يحتار المرء في تتبعه للمشهد الثقافي، فيجده زئبقيا منفلتا من أنامله دون إدراك سر ذلك… يلاحظ رفوف المكتبات والأنشطة الثقافية والفنية المتنوعة التي تملأ القاعات والفضاءات، لكنه لا يزال يتساءل عن الدور الذي يجب أن تكونه الثقافة مجتمعيا، كيف هو بالضبط ؟ يسائل القراءات النقدية المتعلقة بالوضع الثقافي، فيجد أجوبة متباعدة في أشكال الحلول و التصورات، متلاقية في تحديد إطارِ واقعٍ متأزمٍ و متعثر لدور الثقافة الإيجابي في حياة الإنسان.. لعل منطلق جعل السياسة الثقافية إيجابية هو جعلها طبعا في خدمة الانسان… وحينما نتكلم عن الانسان فإننا ننقله مع الثقافة من الطبيعة إلى الوضع الاعتباري الذي يؤهله للتمدن والتحضر والتثاقف مع باقي أفراد جنسه … ننقله كإنسان ثقافي إلى وضع حقوقي تسوده كرامة محترمة وأساسيات عيش مضمونة … نحترم خصوصياته وأساليب عيشه، كما نقدر ظروفه التي أنتجت وعيه ونمط حياته … ولأجل ذلك فإننا نضع ما نتوفر عليه من إمكانيات ووسائل وسياسات في خدمة هذا الإنسان المتعدد الثقافات والمتنوع البيئات واللغات والثقافات… من هذا المنطلق الشمولي العام يأتي تتبعنا للسياسة الثقافية في مشهدها المغربي و ما يؤطره من تصورات متراكمة عبر تفاعل ثقافات وسياسات وتأثيرات، فيها السياسية وفيها الجيو سياسي الإقليمي والدولي والتاريخي… ترتبط السياسة الثقافية بالسياسة المجتمعة بشكل وثيق، حيث نجدها متجسدة في تصور البرنامج التعليمي، وفي تسطير السياسة السياحية والرياضية والصحية وغيرها من السياسات التي تشتغل على الإنسان الذات والوعي والسلوك… هي قطاعات متعددة إذاً، متداخلة في الاهتمامات والسياسات . ولا يمكن تصور نجاح سياسة ثقافية معينة، ما لم تراعِ هذا التداخل و التقاطع، ما لم تكن شمولية في التصور والتكامل والتنسيق بين مختلف مكونات الإدارة السياسية والحكومية والمشاريعية… إن تصور التنمية المجتمعية، ينطلق من جعل سياسة شاملة تخدم الجميع أفرادا وجماعات… تنمية تجعل المبادىء عادلة وصادقة، مراجعة لكل الخطوات التي قد نرى تقليصها للدور الذي ننشده لمشروع مجتمعنا المغربي الحضاري والتاريخي … وبذكر المشروع الحضاري، نستحضر مدى تصور حضور الوعي بتكوين مغرب مستقل، بارز على الصعيد الدولي والتاريخي كفاعل ومتميز بفلسفته ومساهماته في مختلف الميادين .. معتز بخصوصياته وفارضا الاحترام لها من طرف ذاته أولا ومن طرف الآخرين… فحينما يقف هذا الشخص، تقف معه فلسفة حياة مندمجة مع الإنسانية، مستقلة في لون تحقيقها والتعبير عنها… هو حلم يحتاج إلى بناء ضخم، يبدأ من الأسس الصغيرة للتربية والتأهيل والتوعية، وينتقل إلى المساهمة لبنِة لبِنة، حتى يراكِم كميا ونوعيا تميزَه وانصهارَه في البعد الثقافي والحضاري الإنساني… لا ننسَ أننا نجتر واقعا متخلفا عن الاستقلالية، كما عن الركب الحضاري … واقعا، نأسف لوصفه بأنه صَغّر من قيمة النسان المغربي، وجعله في خدمة سياسة تبعية استعمارية تخندقه في صورة فولكلورية يستأنس بها الإنسان الغربي في تجسيد مركزيته وتفوقه، وتبرير مشروعه الأمبريالي الذي يتطور مع العولمة المكتسحة للفضاءات الجغرافية والبشرية جمعاء … هذه التبعية، جعلت الطبقات الحاكمة والواقعة