أطل على خيط الزمن الشفيف الذي لا يُرى إلا من قريب … من سم الإبرة ارتق الحروف لكي أنسجها ثوبا مخيطا … علني أُخرج هذا التاريخ من عري قديم إلى حلة بهية ونظرة جديدة … يصدمني تعريه مما أردت أن أكسوَه به … ينتفض محتجا على ما ألبسته إياه … هناك فرق بين اللباس كثقافة حضارية واحتفالية وبين الستار كثقافة إقصائية وتهميشية … هكذا صرخ في وجهي، فما وجدت من رد إلا أن أراجع خطوي في الرتق والنسج .. وما وجدت من قول إلا أن ابحث في الفرق بين اللباس والستر… عدت إلى الثقافة لكي أجمع بين معنيي اللباس والستر، فعلا وجدت ما أبرر به الجمع بينهما. اللباس ستر للجسد. عبر قرون وعلى مر الزمن، كان الباس سترا لهذا الجسد الذي يحتوي كياننا. خاصية مشتركة بين أفراد البشرية وبين الشعوب باختلاف ثقافاتها ومدارجها الحضارية، فأحوال الطقس والقدرة على التأقلم مع المناخ، جعلتا السبيل إلى اللباس والدفء والستر … لكن الستر معيار أخلاقي وليس بيئي مرتبط بالمناخ، هكذا ميز التاريخ بين الاستعمالين عندي، فشطر فهمي إلى شطرين كشظيتين ما وجدت لهما جمعا من جديد. كيف ؟ أليس الستر حماية ووقاية؟ أليس ابتعادا عن أذى؟ أليس البرد القارس مثلا عملية هجوم بأذى على هذا الجسد العري ؟؟ وما تقول في عمليات التخلي عن طبقات اللباس حين ارتفاع درجات الحرارة؟ وحين الاستحمام في البحر والتمدد على رمال شطآنه؟ أليس عريا مرجوا، يُخلص من حرارة زائدة ؟ يذهب مفهوم الستر إذا لكي يحل معه مفهوم اللباس. لباس الصيف ولباس الشتاء. لباس القطب الشمالي ولباس المناطق الاستوائية. كانت بعض القبائل الاستوائية تضحك ساخرة ومتعجبة من لباس الإنسان الغربي الذي أتى مستكشفا وغازيا ومكتسحا قارات العالم الآخر، أفريقيا وآسيا وأستراليا … ها هو الغرب توغل بعيدا وعميقا في التحرر .. ها هو توغل في ثقافة اللباس فتخلص من الزوائد وأعاد الاعتبار لهذا الجسد … كأنه توغل في البدائية من جديد. أهي عملية مد وجزر بين عري الولادة وعري الممات لكي نعيش عري الحياة ؟ أي عري للحياة تبحث عنه؟ لو كنت تستطيعه لما راوغت الكلام بين الآخر والآخر. لبحثت عنه في ذاتك ومع ذاتك. لو كنت تريد عريا صافيا لبدأت بتعرية هذا الواقع الذي شكلته بألبسة معقدة وثقافات مشتتة كأنها أدغال مختلجة لا مفر من التفافها على جسدنا وعقونا، التفاف شبكة العنكبوت على فريستها … أتصور معك مجتمعك بدون لباس، عاريا كما ولدته الحياة الأولى، كم ثقافات ستتساقط كأوراق الخريف المصفرة واليابسة. كم من سلط ستتهاوى وتُفرغ من أذهاننا وقلوبنا المرتجفة لهول حكايات التاريخ والماضي. أيكون التاريخ مجموعة قشور متراكمة كلباس يغطي حقيقته ويستر فضائحه ويجمد حركته؟ لا جواب ربما. فالمعادلة بين العري واللباس … ماذا لو بدأت بالحديث عن العري السياسي والعري الاقتصادي والعري الثقافي وغيره؟ أية نتائج سأصل إليها في نهايات التحليل؟ العري حقيقة فاضحة، شفافة ونزيهة … لكنها طاهرة في نهاية المطاف، ما دامت غير كاذبة ولا مراوغة. العري تصفية حساب مع مستغلين لفرص التاريخ ومستغلين لعقول الآخرين وجهدهم من أجل خدمة مصالحهم والحفاظ عليها …