حينما تعمقت في أغوار هذا الفكر كان أول ما وجدت منقوشا فيه، هو الأسئلة الأزلية المعروفة التالية : من خلق الكون ؟ ولماذا كان هذا الخلق؟ ما هي غاية الإنسان في الحياة ؟ وما هو طريق سعادته فيها ؟ ما هو الموت ؟ وماذا بعد الموت ؟ وبالفعل فهذه الأسئلة الخالدة، نظرا لارتباطها الجوهري بفكر الانسان في جميع الأمكنة والأزمنة، بدليل أن الأطفال أنفسهم يفاجئون بها أحيانا ذويهم، هو ما جعل الفيلسوف هنري بيرجسون يطلق عليها «أسئلة الحياة»، وجعلها تعرف عند أهل الفلسفة ب: «بالأسئلة الوجودية». وهكذا لما لاحظت هذه الفلسفة ثبوت نقش هذه الأسئلة في فكر الإنسان، استنتجت من ذلك بداهة أن أجوبتها توجد هي ايضا منقوشة في أعماق هذا الفكر، لأن المنطق والحس السليم لا يقبلان بتاتا أن تنقش تلك الأسئلة في كينونة الإنسان، دون أن تنقش معها كذلك أجوبتها، أي حقائقها. وهذا الاستنتاج المنطقي أدى بها إلى سبر آفاق هذا الفكر، فاكتشفت أن فضاءه لم تنقش فيه تلك الأسئلة الأزلية وكذا أجوبتها فحسب، بل نقشت فيه أيضا قواعد الأخلاق الحميدة، ومبادئ القانون الكوني، وأسس العدالة، وغير ذلك من الأحكام العامة التي درج المفكرون على إدخالها ضمن الكليات العقلية الثابتة، أو ضمن قوانين الفطرة أو الطبيعة، وبذلك تأكدت ان فضاء الفكر ليس فارغا كما يتوهم البعض، بل حافلا بالحقائق الخالدة للحياة، هذه الحقائق التي ترتبط بالفكر ارتباطا جوهريا منذ ولادته ووجوده، بحيث لم تأته اليه من أرض أخرى في الفضاء الخارجي، كما اعتقد أفلاطون، ولم يكتسبها بالتربية أو بالتلقين، كما يعتقد الفلاسفة الماديون. المهم أن هذه الفلسفة قد توصلت إلى تحديد ملامح صورة هذا الانسان الكامل، لملاحظتها أن ماهيته ليست مجردة فحسب عن جسمه وعن أية مادة أخرى، كما لاحظ ديكارت ، بل هي مجردة كذلك حتى عن بعض الجواهر الغير مادية ، التي تختلط بها عند عامة الناس، مثل الروح، والنفس، والعقل، ومن تم تمكنت من إيجاد المفهوم الواضح والمتميز لماهية هذا الانسان الغير المخنلط بأي مفهوم آخر، سواء كان ماديا أو غير مادي. كما أنها لم تتوقف عند خاصية الفكر المحض الذي ميز به ديكارت جوهر هذا الانسان، بل توصلت إلى خاصية أخرى تتمثل في اللانهائية، من منطلق أن هذا الجوهر لما كان فكرا محضا، وكان الفكر بطبيعته لانهائيا، أي لا تحده حدود، فالنتيجة إذن، أن هذا الانسان الكامل لانهائي، أي لا تحده حدود . وهذه النتيجة قادتها إلى حقيقة منطقية أخرى، هي اتصاف ماهية هذا الانسان بخاصية الأزلية، التي تعني لانهائيته الزمانية، أي عدم محدودية وجوده بأية بداية، أو أية نهاية، لأن المنطق يفرض التسليم بحقيقة، أن الشيء الغير المحدود في المكان، يعتبر بالضرورة غير محدود في الزمان. إذن، استنادا إلى هذه المعطيات المنطقية نستنتج أن الانسان الكامل المختبئ فينا، يتميز بالصفات التالية : 1 – الفكر المحض. 2 – اللانهائية من حيث المكان. 3 – الأزلية التي تعني اللانهائية من حيث الزمان. وهذه الصفات العظيمة تقود إلى فكرة بديهية، غير أنها تبدو مثيرة، هي أن هذا الانسان الكامل، لما كان لانهائيا ، فهو بالتأكيد يعتبر أكبر من جسده، ومن الأرض التي يوجد فيها هذا الجسد، بل وحتى من الكون المادي المحيط بالأرض، وهذا الأمر يخلق في النفس حتما إحساسا بملئ هذا الانسان الكامل للحياة كلها، وبكونه يمثل الوجود المطلق، الذي ينعدم فيه أي موجود، بسبب اضمحلال جميع الموجودات المادية للكون أمام عظمته الغير المحدودة. وهذا الإحساس بالعظمة الذي ينتاب المرء عادة، عندما يغوص في عمق الفكر إلى