"ابنكِ عبقري، هذه المدرسة متواضعة جدا بالنسبة له…من فضلك، علَّميه في المنزل" كانت هذه هي الكذبة التي صنعت اسم أديسون مخترع المصباح الذي أضاء العالم. وصاحبة الكذبة لم تكن سوى أمه التي توصلت برسالة طرد ابنها من المدرسة فحورت مضمونها لتشجيع فلدة كبدها على مواصلة تعلمه. كان أديسون يعاني من ضعف في السمع، ما جعله يشعر بالملل في القسم ليصير فضوليا ينشغل بكل ما حوله في فصل الدراسة. كما أن المناهج الدراسية وقتها كانت ترتكز على التعلم بالحفظ مع التلقين، فظنه أساتذته بليدا ومتخلفا عقليا. المضمون الحقيقي للرسالة لم يكتشفه أديسون إلا بعد وفاة أمه بفترة، حين وجد الرسالة وقرأها وهو يبكي بعد اكتشاف مضمونها الحقيقي "ابنكِ مريض عقليا ولا يمكننا السماح له بالدخول إلى المدرسة بعد الآن". تأثر أديسون لِما قامت به أمه فكتب في مذكراته "توماس أديسون كان طفلا مريضا عقليا، ولكن بفضل أمه البطلة أصبح عبقري القرن". هكذا تكون كذبة أمٍّ وراء عبقرية ابنٍ. نقطة تحول كبيرة سيشهدها مسار أديسون في رحلته نحو الاختراعات. فبعد تعطل آلة في بُرصة الذهب كانت وظيفتها تسجيل الأسعار، أتى لإصلاحها مخترع الآلة، ودفع فضول أديسون لعرض المساعدة عليه. بعد أن رأى مخترع الآلة ما قدمه أديسون من مبادرة وذكاء، قرر تعيينه مشرفا على مصنعه براتب شهري مهم. كانت هذه نقطة تحول أديسون للتفرغ بالكامل للاختراع والابتكار. اسم توماس أديسون مرتبط باختراع المصباح الكهربائي الذي أضاء منازل وشوارع العالم وأحدث ثورة عالمية في مجال الإنارة في القرن 19. وهناك من يصفه بأول مخترع للمصباح، والحقيقة أنه واحد من هؤلاء المخترعين وليس أولهم. فالمصباح الكهربائي كان موجودا منذ القدم على يد عدة مخترعين، لكنه كان مصباحا يتوقف عن العمل سريعاً ومكلفا لدرجة لم يكن بالإمكان تعميمه على جميع السكان. هنا يكمن تدخل أديسون بتطوير المصباح الكهربائي وجعله قادرا على الإضاءة لفترات طويلة وبسعر مناسب للجميع. أمّا عن دور أديسون فقد تمثّل في إنشائه عازلا داخل المصباح، وإيجاد الفتيل المناسب الذي يعمل بمبدأ التسخين المعدني لتوليد الضوء، وبالتالي أصبح جهد المصباح أقل. وبذلك ترك أديسون بصمته في جعل المصابيح الكهربائية تعمل لمدة زمنية كبيرة، ليتمكّن فيما بعد من اختراع نظام مولدات كهربائية توّلد الطاقة للمصابيح والمحركات وغيرها. حدث ذلك في أواخر عام 1870م فأصبحت المنازل تُضاء بالمصابيح حتى أصبحت هذه الأخيرة جزءا من حياة البشر. إذا كان المصباح الكهربائي يُنسب رسميا إلى أديسون، فهناك العديد من الأبحاث التي سبقته والتي ألهمت أديسون وأدخل عليها تعديلات ليحصل على براءة اختراع المصباح الكهربائي باسمه. كان من أبرز المحاولات التي سبقت أديسون، أعمال الكيميائي البريطاني -همفري ديفي- الذي تمكن في عام 1802 من الحصول على ضوء قصير الأجل عن طريق تمرير تيار كهربائي من خلال خيط رفيع من البلاتينيوم، لكن ذلك المصباح لم يكن مضيئا بشكل كاف كما أنه لم يكن يعمل لفترة طويلة وتكلفته الاقتصادية كانت عالية، مما تسبب في عدم انتشاره وسط العامة. بعد هذه المحاولة قام العالم البريطاني -وارن دي لارو- في عام 1840 باختراع خيوط بلاتينية ملفوفة في أنبوبِ فَراغ ومرر تيارا كهربائيا من خلاله. وفي سنة 1872 قام الروسي -ألكسندر لوديجين- باختراع لمبةَ ضوءٍ متوهجة وحصل على براءة اختراع روسية سنة 1874. ثم قام الصديقان الكنديان -ماثيو إيفانز- و-هنري وودوارد- بتطوير لمبة الضوء المتوهج ونالا براءة اختراعهم عام 1874 أي قبل قيام أديسون بتسجيل براءة اختراعه بخمس سنوات كاملة. قبل تسجيل أديسون اختراعه بعام، قام الفزيائي البريطاني -جوزيف سوان- سنة 1878 بالحصول على براءة اختراع المصباح الكهربائي حيث استمر مصباحه بالعمل لمدة أربعين ساعة. وهكذا يمكن القول إن كل ما فعله أديسون هو الاستفادة من كل ما توصل إليه هؤلاء العلماء الذين لم يستطيعوا الترويج لاختراعاتهم، إلى جانب إضافة تعديل عليها لجعل المصباح الكهربائي أطول عمرا وأقل تكلفة، قبل تسجيل براءة اختراع مصباحه سنة 1879. لإنتاج الكهرباء اخترع أديسون المولد الكهربائي الذي ينتج الكهرباء المستمر. كان هذا النوع من المولدات غير ملائم لتوسيع شبكة توزيع الكهرباء لأن التيار يضعف مع طول المسافة ويصبح غير قادر على إضاءة المصابيح بعد مسافة كيلومترين تقريبا، وهو ما يتطلب عددا كبيرا من المولدات في كافة أنحاء المدينة. لكن في عام 1888 سيستطيع -نيكولا تِسلا- من اختراع مولدات التيار المتردد وهو التيار المستخدَم في المنازل عن طريق أسلاك التمدد الكهربائي الذي يُستعمل في عصرنا الحالي. اختراع المصباح الكهربائي لا يخرج عن المنطق الذي تحدثنا عنه في الحلقة الأولى والذي يقول إن الاختراعات هي نتيجة تظافر جهود الكثير من العلماء وتراكم التجارب الإنسانية في الكون ككل. فالمصباح لا يمكن أن ننسبه لأديسون وحده، بل إنه نتيجة تظافر سلسلة من الأبحاث والابتكارات أنتجت مصباح أديسون. ولم تقف الحكاية عند هذا الفصل، لأن الشبكة التي اعتمدها أديسون لتوزيع الكهرباء على المنازل، كانت تشتغل بالتيار المستمر الذي يضعف بعد أقل من كيلومترين لتتعذر إنارة المنازل بعد هذه المسافة. استمر الحال على هذا الشكل حتى ابتكر -نيكولا تسلا- مولدات تشتغل بالتيار المتردد ليجد حلا نهائيا لهذه المعضلة التي وقف أديسون عاجزا أمامها. شبكة تِسلا الكهربائية ظلت قائمة وتُستعمل في عصرنا الحالي. فالمخترع ما هو إلا حلقة من سلسة الاختراعات التي تتطور بها البشرية. سعيد الغماز