تحت تأثير المصالح، تكرس سلبيات المشهد الثقافي، وتهمش من مشاريع التنميةِ والتطور، فئاتٍ وجهات مختلفة، بحكم الأولويات، وبحكم غياب الوعي الصحيح والعادل بما يجب أن تكون عليه السياسة الثقافية في بلادنا… نجتر كذلك واقعا معيشيا مريرا وفقيرا لفئات عريضة من الشعب المغربي، اضطرتها السياسات وكذا التبعية الاقتصادية إلى تلقي فاجعة صورة بلد معروض للبيع والاشتهاء من طرف دول البترو دولار، التي رأى الخارجون فيها من جفاف الصحراء جنات عدن الدنيا يستمتعون فيها بخلفيات غرائز الحياة، فكان لهم بفضل الإكراميات تسهيلات في السياحة والإقامة والعمالة واستقبال الخدمات… ما شَكّل صورة ثقافية نمطية، ما فتىء المثقون يحذرون منها كل حين … ما زال دور المؤسسات الثقافية محاصرا بميزانيات هشة تقزم من فاعليته، وتحجم تأثيره، وتخلق وعيا بدونيته… هذا الوعي الذي يكرس أحكام قيمة على الثقافة والفكر والأدب والفن والإبداع عموما.. وكلها أشكال راقية للتعبير عن مسار صحيح للتطور الحضاري السليم..، غائبة عن التصور السليم والصحيح. إن الاجترار القائم الآن لسياسة ناقصة في تعاملها مع الشأن الثقافي يأتي من غياب وعي وإرادة وسياسة ناضجة وديمقراطية يشارك فيها الجميع بمختلف الأطياف الثقافية والحزبية والجمعوية، من مؤسسات المجتمع المدني والتي هي خير معبر عن القاعدة المجتمعية … لا زالت ممارسة الفن و الثقافة قروسطية عندنا … حيث نشاهد الميزانيات الضخمة في الانشطة المرتبطة بالغرائز قبل الفن والابداع والوعي والسلوك الحضاري المعبر… فحينما تثار الغرائز يتقلص دور الوعي الذي به يتميز الانسان، فتجدنا نغدق بالهدايا و الاكراميات… و هو سلوك الاعيان في الترف و رغد العيش، سلوك الرمي بالاكياس من الدنانير على صدر المادح بابيات شعرية، أو مغنٍّ بامجاد منسية، أو بطن مهتز بإثارات جنسية موحية … وكلنا تربينا على هذه المشاهد في السهرات الاسبوعية مثلا، حتى إنها أصبحت رمزا للثقافة والرفاهية التي قد تجعل الفرد يخسر كل ما يملك من اجل التعبير ولو لليلة عن فرائسه فيها.. هي مسؤولية توظيف وسائل الاعلام كذلك، والتي لم ترقَ بعد الى وظيفة تهذيب وتربية الذوق السليم، ونوعية المشاهد الى ما به يتحول الكبير قبل الصغير الى شخصية متمدنة ومتحضرة… وللأسف، فالمسلسلات الرخيصة،وكذا التقارير الضعيفة والفارغة من كل عمق موضوعي وعلمي ونقدي عقلاني في نشرات الأخبار … كلها تترك المتلقي دون مستوى الأحداث والوعي المناسب في التعامل معها كفرد مثقف واعٍ مطلوب منه الانخراط في مشروع حضاري مجتمعي متطور … ففرق بين التدجين بخطاب جهالة مستمر، والتكوين بخطاب نقدي متطور ومتقدم. وبالعودة إلى منطلق التحليل، نسجل أن السياسة الثقافية لن تكون ناجحة ما دامت تقتات من فتات الميزانيات العمومية … قد نحتاج الى تشبيه يسهل الفهم للفكرة … يرى الواحد منا بيع ممتلكات لأجل تكوين وتعليم أولاده ومساعدتهم على متابعة الدراسة بجامعات كبرى … بينما يرى آخر تكديس الرأسمال بالعقار والاراضي وغيرها.. تأمينا من الفقر الذي ينغرس كثقافة مهددة في لاشعورنا ولا وعينا … فنقول أيهما أفضل ؟ طبعا التربية المهتمة بالإنسان وتكوينه ووعيه (رأسمال المستقبل) .