما قبل الحماية كان مسرحا لنزاعات غير منتهية بين سلطة مركزية ذات توجه شمولي، وطموحات محلية تميلإلى الاحتجاج، تطبعه الاختلالات العسكرية والتنظيمية للجهة الأولى، مؤديا إلى وضعية فوضى تكون بذلك مبررا للتدخل الأجنبي. إلا أنه يكفي أن نستحضر هنا الفتوى الشهيرة لعلي بن عبد السلام الدسولي، الصادرة سنة 1837 والمرتبطة بشرعية الأمير عبد القادر في مقاومته للفرنسيين، وهي فتوى تم الاستناد إليها كمرجعية من طرف جاك بيرك وعبد الله لعروي، لكي نستنتج أنه، داخل مفكرة رجال القانون الأكثر مصداقية لدى الدولة المغربية القديمة، كان هناك دائما عقد اجتماعي يوضح أدوار مكونات الأمة حسب العبارة المختصرة التالية: البيعة والحكم المحلي مقابل السيادة والحماية.
وتجدر الإشارة إلى أنه، بعد الاستقلال، تم تعويض الرؤية الاستعمارية، لدى العديد من القوى السياسية، بمشروع شمولي للتمركز السياسي والتوحيد الثقافي الإجباري، على غرار العديد من الدول الخارجة من مرحلة الاستعمار، خصوصا منها العربية.
وفاءً منهم للعقد الاجتماعي التاريخي، الذي تمت إعادة النظر فيه من أجل انخراطه في القيم الكونية، التي تعد بدورها مطابقة للقيم الحقيقية لإسلام مغربي متسامح ومنفتح، لم يدخر العهل المغاربة جهدا، منذ منع الحزب الوحيد، وإلى غاية المرحلة الحديثة لدستور 2011، مرورا بميثاق الجماعات المحلية لسنة 1976، وبطريقة تدريجية وفي حدود الإمكانيات الظرفية، في فتح أوراش الديمقراطية والحكم الذاتي المحلي.
وبالتالي فإن بناء الجهوية الموسعة ينخرط في هذا المشروع الملكي والذي يقتضي تعزيز وتحديث العقد الاجتماعي الذي يتوخى حث التفكير الجماعي والمبادرات التي يتم اختيارها بحرية من طرف الفاعلين في التنمية الجهوية. هذا إلى جانب تعميق واستيعاب التنوع الثقافي الذي يصنع الهوية المتعددة للأمة، وتشجيع إدماج التراب في العولمة، وأخيرا، ضمان حماية مصالح الأجيال القادمة.
من بين الرهانات الكبرى لمشروع الجهوية هناك أيضا إعادة التوازن إلى الميول المتوالي والسباق نحو الأطلسي. ونقصد هنا التركيز الدائم للأنشطة الاقتصادية حول جزء من المجال الترابي متسع نسبيا، يمتد من أكادير إلى طنجة والذي يعمل على ترسيخ المبدأ القائم على ثنائية "المغرب النافع والمغرب غير النافع". ولعل هذه الظاهرة ،التي تتضح بجلاء عبر صور الأقمار الصناعية الملتقطة ليلا للمغرب، لا تتحكم فيها السلطات العمومية، لأنها تنتمي إلى التطورات القوية التي لا يمكن إيقافها في المغرب المعاصر على غرار الانتقال الديمغرافي و الهجرة القروية و التوسع الحضري السريع. وتبقى كل هاته الظواهر إيجابية من حيث النمو و ارتفاع مستوى العيش والاندماج الاجتماعي والاقتصادي للمواطنين. غير أنها تطرح إشكالية التطور المتزامن للمجالات الترابية العميقة والتصدي لتهميشها. ولكي يبقى المغرب فضاءً متماسكا، يعتبر تثمين مزايا كل شبر من مجاله الترابي وتجاوز نقط ضعفها رهانا ذا أولوية ضمن مشروع الجهوية.
تعتبر تقوية المواطنة عبر ممارسة الديمقراطية على الصعيد الجهوي بدورها محورا هاما للجهوية الموسعة. وبفضل الديمقراطية الجماعية المدعومة من قبل ميثاق الجماعات المحلية، و خصوصا بفضل مجهودات العديد من الجمعيات المحلية، هناك بداية لمشاركة مواطنة في شؤون المدينة. ويجب أن تتدعم هذه المشاركة عن طريق توضيح أفضل للمهام بين ما هو مقرر ومتفق عليه في المجالس البلدية، وما هو منفذ ومحمول على عاتق المجلس الجماعي لوحده.
