بمجرد ولوجنا مصلحة الطب النفسي صبيحة يوم الخميس، فتحت الأبواب مرحبة بالزوار ،كانت في استقبالنا رئيسة المصلحة الدكتورة نادية الداودي ،التي لم تغادر الابتسامة محياها طيلة الجولة بمختلف مرافق المستشفى النفسي . منذ بدأ الاشتغال سنة 2007 وهو يتوسع سنة بعد أخرى ، لتستقبل يوميا أكثر من 30مريضا نفسيا، بطاقة إيوائية تصل إلى 25 سريرا ،ثمانية منها مخصصة للنساء والباقي للمرضى الرجال ، يشرف على علاجهم النفسي طبيبتين وطاقم تمريضي لا يتجاوز 11 ممرضا وممرضة . ما أن فتحت الدكتورة نادية الداودي الأبواب ، حتى تعالت أصوات نساء، وقفن في البهو يتاجذبن أطراف الحديث حول المعاناة والمتمنيات ،أوقف استرسالهم في الحديث دخول الطبيبة المشرفة ،التي اقتربت منها فاطمة « إسم مستعار » التي فك لسانها بمجرد جلوسها على الكرسي ،لم تتمكن الطبيبة من إيقافها إلا بصعوبة بالغة ،بلغة بسيطة بدأت مطالبها » عفاك أمدام الداودي اعطيني رخصة باش نشوف بنتي» لتعدها بالنظر في طلبها قريبا . مشاعر كثيرة اختلطت في حديث فاطمة ،امتزج فيها الحزن ،الفرح، المتمنيات ،والإحباطات ... استرسلت في الحكي بادئ الأمر عن الزواج ،الأسرة ، ثم بعد ذلك عن العلاج . لم تتوقف طوال الحديث عن الحركة والالتفات ،بين الفينة والأخري تحاول النهوض لتعود إلى الجلوس وهي تحكي عن مغامرة الزواج ،بعد طلاقها من زوجها الأول ، تعرفت على شاب ينحذر من منطقة دكالة ،لتقترن به بعدما سقطت في شباك حبه ، كان مجرد عامل بسيط يتقاضى أجرا بسيطا فيما كانت فاطمة تشتغل بائعة بإحدى المحلات، في البداية تميزت علاقتهما بالإستقرار ،لتنقلب رأسا على عقب بشكها المستمر في خيانة زوجها مع أخرى ،ما أن يلج البيت حتى تبدأ في التذمر وتفتيش ملابسه علها تعثر على المبتغى. » راه راجلي واش ما نقلبوش » رددتها وهي تحملق في الوجوه علها تجد مساندة لتستمر في الحكي بتوتر » أنا كنبغي راجلي بزاف هذاك الشي علاش كنبقى نسولو» لتقاطعها الطبيبة بسؤالها الذي جعلها تسهب في الحديث دون توقف » و لكن كان كيضربك » أتى الجواب الذي لخص الآلام والمتاعب » جابني ورماني هنا وما بقاش كيسول في » لتفصح عن مشاعر الغضب والخيبة من زوج تركها تواجه المرض دون سند أو دعم. مازالت صورة ذلك الزوج وهو يزور زوجته ماثلة أمامها ، عندما ترك الهاتف بالقرب من سريرها وهو يردد على مسامعها » خودي البورطابل باش نبقى نتصل بك » في حين لم يزرها زوجها منذ ذلك اليوم التي أودعت فيه المستشفى، ظلت باقي المريضات ، تتابع باهتمام حكايتها المليئة بالحزن والألم ،فبسبب النزاعات والمشاحنات بدأت تفقد فاطمة نعمة النوم ،لتنهض مفزوعة تبحث عن ابنتها الرضيعة والخوف يستحوذ عليها،فيقوم زوجها غاضبا طلبا منها الهدوء والكف عن إزعاجه، اعتقدت في البداية أن المشكل ناتج عن حرصها الشديد على ابنتها، التي بالكاد أكملت العام .لكن المخاوف ازدادت ليغادر النوم جفونها بعدما سيطر عليها الأرق.