هذا المستوى البعيد، يؤدي ببعض الناس إلى الوقوع في الخلط بين حقيقتهم، وبين حقيقة الله، على اعتبار أن الله وحده هو من يتصف بتلك الصفات الجليلة . واعتقد أن هذا الخلط هو ما جعل أصحاب نظرية وحدة الوجود، يعتقدون أن الكون والله ، هما شئ واحد، أي أن كل ما في الوجود يعتبر جزءا من ذات الله، انطلاقا من أصغر نملة إلى اكبر مجرة، كما ان نفس هذا الخلط هو ما ادى ببعض رجال التصوف الى الادلاء ببعض الاقوال التي يفهم منها ادعاءهم بكونهم هم، الله. ومما يليق بفلسفة ابروك ان تعتز به في هذا المضمار، هو انها تغلبت على دوخة السكر الصوفي المرتبطة بالوصول الى هذا المستوى العميق للفكر، فلاحظت بعد تأملها في هذا الانسان الكامل، ان كينونته لم تكن طبعا هي خالقة نفسها بالشكل العظيم الذي تحس به، بل وجدت نفسها كما هي عليه، بدون سابق تفكير أو ارادة في اخراج هذا التفكير الى الوجود، كما لاحظت كذلك ان هذه الكينونة تجهل بداية وجودها وكذا نهايته، بل وحتى مصيرها كله في الحياة، حينئد ادى بها هذا التأمل، الى ادراك ان هذه الكينونة رغم عظمتها وجلالها السابقين، فهي تبدو صغيرة وناقصة أمام خالقها الذي أمدها بالحياة والوجود، عندئد قادها هذا الادراك الى التوصل الى حقيقة وجود الله المنقوشة بوضوح تام في اعماق الفكر، مبرهنة على يقينية صحة هذه الحقيقة، بقانون ثابت مبتكر من طرفها هو : « انا موجود، اذن فالله موجود « . ذلك ان ديكارت ان كان قد اختزل حقيقة يقينية وجود الانسان في قانون : « انا افكر، اذن فانا موجود «، المعروف بالكوجيطو، فان هذه الفلسفة قد اختزلت هي ايضا حقيقة يقينية وجود الله في القانون الانف الذكر : « انا موجود، اذن فالله موجود «، الذي تعتبره حاسما في اثبات هذه الحقيقة، اثباتا لا يتطرق اليه الشك، على اعتبار ان من ينكره أو يشك فيه، سيؤدي به ذلك الى السقوط في الزعم بكونه موجود بارادته وبتدبيره الشخصي، أي انه هو خالق نفسه بنفسه، والمخبول كما يبدو هو من يجرؤ على ادعاء مثل هذا الزعم. وخلاصة القول ان هذا الانسان الكامل، القابع فينا يدعونا دائما وابدا الى رحابه، بواسطة سؤاله « من أنا « الذي ينبعث صوته الخافث من اعماقنا، لكننا لا نسمعه الا في بعض الاوقات النادرة التي نختلي فيها بأنفسنا، مبتعدين عن صخب الحياة وهمومها . ومن الراجح ان الكثيرين منا قد حاولوا البحث عن جواب هذا السؤال، غير انهم عندما غاصوا في فكرهم، بحثا عنه، بدا لهم فضاء هذا الفكر مظلما، فاعتقدوا انه خال من أي شئ، حينداك سرعان ما عادوا ادراجهم منه، فغرقوا من جديد في مشاغل حياتهم اليومية العادية، مسترسلين في قضاء حياتهم دون ان يحققوا فيها ذاتهم الحقيقية، أي دون ان يتحولوا فيها من الانسان الناقص، الى الانسان الكامل . والملاحظ أن وضع المرء مع حقيقة هذا الإنسان الكامل الخفي، ومع سؤاله « من أنا»، شبيه الى حد كبير، بوضع الكفيف مع برتقالة مقشرة بداخل صالون كبير، ذلك انه مثلما يشم هذا الكفيف رائحة البرتقالة، ولكنه لا يعرف مكانها في الصالون، يسمع المرء كذلك نداء سؤال هذا الإنسان في اعماق فكره، لكنه لا يعرف حقيقنه. بيد ان هناك بض الناس القليلين جدا يظلون مثابرين في الغوص في اغوار فكرهم، بحثا عن جواب سؤال « من أنا «، أو عن غيره من الاسئلة الوجودية المنقوشة في كينونة الانسان، وذلك الى ان يصلوا فجأة الى ضالتهم، فيعودون من هذا التأمل العميق، وقد غمرتهم المشاعر المشتركة التالية : إحساسهم بسعادة فائقة يصعب عليهم وصفها. شعورهم بالامتلاء بمعارف أصيلة، تبدو لهم أقوي وأسمى من التي اكتسبوها في