ولكن، يجب ملء الفراغ الحاصل بين المستوى الجماعي ومستوى الدولة المركزية، من طرف المجلس الجهوي والمؤسسات التابعة له. ومن شأن هذا المستوى المؤسساتي أن يمكن الهوية الجهوية، والتي غالبا ما تكون قوية جدا وتشعر بتهميش، من أن تصبح شرعية و معترفا بها على الساحة الوطنية. في غياب هذا المستوى المؤسساتي، يمكن للهوية الجهوية أن تتخذ أشكالا عصبية للاحتجاج بل وأن ترفض المبادرات الصادرة عن الدولة كما سبق أن فعلته أحيانا.
المهام المؤسساتية الخاصة بالمجلس الجهوي: أولا ما لا يتوفر عليه: لا حكومة جهوية ولا نقابة للجماعات. بل إنه يتطرق ويدبر، عبر استشراف المستقبل، إشكاليات إعداد التراب وصيانة الموارد وحماية البيئة ومحاربة الفقر والتهميش عن طريق إدماج السياسات الوطنية التي يتم إعطاؤهاإضافة معرفية وحساسية القرب، وهو يهيئ رؤية ومشروعا للتنمية الجهوية، كما تعمل هذه الرؤية وهذا المشروع على إعداد الأسئلة الكبرى الخاصة بالمستقبل، وهي: التشغيل، الاستثمار، البنيات التحتية، وكذلك التربية، محيط الحياة، الثقافة والخدمات.
وعليه فإن إمكانيات ومهمة المجلس الجهوي لا تتمحور حول إدارة كلاسيكية بقدر ما تتمحور حول منظومة من الوكالات، أبرزها وكالة جهوية للتنمية، تنضاف إليها وكالات متخصصة في القضايا القطاعية الخاصة بالجهة. وهكذا،تقوم هذه الوكالات بإعداد المخططات والمشاريع والبرامج المعروضة على المجلس الجهوي، وتعمل على إنجازها من خلال عقود مبرمة مع الشركاء، من جماعات محلية وإدارات مركزية ومؤسسات جهوية وجماعية ووطنية تابعة للدولة. هذا إلى جانب شركائها الحاضرين أكثر فأكثر والمتمثلين في جمعيات المواطنين. وتتم تعبئة موارد هامة عن طريق رسوم جهوية وكذلك من خلال مساهمات الشركاء المذكورين.
وفي هذا الصدد يجب تفادي الخطر المتمثل في استغلال الموارد الجهوية الجديدة أساسا باعتبارها ميزانية تكميلية للجماعات المحلية أو للبرامج الوطنية.ويكون هذا الخطر حقيقيا إذا كان أعضاء المجلس ينتخبون من طرف الجماعات المحلية، كما هو الحال اليوم. تعطي النصوص التي هي قيد الإعداد الأولوية لانتخاب مباشر حول مستوى انتخابي أعلى درجة من ذلك المتعلق بالجماعات ولقواعد عدم جمع المهام. والأفضل، بالتأكيد، هو أن يتم اعتماد اقتراع باللائحة داخل مجموع الجهة.
تشكل الأبعاد الأربع المذكورة بتفصيل، بما فيها تلك المتعلقة بالاستمرارية التاريخية، و بالتنمية المتوازنة للمجالات الترابية ولخصوصيتها، وبخلق مستوى مؤسساتي جديد وتحديد تخصصاته وطريقة عمله، إشكالية مطروحة بإلحاح ومتفقا عليها بصفة واسعة.
بقي لنا أن نتطرق إلى مسألة التقطيع الترابي وهي إشكالية جد مهمة لأنه محسوم في أمرها ويجب إنجاحها منذ الوهلة الأولى. وبالفعل، فإن بناء المؤسسات الجهوية يمكن أن يتم تدريجيا وعلى مراحل. ومما لا شك فيه أن المحطات التي تشكل قطيعة في هذا المسلسل لن تكون سهلة التحقيق مثل تلك المتعلقة بانتقال بعض اختصاصات الدولة المركزية إلى الجهات، لأنها رهينة بمساطر ثقيلة وكذلك لأنها تتطلب الوقت الكافي لبناء الهياكل الجهوية التي من شأنها التكفل بهاته المهام الجديدة. غير أن التقطيع الجغرافي للجهات يعد العملية التي تسبق إنشاء المجالس الجديدة وهي لا رجعة فيها، وهو ما يفسر العناية الخاصة التي يجب إيلاؤها بها والعمق الاستراتيجي الذي يجب الاعتراف لها به.