لينشب الشجار بينها وبين زوجها، جعلها تعاني اضطرابات نفسية حادة ، حثمت علاجها بمستشفى للأمراض النفسية بعدما بدأت سلوكاتها الغريبة، تحدث حالة من الخوف والترقب من أي سلوكي عدواني سواء اتجاه زوجها أو ابنتها الرضيعة ،انطلقت رحلة البحث عن الأسباب والعلاج والتنقل من طبيب إلى آخر طمعا في التحسن الكامل والعودة إلى الحالة الطبيعية. فكانت زيارة الطبيب النفسي ضرورة حتمية بعدما استحوذت عليها الوساوس، وعجزت عن مسايرة إيقاع الحياة بشكل طبيعي. الوسواس القهار لا تدري سعيدة « إسم مستعار » كم مضى عليها من الوقت وهي بهذه الحالة ،بالها مشغول دائما بالتنظيف وتهييئ الطعام وهي عملية تجري بدقة و حسب طقوس ثابتة، وذلك لكي تطمئن بنفسها على إزالة كل أثر للأوساخ . ولكي تحصل على مثل هذه النتيجة فهي تتبع روتيناً ثابتا،جعلها تنهض ليلا لتتأكد من عملية النظافة. لكن العملية بالنسبة لسعيدة لا تسير دائما بصورة مقنعة،لكونها غالبا ما تشك أنها نسيت مساحة ما ،ما يستدعي إعادة العملية مرة أخرى للإطمئنان. سعيدة تجاهد نفسها لإتمام العملية بصورة متكاملة. الأمر لا يقتصر على التنظيف بل يتعداه إلى عملية الاستحمام والغسيل، التي تتعرضان لنفس الشكوك التي تقود إلى التكرار،لم تستطع توسلات ” » والدتها عن ثنيها من الاستمرار « ابنتي بارك عليك من هاذ تمارة كملي خلاص باش ترتاحي ما أن تنتهي حتى تعود مرة ثانية لنفس العملية وبحماسة أكثر. من عادة سعيدة ، أن تأخذ حمامها يوميا في المساء بعد انتهائها من عملية التنظيف والطبخ، وبعد أن يذهب الجميع إلى فراشهم للنوم. في مثل هذا الوقت تغادر سعيدة المنزل إلى الشارع، ولا تعود إليه إلا صباحا، لتستلقي علي الفراش بعدما لم تستطع مقاومة النوم ،لتريح جسدها المنهك من الجولان بالشارع دون تعب أو كلل . سعيدة جاوزت الأربعين من عمرها،تعيش مع أسرتها المكونة من والدتها وشقيقيها اللذان يصغرانها في السن. تقضي معظم الوقت حبيسة أربعة جدران ،ليس لها صديقات بل تفضل عدم الاختلاط بالغرباء ،لها عادات وتصرفات غريبة منها هوسها بالنظافة والغسيل، لا تشعر بالتعب إلا نادرا تتفادى الحديث مع أقرب الناس إليها ، تنتابها وساوس ،تأتيها على شكل أفكار أو صور ذهنية ذات طبيعة سخيفة أو تافهة وأحيانا شاذة ،تحاول التخلص منها بالتجاهل أو الطرد لكن دون فائدة وهو ما يزيد من قلقها وألممها . والدتها كانت تتضايق كثيرا من هوسها بالنظافة وخروجها المتكرر في » نصاص الليل »، تجوب الشوارع والأزقة دون هدف،لتعود إلىالمسح والغسيل وإعادة ترتيب محتويات غرف المنزل لمرات عديدة حاولت معها والدتها كثيرا ،فقد عرضتها على مجموعة من « الفقهاء » الذين كانوا يتلون عليها آيات من القرآن لعلاجها من المس ، لكن بعد استنفادها لكل الطرق الشعبية، زارت مستشفى بوافي للعلاج من الوسواس القهري ، فبدأت العلاج النفسي والسلوكي عن طريق برنامج يساعدها على السيطرة على الوساوس، وتفادي كل ما يقلقها ويجعلها، تميل إلى ممارسة أي فعل بصورة قهرية. أمضت سعيدة الآن ثلاثة أشهر وهي تتناول الأدوية يانتظام،فبدأت تخف حالة القلق والوساوس أملا في الشفاء مع استكمال العلاج . الملل والوحدة بدت هادئة وهي ممدة على السرير في غرفة مظلمة، تتسلل إليها خيوط الضوء عبر النافذة ،أول ما رأتنا استنهضت قواها وجلست بجانب السرير، تحكي مسار حياتها الطويل. الحديث اقتصر على الأحزان التي تحولت إلى أوجاع،جعلت الشيب يزحف على رأسها بفعل المشاكل التي صادفتها في حياتها كما تقول . ،بعدما فقدت زوجها وقدرتها على العمل ك « كسالة » استقرت بمنزل ابنتها ،تركت دون رعاية أو اهتمام، فبدأ الحزن يتسلل إلى قلبها والإحساس