حياتهم. إحساسهم برغبة إشراك غيرهم في متعة سعادتهم، ومعارفهم الجديدة. هذا ويمكن اعتبار كتاب « هكذا تكلم زرادشت « للفيلسوف نيتشه، نمودجا مثاليا يؤكد صحة الاحساس بهذه المشاعر، ذلك ان هذا المفكر بعدما صعد الى جبل الاولمب، وغاص في اغوار فكره هنالك، بحثا عن الانسان السامي المشغول ذهنه بكيفية احياء فكرته في الوعي الانساني، فقد انتابته هذه المشاعر وعبر عنها بهذه الابيات : « جلست هناك انتظر ولا انتظر شيئا وانعم بما فوق الخير والشر فانعم بالضوء ثارة وبالظل طورا ولم اجد الا نهارا وبحيرة وظهيرة وزمانا ابديا وفجأة يا صديقي أصبح الواحد اثنين ومر بي زرادشت. وقال ايضا : « ايها النجم العظيم الساطع، ما عسى ان تكون سعادتك لو لم ينعم العالم بضيائك « ثم قال كذلك : « ها .. لقد اعيتني حكمتي، واصبحت كالنحلة التي جمعت من العسل كثيرا، اني بحاجة الى أيد لجمعه « اذن، لا جدال في ان المغزى الحقيقي للفظتي العسل والضياء الواردتين في قوله، هو تعبير رمزي عن الحقائق التي ادركها في اعماقه، فأحس نتيجة ذلك بامتلائه بالمعرفة، كما تمتلئ النحلة بالعسل، وكما يمتلئ النجم بالضياء. لقد تحدث الفيلسوف وليام جيمس في كتابه « العقل والدين « عن الاصوات الصادرة من عمق الفكر، مؤكدا انه حينما يصفو الذهن صفاء تاما، يحس الانسان باصوات باهثة تنبعث من اعماقه، وانه عندما يذهب بعيدا في هذه الاعماق للاقتراب من مصدرها، تأتي لحظة يجد فيها نفسه وسط امواج غامضة تحمله الى افاق بعيدة، حيث نقشت الحقائق الازلية للحياة، مشيرا ان هذه اللحظة سرعان ما تنجلي، فلا يدري المرء كذلك كيف سقط من تلك السماوات العلا، الى ارض الواقع الصلبة. وبالفعل فما تحدث عنه هذا المفكر سبق للفيلسوف الهيليني افلوطين ان اختبره شخصيا، حيث تم وصف تجربته في كتاب « التاسوعات « بما يلي : ان نفس الانسان في بعض الحالات النادرة، لاتدري كيف انسلت من الجسد الى امواج الروح، التي ترتقي بها الى اعلا عليين، فتغرق هنالك في بحر غير محدود من الانوار، تعود منه ممتلئة بالمعرفة . اما عن السعادة المطلقة التي يشعر بها المرء حينما يرتقي الى فضاء الانسان الكامل، فيمكن ان نستدل عليها بتجربة سيدهارتا بودا الذي كان – كما يروى عنه – مشغولا بالبحث عن سعادة الانسان، وعن خلاصه من شقاء الالام الازلية للحياة، فقاده التأمل ذات يوم تحت شجرة بجوار نهر « الكانغ»، الى الغوص بعيدا في اغوار فكره بحثا عن حل للمشكلة التي تؤرقه، فانتهى به هذا التأمل العميق الى فضاء غامر بالسعادة الفائقة، حينداك اعتبر الوصول الى هذه السعادة التي اطلق عليها « نيرفانا «، هو الهدف الحقيقي في الحياة، الذي يتخلص به الانسان نهائيا من بؤس تلك الالام. واعتقد ان ثبوت احساس بعض الناس قديما وحديثا بهذه السعادة، هو ما جعل بعض علماء النفس المعاصرين يعترفون بها كشعور حقيقي صادق، البعيد كليا عن الهلوسات أو عن الخيال المزيف، بدليل ان الفيلسوف كارل يونج أطلق على هذا الاحساس اسم « الشعور العظيم «، وسماه المفكر ابراهام ماسلو، «الشعور بالحرية «، كما وصفها المفكر رومان رولاند بمسمى « الشعور الخالد «. غير ان بعض الروحانيين الذين ذاقوا حلاوة هذه السعادة، من غير ان يدركوا كيف ارتقوا الى سماواتها العلا، ولا كيف سقطوا منها الى ارض الواقع الصلبة، كما قال وليام جيمس، فانهم ابتدعوا طرقا مختلفة، واحيانا رياضات غريبة وشاقة، مدعين ان ممارستها تسمو بالمرء الى عالم الاسرار والانوار والحكمة. لكن لما كانت هذه السعادة كامنة اساسا في الفكر المحض، كما سلف الذكر، فان الوصول اليها في