في ثقافتنا المجتمعية، وعندما يبلغ السيل مداه كما في التشبيه المألوف، يقوم الجسد هو الآخر للاحتجاج، فيعبر عن فحواه، يمارس حقه في التفجير لمكنونه، تصريفا شبه احتياطي لما تبقى من طاقة صبره. في صورة بعيدة عن المألوف، تجد المرأة فاقدة لصواب ذهنها، وتوازن نفسها، وعندما تستنفد ما تملكه من وسائل احتجاجها، تقوم بالاستدارة بظهرها للملأ، للحاضرين، تخلع سروالها وتنزع ستار لباسها، فتنحني مبدية عورتها، كأن حالها يساعد على التعبير المتمرد ليقول: ها ما تساوونه … ! ويترك الأثر وقع الفعل ليعبر بجرح منظومة القيم المتحكمة في شبكة العلاقات وموازينها… يكون هناك كسر لمرآة لامعة للسلوك النموذجي أو الموديل المتبع والمقتدى به، والذي يختصر طريق التربية والتقويم للأفراد منذ صغرهم حتى شيخوختهم، بل حتى أقسى درجات انفلاتاتهم القريبة من الجنون أو المرتمية في حضنه … ربما هذه الملاحظات السلوكية المنفلتة لا توجد إلا نادرا وبشكل متقطع … لكنها تعبير رمزي مدفون في لا شعور ولا وعي المجتمع الجمعي … يتلقفه من خرج من دائرة الحكمة إلى دائرة الجنون … لكنه لا زال يتساءل عن جذوره وشرعيته في التواجد والتشكل والتمرد … قد يوازيه ما يصدر عن الشيخ أو الرجل البالغ داخل العشيرة أو الجماعة من نزع لعمامته والرمي بها على الأرض، وما يحمله السلوك من رمزية تمرد على المتعارف عليه وعلى المألوف … بل على منظومة القيم والأعراف المحترمة داخل الجماعة .. وهو تعبير يحمل أكثر من دلالة خطرة على تماسك الجماعة وشبكة عصبيتها التي تضمن صحة استمرارها وتعايشها كبنية بين بنيات متجاورة ومتنافسة طالبة للاحتواء للآخرين … هما تعبيران عن سلوك متمرد ينذران بالخطر على الفرد كما على الجماعة … فعلى مستوى الفرد يأخذ حكم بلوغ الصبر حدوده القصوى وعدم القدرة على التحمل والخروج عن المعقولية المرسومة بالتربية السيكو اجتماعية، والتي قد تؤدي داخل النسق إلى الحكم بالجنون وإلى الدخول في دائرته بشكل اعتقادي يبرره و يشرعنه .. أما على مستوى الجماعة، فيأخذ بعدين أحلاهما مرٌّ كما في التذوق النهائي … إما الحكم بالمروق والعقوق والخروج عن العهد الاجتماعي والعروة الموثوقة … وما يتبعه من حكم تنفيذي بحسب الدرجة وبحسب الوزن الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والطبقي … وإما الحكم بالجنون وإعطاء صاحبه درجة أقل في المؤاخذة والمعاقبة حتى يتم الحفاظ على المصالح وعدم إلحاق الضرر بالآخرين المرتبطين بآثار سلوكه … وداخل البنيات المجتمعية الجديدة، نجد مخلفات هذا النزوع للتعري المتذمر والمتمرد، يأخذ أشكالا متنوعة تعبر عن بلوغ الدرجات القصوى في التحمل، أو انفلات التوازن في التعامل مع معطيات الواقع المتفاعلة مع الذات … وكل سلوك تكون له تداعيات وقبلها تفسيرات ورمزية تعبير عن حالات نفسية ومشاعرية واحتجاجية … كتمزيق الثياب مثلا في درجات الحزن والغضب … كخلع الحذاء والمشي حافي(ة) القدمين … ملاحظات في أشكال التمرد المرتبط بالتعري، كلها تبين أنه أسلوب يلجأ إليه صاحبه خروجا عن المألوف … كلها سلوكات تبين على أن الواقع قد اتخذ بالمقابل أقنعة معقدة حالت دون تسوية وضعية الفرد داخله، بمستويات العدل والظلم، والإنصاف والهضم للحقوق … وفي مقابلة العري بالستر المطلوب، نجد رد الفعل عند الشباب المغربي الذي تربى على قيم جديدة منفتحة على ثقافات الحضارات المتطورة والمتحررة اليوم .. والذي عبّر بشكل مناسب لما تلقاه من تربية في هذا الشأن بالتعري من التستر وليس الستر، ومن النفاق الاجتماعي والحالات الانفصامية التي تشكل لوحة الشخصية المجتمعية داخل أحضان مجتمعه … إنها حالة التعامل مع القبلة التي توبع فيها قاصران قضائيا، ولو في حالة سراح وتأمل نظري في قضيتهما … كيف ترجم البعض أسلوب احتجاجه على التعامل المتناقض مع الواقع و مع الحق الممنوح فيه بثقافة العصر وقيمه السائدة موضوعيا … ثقافة يتعامل معها الراشدون بشكل متناقض بين التبني المكتوم والمتستر، وبين الادعاء بالرفض والتدمر ورفع شعار الأخلاق والعفة … عملا بمبدأ: إذا ابتليتم فاستتروا .. وبمبدأ : حلالٌ عليّ، حرام على الآخرين … كان الاحتجاج برفع التحدي إلى درجاته القصوى المتمثلة في إشهار القبلة كقيمة وكحق أمام قبة البرلمان … فمن زاوية حقوقية و منطق واقع الحال، انتصر العري الثقافي على الستر المتخلف و المنافق للذات و الواقع … مخرجا الفرد و الجماعة من حالة مرضية سيكوباتية إلى استنفار و طلب علاج .. وهنا لابد من مراجعة ومساءلة لما يحتاجه المجتمع والفرد داخله من تربية وقيم وتوجيه سلوك وبيداغوجيا جديدة … بل حتى لا نبقى في مستويات التمركز حول الذات والإسقاط على الآخرين، ما يحتاجه الراشدون البالغون من (اندراغوجيا) حتى يستمر تقويم اعوجاجاتهم من أجل مجتمعات جديدة