بالفراغ والملل والوحدة وعدم القيمة، فقدت معها المتعة في الحياة ليصاحبها تعكر في المزاج ،مشاعر أعاقت مضيها في الحياة بشكل طبيعي ،فلازمها الألم على مستوى الرأس بشكل دائم ومسترسل « الصداع في راسي كنحس به يوميا ما كيبغيش يفارقني » فتوجهت إلى عيادة الطبيب الذي بعد إجراء سلسلة صور وأشعة، تأكد أن أصل الداء نفسي وليس عضوي، دفعها إلى طلب العلاج بالمستشفىلأكثر من ثلاث مرات هذه السنة ،ليراودها إحساس بأن الشفاء مازال طريقه طويلا . ، غادرنا المريضات يواصلن حديثهن ،لنتوجه نحو جناح الرجال، بمجرد دخولنا أوقفتتها سحابة دخان غطت سماء الغرفة ، حيث جلس العشرات من المرضى، وعيونهم مشدوهة صوب التلفاز فيما انشغل الباقي في حلاقة دقونهم وغسل الأطراف ، كان الولوج إلى القاعة رفقة الطبيبة المشرفة على القسم،كافيا ليثير اهتمامهم ،ليتحلقواحولنا ،كل منهم يريد الاستحواذ بالحديث . ما أن اقتربنا منه حتى تغيرت ملامح وجهه النحيف ، وأصبحت عيناه جاحظتات وشفتاه متصلبتان ،حاول بادئ الأمر أن يتحدث عن خلاف غير مفهوم مع أسرته ،خاصة إخوته الذين يعاملونه بقسوة بعدها انتقل إلى الحديث عن مشاكله، ليدخل في نوع من «الدخول والخروج في الهضرة » ثم استرسل في سرد قصته الأشبه بالأفلام، من حين لآخر يقف ويطلب منا تركه لأنه »عندو مهلة ديال التفكير » ليعود إلى وساوسه وخيالاته الغريبة، روايات متعددة ومتداخلة تفسر بشكل انطباعي معاناته مع اهتزازات نفسية، هي على ما يبدو نتيجة مشاكل أسرية معقدة وصعبة، يرويها وهو على يقين بأنها حقيقة لا جدال فيها، حيث يرفض أي تعليق أو مقاطعة لكلامه، لينتقل بشكل تصاعدي في ثرثرة تخوض في مواضيع متعددة، تارة تكون مترابطة وأحيانا كثيرة تبدو غامضة. هذا الكوميسير حسب اعتقاده الراسخ، تمكن بفضل ما قام به من تحريات من اعتقال أعتى المجرمين، لذا فهو مهدد في حياته ومستهدف من عائلته وأقاربه،و مضطهد من قبل الآخرين وذلك لكونه شخص مهم للغاية ،يسعون باستمرار إلى إيدائه والحط من قيمته . الكوابيس لم تعد تفارق مخيلته، وهو يضع رأسه علي الوسادة طلبا للراحة، حيث يقفز أكثر من مرة من فراش النوم خوفا من احتمال تكرار السيناريو، الذي ظلت الأشباح تحوم حوله ، كلما استشعر أي حركة بجواره أو على مقربة منه إلا وصاح بصوت عال طلبا للنجدة ،أشباح تجعل منه إنسانا آخر كثير العويل والصراخ، ووتنتابه حالة من الارتجاف التي أضحت تلازمه بشكل دائم. فيما استمر الحديث إذ بشيخ مسن يتجول في باحة المستشفى ،يعاني الخرف يزوره من حين لأخر بعض الأقارب بعدما تخلى عنه الأبناء والأصدقاء ،حوارنا معه اتسم بالصعوبة فتركناه لعالمه الخاص وانتقلنا نحوالشاب الذي لم يتجاوز عمره العشرين سنة سألناه عن سبب وجوده ،فجاء جوابه محددا ودقيقا » أنا مدمن على الحشيش » ليتلوه السؤال المشروع » واش غير الحشيس بوحدو ولا كاينة شي حاجة أخرى » ليأتي التأكيد بتعاطيه إضافة إلى الحشيش المعجون والقرقوبي ،إدمان جعله يفقد السيطرة على تصرفاته وسلوكاته، التي اتسمت بالعنف والعدوانية،أضحى معها العلاج ضرورة حتمية للتخلص من العدوانية ، وبما أنه من أسرة فقيرة، استعسر عليه أداء ثمن الولوج إلى مركز محاربة الإدمان. ،ليجد الأيادي ممدودة حيث الرعاية والعلاج النفسي بالمجان . شاغل سعاد تصوير :محمد الوراق