وبالتالي، لماذا لا نحتفظ بتقطيع سنة 1996، والذي يعد حلا سهلا؟
في الواقع، هو غير مواكب لاختصاصات الجهوية الموسعة. ويرتبط منهج التقطيع فيه بمفاهيم التطور المعمول بها لدى غالبية اقتصادات ما بعد الاستعمار. وقد كانت الكلمة السائدة حينها، وإلى حدود الارتباط المفروض بالعولمة، الذي أملاه البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في الثمانينيات، هو التطور المرتكز على الذات ردا على تقنيات الاقتصاد الاستعماري التي كانت تقيد الاقتصادات المهيمن عليها في حدود القطاع الأولي وتفرض احتكار المواد الصناعية لفائدة المدينة. وفي المقابل، لم ينتبه الساسة المغاربة في فجر الاستقلال إلى أن مؤتمر الجزيرة الخضراء الذي منح كل القوى العظمى نفس الحقوق داخل الاقتصاد المغربي، مكن مغرب الحماية من الاندماج في العولمة قبل الأوان. وأدى ذلك إلى انفتاح الاقتصاد، و توحيد نسبة الضريبة الجمركية وتخفيضها، مما نتج عنه نمو اقتصادي استثنائي وتنوع في الإنتاج، كل ذلك بالطبع لفائدة الفاعلين الحداثيين خصوصا منهم الأجانب.
يَعتبر التطور المتمركز حول الذات، (استراتيجية تعود إلى سنوات الستينات) الذي يتعارض مع التقسيم الدولي للشغل (تسمية قديمة للعولمة)، أن مستوى التطور يتم قياسه من خلال طريقة ملء "الجداول المشتركة بين المهن". أي أنه من أجل ازدهار الدولة، عليها أن تطور مجموع قطاعاتها الصناعية، بما فيها تلك التي لا تتوافق مع حجم السوق و لا مع الامتيازات التنافسية الخاصة. وفي سبيل ذلك، بطبيعة الحال، يجب عليها أن تغلق الحدود وتفرض على المستهلكين منتوجات غالية الثمن ومشكوك في جودتها. ونتذكر جميعا هنا حالة الهوائيات الوطنية(pneumatiques) سريعة التلف وحالة المنتوجات البترولية الأكثر تلوثا في العالم.
وأخذت التقطيعات الجهوية المتتالية نفس منطق التطور المتمركز حول الذات وعملت على أن تجعل من كل جهة عالما مصغرا (microcosme)، بمعنى استنساخا مصغرا لإطار اقتصادي يعرض تشكيلة كاملة للقطاعات الاقتصادية: صناعة، فلاحة و سياحة. واعتمادا على هذه المنهجية سعت إلى أن تدمج بداخلها قدر الإمكان أكثر المميزات الجغرافية شمولية: بعض الجبال، جزء من الواجهة القاحلة، واجهة بحرية، وفضاء فلاحي. وشُرع في البحث لكل مؤشر سوسيو اقتصادي جهوي، عن قيمة قريبة من المعدلات الوطنية. و وجدنا أنفسنا بالتالي أمام ما يمكن تسميته باستراتيجيات "مجهولة الإسم" قابلة للتبادل بين جهة وأخرى، دون أن نرى خصوصيات جهوية مميزة. وهو ما تفرزه المخططات الجهوية الحالية للتنمية.
غير أن الاندماج في العولمة وما يرتبط بها، وتخلي الدولة عن أنشطتها الصناعية والفلاحية والمالية، بالإضافة إلى التحرير الاقتصادي، كل هذه العوامل تفرض اتخاذ مواقف جديدة.
إذ تقتضي العولمة قبول تبادل،داخل سوق عالمية،المنتوجات والخدمات التي يقدمها الآخرون أحسن منا وبتكلفة أقل، مقابل منتوجات وخدمات نتوفر فيها على امتياز من حيث التكلفة والجودة.
بينما يصطدم البحث عن مميزات البلد عبر التبادلات العالمية قبل كل شيء بالتنوع الجغرافي للمجالات التي تكونه. وسواء حاولنا أن نستند على الموارد المائية الموزعة بشكل غير عادل، أو أن نحاول التعريف بمنتوج سياحي واحد بين الداخلة والسعيدية، فإننا نكتشف بسرعة أن الإطار الجهوي هو الأكثر ملاءمة للتعريف بأحسن المنتوجات والخدمات التي يمكن تقديمها في السوق العالمية. وتعطي أوربا المثال حول النموذج الذي يركز أكثر فأكثر تفكيره الاقتصادي حول الجهات الكبرى التي تشكل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوربي. لهذا، تعد الجهة وحدة القتال داخل حرب العولمة، ويعد التعريف الأمثل لحدودها الجغرافية أول معاركها الحاسمة.
