كثرت التأويلات بشأن تعيين فؤاد عالي الهمة مستشارا ملكيا، وتأرجحت رؤى المحللين بين رؤيتين مختلفتين: الأولى ترى أن الإسلاميين حسموا الصراع لصالحهم واضطر الهمة أن ينهي تجربة المشروع الحزبي السلطوي ويبتعد عن المشهد السياسي، ورؤية مقابلة ترى أن تعيين الهمة مستشارا ملكيا هو إعلان لاستمرار الصراع وأن الإسلاميين حتى وهم في الحكم لن يكونوا بمأمن عن تدخلات ذات المشروع السلطوي. بالنسبة إلي، السياسة لا تبنى على النوايا ولا الظنون، وإنما تتأسس على الوقائع أو على الأقل على الإشارات. نملك اليوم ثلاث حيثيات أساسية وردت في بلاغين، الأول لوزارة القصور والتشريفات والأوسمة، والثاني بلاغ للسيد فؤاد عالي الهمة. أما الحيثية الأولى فتتمثل في التعيين للملكي كمستشار له، وأما الحيثية الثانية وهو تبرير هذا التعيين بخبرة الرجل في مهام أسندت إليه في السابق، والثالث هو إعلان الاستقالة من حزب ألأصالة والمعاصرة ومن رئاسة بلدية بن جرير. سنكتفي مؤقتا بتحليل هذه الحيثيات باعتبارها وقائع معينة. ومع أنها غير كافية إلا أنها دالة، تصلح للبناء عليها. أما الحيثية الأولى، فأكبر دلالة يمكن أن نخرج بها هو أن المؤسسة الملكية تكيفت وتأقلمت مع المقتضيات الدستورية التي لم تعد تسمح إلا بسلطات واضحة نص عليها الدستور. فالسلطة الخفية التي كان يتمتع بها المحيط الملكي لم تعد مقبولة بمقتضى الثقافة السياسية الجديدة التي أسس لها الدستور الجديد. هل معنى ذلك أن هذه السلطة ستختفي؟ بالتأكيد، لن تختفي، ولكنها ستظهر بشكل جديد. أي أن هناك محاولة لإعادة بناء هذه السلطة بما لا يجعلها مناقضة لمقتضيات الدستور الجديد. بعبارة أكثر وضوحا، إن الصراع اليوم بين الإرادة الديمقراطية والإرادة السلطوية لن تكون بذات الأدوات التي تم استعمالها في السابق أي باستعمال القرب من المحيط الملكي، أو استعمال الرأسمال الرمزي لتوجيه الحياة السياسية ضدا على الإرادة الديمقراطية، وإنما سيتم استحداث أدوات جديدة ضمن قواعد لعبة جديدة في الصراع. الخلاصة المستفادة من هذه الدلالة أن الصراع لن يتوقف، ولكنه سيأخذ أشكالا جديدة، والمشروع السلطوي أيضا لن يتوقف، ولن ستكون له تجليات جديدة تناسب التحولات السياسية التي طرأت على المشهد السياسي الذي يتميز بصعود الإسلاميين وتدبيرهم للحكم. أما الحيثية الثانية، فلها أهميتها، لكن للأسف لم يعطها المحللون عناية كبيرة، فقلما يتم تبرير تعيين لمستشار ملكي وذكر مواصفاته ومؤهلاته، فقد سبق أن عين السيد عزيمان ولم يتم إبراز مؤهلاته في نص بلاغ التعيين، لكن هذه المرة تم التنصيص على مؤهلات السيد الهمة وخبرته في مهام أسندت إليه. ما الدلالات التي يمكن قراءتها في هذا التنصيص؟ مؤكد، أن القصر يتفاعل مع الحراك الشعبي، ومؤكد أيضا أنه استمع إلى تطلعات شعبية تطالب بإزالة رموز في الدولة، ومؤكد أن القصر يعرف أن السيد فؤاد عالي كان من هذه الرموز التي تم الإشارة إليها بقوة. قد يفهم من نص البلاغ نوع من التبرير لهذا الاختيار، وأيضا نوع من الاستماع إلى نبض الشعب، وكأن العبارة، إنه كان بالإمكان الاستغناء عنه مطلقا، لكن في هذه الظرفية، أقصى ما يمكن فعله هو أن يبتعد عن المشهد السياسي والحزبي، وأن يدخل إلى دار المخزن، لأن المخزن لا يزال راغبا في خبرته خاصا في المجالات التي أسندت إليه. هذه قراءة واردة، وهي إن صدقت، فمعناها أن السيد عالي الهمة لن يتدخل في عملية تشكيل حكومة عبد الإله بنكيران ما دامت غير قادرة على استجماع أغلبيتها إلا بالحركة الشعبية، أي من حزب لا يملك قراره السياسي. لكنه لن يكون غائبا عن الاستحقاقات الجماعية، فالرجل لم يعين إلا لخبرته في المهام التي أسندت إليه. وملف الداخلية، وبشكل خاص الانتخابات من بين أكثر الملفات التي باشرها السيد فؤاد عالي الهمة. هل معنى ذلك، أنه في اللحظة التي غاب هذا الرجل عن الصناعة القانونية للانتخابات حصل ما حصل، ولذلك عين حصار سفيرا، وتم بعث رسالة إلى من يهمه الأمر بأن الانتخابات الجماعية لن تكون أبدا ومطلقا مثل الانتخابات الجماعية؟ لا نغامر بالإجابة عن مثل هذه الأسئلة، لأن الحقل السياسي لا يزال مفتوحا، ولا تزال اللعبة ممتدة بين الفاعلين السياسيين، وربما يدخل في المغرب في مسار جديد من التدافع السياسي محكوم بمنطق آخر لا يزال يخضع لعملية التأسيس. أما الحيثية الثالثة، فتتعلق بالاستقالة من حزب الأصالة والمعاصرة. المحللون السياسيون، والفاعلون أيضا رأوا في هذه الاستقالة تحقيقا لمطلب سياسي طالما طالبوا به حتى يتم إيقاف إقحام الملكية في الصراع السياسي والحزبي، فإعلان الاستقالة يحمل معاني الابتعاد مطلقا عن الفعل السياسي الحزبي، ويعني أيضا نهاية مشروع كان يراهن على تنويع تجليات الفاعل الأساسي في اللعبة السياسية، أو للدقة، نهاية مشروع كان يحاول أن يزيد إلى دور الفعل المركزي، دور الفعل من داخل الحقل الحزبي، حتى تحصل الفاعلية من الجهتين معا. مؤكد أن هذه القراءة لها مستنداتها، لكن مؤدياتها الاستشرافية صعبة التصديق، فأن يقتنع المواطن أن حزبا مثل الأصالة والمعاصرة ولد لكي يتم التخلي عنه بهذه السهولة، فهذا أمر أقرب إلى العبث السياسي منه إلى منطق السياسة. هل معنى ذلك أن حزب الأصالة والمعاصرة انتهى؟ أبله من يعتقد ذلك. لم ينته حزب الأصالة والمعاصرة، ولكن اللعبة كلها تغيرت، تغيرت قواعدها وشروطها، وتم الرجوع إلى النسخة الأولى التي لم تنجح، وتم تجنب الأخطاء والاختلالات التي كانت السبب في فشلها. في بداية المشروع السلطوي تخلف الاتحاد عن الانضمام بسبب الخلط، فهل يزول الخلط باستقالة الهمة من حزب الأصالة والمعاصرة؟ ليس من قبيل الصدف أن يعلل حزب الاتحاد الاشتراكي موقفه في الخروج إلى المعارضة بمبرر إنهاء حالة الخلط ولالتباس، أو بمبرر إحداث الفرز الضروري في المشهد السياسي الفرز؟ أي فرز؟ طبعا بين التيار المحافظ، والتيار الديمقراطي الحداثي؟ ألم يكن هذا هو مطلب”حركة لكل الديمقراطيين” و”البام” بعدها، وقام القيادي إدريس لشكر يهدد بإحداث جبهة للدفاع عن الديمقراطية؟ ما الذي تغير اليوم؟ شيء واحد تغير، هو استقالة الهمة، وهو الخطأ الأكبر الذي منع النسخة ألأولى من التحقق. نتذكر بالحرف حوار صديق الملك إلى مجلة “تيل كيل”، وهو يتحدث حديث الواثق من نفسه بأن الاتحاد لن يتحالف مع العدالة والتنمية، وأن ما يقوله إدريس لشكر لا يعني إلا نفسه. وقتها هاج الاتحاد، وأصدر بلاغا ينتقد فيه الهمة لأنه سمح لنفسه بالتدخل في الشأن الداخلي للحزب. لكن، ما قاله الهمة هو الذي تحقق، وقد قال ما قال لأنه يعرف حقيقة ما يجري في الاتحاد، بل تدخل وأعطى للسيد لشكر ما كان يريد من وراء رفعخه لشعار “جبهة الدفاع عن الديمقراطية” من أجل أن يتمكن لاحقا من صناعة جبهة أخرى للدفاع عن الديمقراطية !. لم يتحالف الاتحاد مع العدالة والتنمية، وبدأ الاتحاد يتحدث نفس اللغة، نفس المفردات: إنهاء الخلط، إحداث الفرز الضروري. غابت الديمقراطية، وغاب النضال من أجل الديمقراطية، وتم إطلاق الرصاصة الأخيرة على الكتلة. خيال الهمة السياسي لا يزال حاضرا في مشهدنا السياسي. تموت مجموعة الثمانية، هذا لا يهم، المهم أن تنتصر الفكرة. أي فكرة؟ فكرة جبهة للدفاع عن الديمقراطية. من تضم؟ تضم الذين تم ارتكاب خطأ حال دون اجتماعهم. المحصلة، إنه من العبث أن نتصور أن استقالة الهمة من حزب الأصالة والمعاصرة تعني نهاية الأصالة والمعاصرة، وفي المقابل، سيكون من واجب المناضلين والسياسيين والمحللين والمراقبين من اليوم أن يتابعوا تحولات المشهد السياسي، ويحاولوا قراءة المشروع السلطوي في ضوء المفردات الأولى “لحركة كل الديمقراطيين”فتلك المفردات تعكس الأسس التي يقوم عليها المشروع السلطوي، والأسس في كل مشروع لا تغيب ولا تموت حتى ولو تم تغيير الأشكال والصيغ، بل حتى ولو اضطر المؤسسون إلى ترك العمل السياسي الحزبي. بكلمة، لقد تمت العودة إلى النسخة الأولى بعد تجاوز كل الاختلالات التي أفرزتها لحظة التقييم، لكن وفق شروط جديدة أملتها قواعد اللعبة التي أفرزتها المقتضيات الدستورية الجديدة. الخلاصة التي ينبغي أن ينتبه إليها المناضلون، أن الصراع لم ينته، بل ربما بدأ بآليات جديدة وفي ظل شروط جديدة، والتحدي الأكبر اليوم، أن الإرادة الديمقراطية كانت مدعومة بشرعية النقد والمعارضة والاصطفاف إلى الشعب، واليوم أصبحت تتطلب الاصطفاف مع الشعب من بوابة الإنجاز والوضوح.