تقديري لا يتم بأية ممارسة اخرى قولية كانت أو حركية، غير التفكير الداخلي الهادئ والعميق، أي الغوص في دواخل هذا الفكر، لاكتشاف ما يزخر به من درر الحقائق الخالدة للحياة. ويمكن القول اجمالا ان نظرية الوجود بالقوة والوجود بالفعل، التي جاء بها الفيلسوف ارسطو، ان كانت قد أثبتت ان الصبي هو رجل بالقوة، في طريقه الى التحول الى رجل بالفعل، عندما يكبر، فان محددات تحول الرجل أو المرأة من انسان ناقص الى انسان كامل، يمكن – استناذا الى الحيثيات السابقة – تلخيصها فيما يلي : الادراك بان النظام القار لحياة الانسان، منقوش سلفا في اعماقه، وبالتالي فانه مثلما تنمو نواة الشجرة بهدوء وثقة لتحقيق ذاتها في الوجود، بتوجيه من نظام حياتها الكامن في اعماقها، كذلك الانسان يرتقي الى تحقيق ذاته، بتوجيه من نظام حياته. الوعي بان قواعد هذا النظام تتمثل في مكارم الاخلاق الحميدة، وفي مبادئ القانون الكوني، وأسس العدالة، وغير ذلك من الحقائق الخالدة المنقوشة في اعماق الانسان. اعتبار انه ان كان سابقا يدرك كباقي الناس، ان قوة التغدية هي التي يتحول بها الانسان من صبي صغير الى رجل كامل، أو الى امرأة كاملة، فانه أصبح الان يدرك ان العمل بقواعد نظام حياته، هو ما يشكل القوة الفطرية الدائمة، التي يتحول بها المرء من انسان ناقص الى انسان كامل. الاقتناع بان نور الفكرالحر، هو الطريق الوحيد الى معرفة الانسان لنظام حياته القار. الاقتناع كذلك باقتران تحقيق السعادة، بتحقيق الذات المتمثل في تحول المرء من انسان ناقص، الى انسان كامل. الشعور بذات الانسان الكونية، التي يدخل ضمن مكوناتها كل موجودات الكون، وليس فقط الجسد الصغير للمرء، وما يرتبط به من افراد الاسرة، أو العشيرة، أو مواطني بلاده، أو اخوته في الدين، أو الجنس، أو اللون، أو اللغة، أو غير ذلك من الروابط الاجتماعية الاخرى. وبعد. فهل كل من لم يجسد في حياته، صورة الانسان الكامل المنقوشة في فكره، يعتبر انسانا ناقصا ؟ الصافي مومن علي [email protected] المراجع افلاطون – فيدون – في خلود النفس – ترجمة : عزت القرني – مكتبة الحرية – جامعة عين شمس. برتراند راسل – حكمة الغرب – ترجمة : د. فؤاد وكريا – سلسلة عالم المعرفة – الجزء الاول – طبعة ثانية منقحة ومعدلة – يونيو 2009. مجلة عالم الفكر- المجلد 29 – مقال شروط ومبادئ « الكون والفساد» عند ابن رشد – أ . عزيز بوستا. ديكارت – مقالة الطريقة لحسن قيادة العقل – ترجمة : جميا صليبا – اللجنة اللبنانية لترجمة الروائع – بيروت – الطبعة الثانية – 1970. هنري بيرجسون – الطاقة الروحية – ترجمة : علي مقلد – المؤسسة الجتمعية للدراسات والنشر والتوزيع – بيروت – الطبعة الاولى. دكتور عبد الباري محمد داود – الفناء عند صوفية المسلمين والعقائد الاخرى – الدار المصرية اللبنانية – القاهرة – الطبعةالاولى – 1979. افلوطين – تاسوعات افلوطين – نقلها الى العربية : الدكتور فريد جبر- مكتبة لبنان ناشرون – الطبعة الاولى – 1997. وليام جيمس – العقل والدين – ترجمة : محمود حب الله – دار الحداثة للطباعة والنشر والتوزيع – بيروت. انطوني سطور – الاعتكاف عودة الى الذات – ترجمة : يوسف ميخائيل – نهضة مصر للطباعة والنشر – 1993. نيتشه فريديريك – هكذا تكلم زرادشت – ترجمة : المكتب العالي للطباعة والنشر – بيروت. والبولا راهولا – بودا – ترجمة : يوسف شلب الشام – ورد للطباعة والنشر والتوزيع – دمشق – الطبعة الاولى – 2001. الصافي مومن علي – الطريق الذهبي ( فلسفة أبروك ) – النسخة العربية – الطبعة الاولى – 2012.