من أجل تحديد أمثل للتقطيع الجهوي، سنتحدث إذن عن "مجال ترابي متماسك" (territoire de vocation) أي أنه، عوض محاولة تجميع مجمل قائمة تخصصات البلد بأكمله داخل الجهة، فإننا سنعمل على تجميع كل المجالات الترابية التي تقتسم نفس الميزات والخاصيات داخل فضاء واحد.
وسيُفرَزبذلك امتياز مباشر: هذه المجالات الترابية المتماسكة التي تتسم بمميزات وبصفات موحدة، تتسم لا محالة بنفس نقاط الضعف. فلكونه مختارا بطريقة جيدة، فإن التقطيع الجهوي يبعد الجهة من المعدلات الوطنية التي لا تكشف عن واقع الأمور، ويبرز بجلاء نقاط الضعف التي يجب على الجهة التصدي لها قبل كل شيء. وهي تعتبر أفضل إطار للتعبئة والتفكير والمبادرة من أجل مقاومة نقاط الضعف.
لنأخذ كمثال تمدرس الفتيات في الريف. فبالنظر إلى كون المنطقة منقسمة بين جهتين كما هو الحال اليوم، لا يظهر هذا العامل داخل الخريطة المدرسية: إذ أن الجهتين معا تنعمان بمراكز حضرية كبرى، مثل تازة وتطوان وطنجة، لكي يكون معدل الحضور النسوي على مستوى الأكاديميات الجهوية قريبا من المعدل الوطني أو بالأحرى يفوقه. وهذا يخفي أنه، بالنسبة لمجال ترابي في حجم سويسرا، اخذا بعين الاعتبار المسافة الممتدة من آخر نقطة في تطوان إلى مدخل الحسيمة، تعتبر نسب استفادة الفتيات من التعليم الثانوي والعالي قليلة بكثير مقارنة مع المعدل الوطني.
وبسبب عدم تسليط الضوء على ظاهرة قلة تمدرس الفتيات في هاتين الجهتين الناتج عن التقطيع الجهوي السيء، لم يتم اعتماد أي نوع من البرامج المركزة والمحلية خارج تطبيق البرنامج الوطني لدعم تمدرس الفتاة القروية. وما يجب الانتباه إليه أكثر هي العوامل التي تفسر هذه الظاهرة: تشتت قوي للسكن يفوق المعدلات الوطنية، ولو أن الأمر يتعلق بمنطقة جبلية، وتدني مستوى البلديات بشكل مزمن، مع قلة الجماعات الحضرية في المجال الممتد من الناظور إلى تطوان. ونستنتج بالتالي، من خلال هذا المثال، أنه ليست هناك أية مؤامرة ماكرة تنهجها السلطات المركزية ضد النساء في الريف، بل إنها وضعية يرثى لها يرجع السبب فيها بالأساس إلى عوامل جهوية. ولكننا نتخيل جيدا كيف يمكن أن يتم إلحاق إشكالية الهدر المدرسي لدى الفتيات بمسؤولية الدولة عن طريق تحليل مغرض و سطحي.
هناك أيضا جانب آخر يجب اعتباره من أجل دعم تقطيع جهوي مبني على مجالات ترابية ذات اختصاص، وهو يرتبط بالتطلع إلى الاعتراف والإشادة بالهويات الثقافية الجهوية. وانطلاقا من رسم الحدود الجهوية تبعا للخصائص القوية المشتركة داخل المجال الترابي المعني، فإننا نجد بشكل طبيعي ومتزامن، ليس فقط هياكل الجغرافيا الفيزيائية بل أيضا حدود الهويات الثقافية الجهوية. ويتم تسهيل بروز سلوك التملك الجماعي، على الصعيد الجهوي، لأهداف التنمية المستدامة والتطلع إلى العيش معا في انسجام ووعي بالذات داخل الساحة الوطنية، عن طريق الوعي بتقاسم فضاء متماسك، واع بمميزاته وبنقاط ضعفه ومتوفر على وسائل مواجهتها، عن طريق إنشاء مؤسسات جهوية.
يناير 2015


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.